ففي الغابة التي كانت يومًا موطنًا لمختلف الأجناس حول شجرة العالم، لم يبقَ الآن سوى القليل منهم.
وبما أن أكثر من تبقّى هم الجان، صار الناس يسمّونها “غابة الجان”.
وأشد القوانين صرامةً التي تشترك بها جميع غابات الجان، أياً كان موقعها، هو أنه يُحرَّم إشعال النار داخلها.
ولهذا السبب حتى اليوم يُمنع الشياطين والأورك من دخولها.
تمتمت أرييلا وهي تشاهد الماضي بعينين دامعتين،
“كم هم مساكين..…”
حاول الشياطين الدفاع عن أنفسهم والتوسل بشتى الطرق، لكن بلا جدوى. وفي النهاية طُردوا إلى أراضٍ مظلمةٍ قاحلة لا تصلها أنوار شجرة العالم.
ولم تمضِ فترةٌ طويلة حتى واجه الأورك المصير ذاته، بعد أن تعلموا إشعال النار، سواء بتعليمٍ من الشياطين أو من تلقاء أنفسهم، و لم يكن في ذلك فرقٌ أمام قانون التنانين الذي لا يعرف استثناءً.
تحدّثت باياكيا بصوتٍ عميقٍ وهي تبدّل المشهد من حولهما،
“بعد طردهم من الغابة، واجه الشياطين خطر الفناء.”
كانت الأرض التي نُفوا إليها باردةً قاسية، ومع ذلك كان عليهم أن يعيشوا.
و أخذوا يغرسون في التراب بذورًا سرقوها خفيةً من الغابة، فقد كانت هناك تنبت بسرعةٍ وتثمر ثمارًا مغذية. لكن على هذه الأرض الخالية من الضوء والدفء، لم تنبت شيئًا.
لم ينجُ سوى بعض الأعشاب الخشنة التي تنمو في هذه البيئة القاحلة، وكانت غذاءً للوحوش العاشبة لا للشياطين الذين تطوروا في بيئةٍ دافئة ومضيئة.
اتسعت عينا أرييلا وهي ترى الشياطين الباقين يتجمعون في مكانٍ واحد.
“ما الذي يفعلونه؟”
“إنه ميلاد سحرٍ جديد، قائمٍ على طاقة حياتهم وسحرهم البدائي.”
أمسكوا بأيدي بعضهم ووجّهوا قوتهم نحو السماء، يصرخون من الألم لكنهم لم يتوقفوا.
كان من يفقد طاقته ينهار جثةً هامدة، ومع ذلك كان آخرون يتقدمون ليكملوا ما بدأه رفاقهم، بينما تبكي الأسر والأصدقاء ثم تواصل الطقوس.
تجمعت آلاف الأرواح وملايين خيوط السحر في دوّامةٍ عظيمةٍ صعدت نحو نقطةٍ في السماء.
ثم دوّى انفجار مهيب شقَّ الظلام، ومنه انبثق نورٌ خاطف. لهيبٌ عظيم تموّج في الفضاء ثم تكوّر ببطءٍ في شكل كرةٍ نارية.
وبينما أخذت بالاستقرار، بدأت تبث نورها وحرارتها على الأرض.
كانت طاقتها خشنةً وعنيفة، تختلف عن الموجات الهادئة لشجرة العالم، لكنها كانت نورًا حقيقيًا رغم ضعفها.
فهتف الشياطين وبكوا من الفرح.
حتى لو لم يضيء ذلك النور العالم بأسره، فوجوده في حدود رؤيتهم كان كافيًا للحياة. وهكذا وُلد مفهوم “الأراضي” التي يعيش فيها الشياطين خارج الغابة.
تابعت أرييلا المشهد مبهوتةً، غير قادرةٍ على الكلام.
ثم قطعت باياكيا الصمت بقولها،
“بثمنٍ لا يُحصى من الأرواح، وجد الشياطين طريق البقاء. لقد صنعوا شمسًا سحرية، بديلةً عن شمس الطبيعة التي لم توجد أصلًا في هذا العالم.”
لا أحد يعلم كيف أدركوا مفهوم “الشمس” الذي لم يكن موجودًا أصلًا في عالم الشياطين، لكن يُعتقد أن قصص العالم البشري ربما تسربت إليهم بطريقةٍ ما، مما يرجّح وجود تواصلٍ خفي بين العالمين حتى في تلك العصور السحيقة.
“لكن هذا السحر الجماعي كان غير مستقر. فالكثير من الكائنات وهبت حياتها وقوتها فيه، لذا احتاجت الطاقة إلى وسيطٍ يربطها بالشمس الجديدة.”
وفي وسط الجمع، تقدّم أحد الشياطين.
