كانت باياكيا، التي ادّعت أنها قرأت أرييلا بالكامل، تعرف أيضًا المسألة التي كانت تبحث عن جوابها.
“هناك طريقة.”
هل قالت أنه يمكن إنقاذ هيلينا ومملكة الشياطين معًا؟
تسارع نبض قلب أرييلا أكثر، كأن الحياة نفسها تتدفق بداخلها من جديدٍ منذ أن واجهت باياكيا.
شعرت بأن كل خليةٍ في جسدها تتجه نحوه بانتباه كامل. و ابتلعت ريقها تنتظر أن يتكلم ذلك الكيان الذهني أخيرًا.
ثم نطقت باياكيا بصوتٍ ثابت، خالٍ من أي تردد، كمن ينقل حقيقةً مطلقة لا تحتمل الشك.
“ازرعي شجرة عالمٍ جديدة، و ربِّيها حتى تنمو وتبلغ تمامها، ثم انقلي عقد الشمس والشيطان إلى تلك الشجرة، وبعدها أطفئي الشمس الملوثة.”
“…….”
“…….”
“ماذا؟!”
فحدّقت فيها باياكيا ببرود.
“لقد سمعتِ ما قلت. فلمَ تسألين مجددًا؟”
كادت أرييلا، وقد نسيت تمامًا أنها منقذتها، أن تصرخ في وجهها غاضبة. لأن ما قالته بدا وكأنها تطلب منها أن تملأ البحر بقبضةٍ من الرمل.
“شجرة عالمٍ جديدة؟”
لم تنبت شجرةٌ جديدة في مملكة الشياطين منذ أكثر من ألف عام. ذلك اللغز الذي لم يتعدَّ تخمينات كيميلت.
والآن تقول لها ببساطة أن تزرع واحدةً وتنمِّيها حتى تبلغ نضجها؟
“لو صدق ما كُتب في الكتب، فبلوغ الشجرة طورها الكامل يستغرق مئات السنين! ستكون هيلينا قد ماتت قبل ذلك بكثير.”
ثم ما معنى نقل عقد الشمس والشيطان إلى الشجرة؟
إذا انطفأت الشمس، سيموت ملك الشياطين حتمًا. لذا يبدو أنها تريد تحويل العقد، لكن….
الأمر كله لا يبدو واقعيًا.
“هذا يفوق الخيال!”
هل هذا ما شعرت به سيسيل حين طلبتُ منها بناء سفينةٍ قوية للإبحار عبر المحيط؟
بينما كانت شاردة، أضافت باياكيا،
“قلتُ أن هناك طريقة، لا أنّها طريقةٌ سهلة.”
نبرتها الجافة الواثقة ذكّرَتها للحظة بلودفيك.
“ولماذا نحتاج إلى شجرة العالم لإنقاذ هيلينا؟”
“شمس تلك الفتاة قد تلوثت تمامًا، ولا يمكن إحياؤها. لكن صنع شمسٍ جديدة سيتطلب تضحياتٍ جسيمة، لذلك لا خيار سوى استعارة قوة شجرة العالم.”
أصبحت في حالة ارتباكٍ كامل، حتى شعرت بدوار من فيض المفاهيم التي لم تسمع بها قط تتدفق من فمها.
فاحتجّت أرييلا،
“الرابط بين ملك الشياطين ومملكته وشمسه أشبه بقانون طبيعي في مملكة الشياطين! لا يمكن كسره إلا على يد معجزة!”
“إذاً كيف استطاعت كارين أن تلوث الشمس؟”
“الشخص لا يستطيع أن يغيّر قانون أن الماء يجري من الأعلى إلى الأسفل، لكنه يستطيع أن يلوثه.”
“وإذا استطاع تلويث الماء، أفلا يستطيع تغيير مجراه أيضًا؟”
“……!”
“ثم إن في كلامكِ خطأ، العلاقة بين الشمس والشيطان، ذلك العقد الذي يربط حياتيهما قسرًا، هل تظنينه قانونًا مطلقًا؟ هذا غير صحيح.”
“ماذا؟”
“الشمس التي تشرق في مملكة الشياطين ليست ظاهرةً طبيعية كالتي في عالم البشر، بل صُنعت بطريقةٍ اصطناعية بالسحر منذ القدم.”