رفع ذراعيه نحو السماء حاملًا رغبةً قومه جميعًا. حينها انصبت عليه قوة الشمس الوليدة، وتكوّنت على رأسه هالةٌ من الضوء تشبه التاج.
“ذاك الذي ربط بين شياطين الأرض وشمس السماء، دعاه الأسلاف: الملك.”
ثم أضافت باياكيا بنبرةٍ يملؤها الحنين،
“ومن هنا بدأ عصر الزراعة الحقيقي، وانتهى زمن الصيد والتقاط الثمار.”
***
في سماء مملكة لودفيك، عاصمة ملك الشياطين—
بوووم!
التحليق في السماء كان من أحبّ الأشياء إلى باي. و ازداد الأمر متعةً هذه الأيام، بعد أن تغيّر الكثير من الأشياء في الأرض من تحته.
“هاه؟”
توقف بصر باي عند نقطةٍ بعيدة.
“ذلك الشخص…..ماذا يفعل هناك؟”
كان التابع الوفي الأول لباي، تشاد، جاثمًا في حديقة صغيرة أمام منزله، منهمكًا في العمل.
كان اليوم يوم عطلةٍ له، فلا حاجة له بالذهاب إلى القلعة، غير أن كليهما لم يعودا يفرّقان بين أيام العمل والراحة منذ زمن.
فحتى في أيام العطلة كان تشاد يزور القلعة ليلهو مع باي، أو العكس كما يحدث اليوم بالضبط.
هبط صغير التنين بخفةٍ بجانبه وهو يهمس بنبرةٍ مرحة،
“أيها المتأخر دائماً، ماذا تفعل هنا؟”
“سيد باي! شش! اخفض صوتكَ، أمي نائمة! إن استيقظت وسمعتكَ تناديني بذلك، فسأكون في ورطة!”
ضحك باي بخفةٍ وهو ينظر إلى حيث كان تشاد قد حفر الأرض الصغيرة بيديه الصغيرتين وغرس فيها بعض البذور.
فشرح الصبي بفخرٍ خافت،
“أمي وجدَت هذه الثمرة أثناء استطلاعها لغابة مملكة ديلارك.”
“أي ثمرةٍ هي؟”
“إنها شجرة تُسمّى هونيدروب، شجرة ثمار العسل.”
“همم؟ لم أسمع بها من قبل.”
وحين يقول ياي، الذي لا ينسى شيئًا، إنه لم يسمع بها، فذلك يعني أنها نادرةٌ حقًا.
“لم تكن موجودةً في منطقتنا من قبل، يقولون أنها لا تنمو إلا في غابات الجان أو في ممالكٍ تملك شمسًا ضخمةً جدًا.”
في الماضي كانت شمس ديلارك أضخم بكثير، لكن الأمور انقلبت الآن، وربما أصبحت زراعتها ممكنةً في مملكة لودفيك.
و تابع تشاد بحماسٍ يلمع في عينيه،
“يقال أن ثمارها حين تنضج تشبه جرار العسل الصغيرة، وعندما تأكلها بَك! تنفجر في فمكَ ويملؤكَ طعمٌ حلوٌ باردٌ لا يُنسى!”
“أوووه؟”
امتلأ فم باي باللعاب وهو يتخيل الطعم.
ثم سأل بعجلة،
“ومتى تثمر إن زرعتها الآن؟ بعد غد مثلًا؟”
فقطّب تشاد حاجبيه بجدية،
“لا توجد شجرةٌ في العالم تنمو بهذه السرعة يا سيد باي! صحيحٌ أن محاصيلنا تنمو أسرع هذه الأيام، لكنها تحتاج إلى أشهرٍ على الأقل.”
“أشهر؟!”
تنهّد باي بخيبة أمل.
مجرد تخيّل طعم تلك الثمار جعله يتلوّى من الجوع، وكان يتمنى أن يتذوقها في الحال. لكن الانتظار لأشهرٍ كاملة؟ مستحيل!
وفجأة، لمعت في رأسه فكرة.
“آه!”
‘ماذا لو…..جربتُ ذلك؟’
لقد فعل أمرًا مشابهًا من قبل. إن كانت المشكلة في الوقت، فالحل بسيط—يُغيّر الوقت نفسه!
فتحدّث بحماسٍ وهو يقترب من موضع البذور،
“تشاد، تنحَّ قليلًا.”
تراجع الفتى بخطواتٍ مترددةٍ وهو يراقب سيده الصغير.
و شعر ياي غريزيًا بما عليه أن يفعله، فأغمض عينيه مركزًا طاقته السحرية. ثم تمتم بكلماتٍ خافتةٍ كأنها ترنيمةٌ من لغة التنانين القديمة،
“ليتسارع…..الزمن!”
في اللحظة التالية، انبثق من جسده وهجٌ ذهبيٌّ قويّ، فاهتز الهواء حول التربة وتشوّه كأنه موجةُ حرارة.
كانت أرض مملكة لودفيك قد نالت بالفعل بركة التنين الذهبي، فأصبحت خصبةً تفوق كل الحدود الطبيعية، لكن هذه المرة كان السحر من مستوى آخر تمامًا.
لم يكن تسريعًا للنمو فحسب، بل تسارعٌ للزمن ذاته.
تُك!
سُووش!
انشقّ التراب فجأة، وخرجت منه نبتةٌ تنمو بسرعةٍ مذهلة، تمتدّ سيقانها وتتفتح أوراقها أمام أنظارهما.
تحوّل الغرس الصغير إلى شجرةٍ صغيرةٍ متلألئةٍ تزهر في لمح البصر، ثم ما لبثت الأزهار أن تساقطت تاركةً وراءها ثمارًا كجرار عسلٍ صغيرةٍ بلونٍ كهرمانيٍّ لامع.
شهق تشاد بدهشةٍ كبيرةٍ حتى فتح فمه من الذهول، ثم نظر إلى باي بعينين متألقتين بالإعجاب والرهبة،
“سيد باي! أنت مذهلٌ حقًا!”
“همم! هذا أمرٌ بسيطٌ لا أكثر!”
هتف باي بفخر، وتبعه تشاد بالهتاف نفسه قبل أن يلقيا الثمار في أفواههما دفعةً واحدة.
وفجأة—
“هاه؟!”
“أوهوو!”
انفجرت القشرة الرقيقة على طرف اللسان، لتندفع منها عصارةٌ ذهبية لامعة، غنيةٌ بطعمٍ حلوٍ أعمق من العسل نفسه، يعقبه إحساسٌ منعشٌ يملأ الفم بنسيمٍ باردٍ لطيف.
وراحت رائحةٌ فريدةٌ لم يشما مثلها من قبل تتصاعد برقةٍ في الهواء.
كان ذلك المزيج من الحلاوة والعطر والانتعاش شيئًا يتجاوز الوصف.
“واااه!”
اتسعت فتحات أنف باي بساعدةٍ ظاهرة.
كما قال تشاد تمامًا—لقد كانت الفاكهة لذيذةً بطبيعتها، لكن قوة التربة المباركة أضافت إليها لمسةً جعلت طعمها أقرب إلى معجزة.
تلألأت عينا باي بحماس.
“يجب أن آخذ بعضها إلى رابو! سأجعله يحضّر منها حلوى خاصة!”
فشهق تشاد بدهشة،
“حقًا يا سيد باي؟ أنتَ عبقري!”
ابتسم باي ابتسامةً خبيثةً وهو هامسًا،
“لكن إياك أن تخبر فيلي، فهمت؟”
فهو يعلم جيدًا أن تلك المدمنة على السكر إن علمت بالأمر، فلن تترك لهما حتى بذرةً واحدة.
ضحك الطفلان بخفةٍ ومرح، بينما كانت الشجرة التي أثمرت بالسحر تتمايل بلطفٍ مع النسيم، و أوراقها تتلألأ تحت أشعة الشمس الساطعة كأنها تشكرها على دفئها.
***
“آه، جلالتك!”
“تحيةً لجلالته لودفيك!”
بينما كان لودفيك يمر في الممر الطويل، انحنى له عددٌ من الشياطين احترامًا، فردّ التحية بإيماءةٍ مقتضبةٍ وهو يواصل السير بخطى سريعة.
‘من الواضح أين تكون أرييلا الآن.’
قادته قدماه تلقائيًا نحو المكتبة.
وعند المدخل، رفعت أمينة المكتبة فيلي رأسها، فابتسمت برؤية سيدها.
“آه! جلالتك، ما الذي جاء بكَ اليوم؟”
ثم خفّضت صوتها قليلًا وهمست بلطف،
“هل ترغب أن أُعيركَ الجزء التالي من مغامرات الصبي السمندل الشجاع في البحر؟ أم تُفضّل أن أُوصيكَ بكتابٍ يشبه الذي تقرأه الآن؟ أعتقد أن عنوانه كان دليل الرسائل المهذبة للسادة النبلاء..…”
لكن لودفيك قاطعها بسرعةٍ قبل أن تُكمل.
________________________
لودفيك شكله كان ياخذ ذا الكتب بالسر؟😭 ورع
بس بدري ياخي؟ من اول انتظر يدخل على ارييلا يا يشوفها مغمى عليها ويسوي دراما يا يقطع عليها وتروح باياكيا😘
المهم باي ليه ماعلم ارييلا عن قدرك الزمن ذي؟ كذا شجرة العالم بالخذ ثواني وتطلع
وتشاد هو بس انا؟ كل ماجا طاريه وشفت اسمه احسه بنقالي ولا هندي على اسمه😭
التعليقات لهذا الفصل " 170"