صُدمت أرييلا حتى عجزت عن الكلام، بينما قطّبت باياكيا حاجبيها قليلًا.
“يبدو أنكِ لا تعرفين أصل شروق الشمس في مملكة الشياطين.”
بالطبع لم تكن تعرف.
وفي تلك اللحظة، حرّكت باياكيا يدها برفق.
كووووررر!
و اهتز الفضاء المحيط بهما بأكمله.
الفراغ الأبيض الذي كانت تقف فيه تشقق كزجاج هشّ. شقوقٌ بلا صوت، يتسلل منها سوادٌ يشبه ظلمة الليل.
“آه؟!”
شعرت أرييلا وكأنها تُسحب إلى الداخل. بينما تحدّثت باياكيا بصوتٍ هادئ،
“مملكة الشياطين كانت منذ بدايتها عالَمًا غير طبيعي، غير مكتمل، مختلفًا عن عالم البشر المبارك بالطبيعة.”
هووووم!
من الظلام تحت قدميهما بدأت ملامح غامضة تتشكل ببطء.
“ربما كانت مملكة الشياطين مجرد ظلٍ لعالم البشر.”
نظرت أرييلا إلى الأسفل فرأت ما بدا كأنه نور الفجر.
كانت مملكة الشياطين في بداياتها أمامها. لكنها كانت مختلفةً تمامًا عما تعرفه الآن.
فعلى الرغم من أن السماء في زمنها الحالي تضيء فيها مئات الشموس، شمسٌ لكل ملك شيطان، إلا أن المشهد أمامها الآن كان مظلمًا تمامًا.
“لا توجد شمس!”
الأرض الممتدة تحتها كانت جرداء قاحلة، تتردد فيها صرخات وحوش مجهولة، وتحوم في السماء ظلال ضخمة بأجنحة هائلة تمزق الهواء.
“نعم.”
في فجر العصور الأولى لعالم الشياطين لم تكن هناك شمسٌ تدفئ الأرض، بل لم يكن يُرى سوى خيوطٍ من ضوء النجوم الباهت تتصل في الظلام كأنها خيوط حرير معلقة في العدم.
و شرحت باياكيا،
“منذ زمنٍ بعيد، كان حكام عالم الشياطين هم التنانين، المفترسون الأسمى الذين امتلكوا طاقة حياة وقوة سحرية لا تُضاهَى.”
كانت تلك الكائنات الهائلة التي تحلّق في السماء بوضوح من سلالة التنانين بلا شك.
“ربما كانت التنانين والشياطين، وكل مخلوقات عالم الشياطين، أحفادًا للوحوش البدائية ذات يوم.”
ثم وجّه باياكيا نظرها نحو تنينٍ ضخمٍ بدا ماكرًا ومهيبًا في آن واحد.
“من المحتمل أن أذكى وأقوى الوحوش تطورت لتصبح سلالة التنانين الحالية.”
حبست أرييلا أنفاسها وهي تتابع المشهد بعينيها المبهورتين.
تحت سماءٍ تحلّق فيها التنانين، كانت ترى الشياطين البدائيين والأورك وهم يرتجفون داخل الكهوف.
كانوا مختلفين عن الأجناس الحالية، قادرين على العيش بلا شمس، لكن بالكاد يحافظون على بقائهم، إذ لم يكونوا سوى طرائد لوحوشٍ أقوى منهم.
وفجأةً تغيّر المشهد.
تدفقت من السماء المظلمة تنانين ذهبية تبث نورًا باهرًا.
“أولئك الذين رقّوا لحال هذه الأجناس البدائية، كانوا التنانين الذهبية.”
نفخت التنانين الذهبية سحرها في جنين شجرةٍ صغيرة كانت تنمو في الأرض. فحدثت معجزةٌ لا تُصدق.
انفجرت البذرة بضوءٍ مبهر ونمت في لحظات لتصبح شجرةً شاهقة تلامس السماء.
فصرخت أرييلا مبهورة،
“شجرة العالم!”
بدأت الشجرة تُشع ضوءًا وحياةً تطهّر ما حولها، وتحوّل الأرض القاحلة إلى واحةٍ خضراء.
نشأت حولها غابةٌ واسعة، ولم يجرؤ أي وحشٍ لم يأذن له التنين على دخولها.
“هكذا بدأت الحضارة البدائية لعالم الشياطين.”
كما وصفت، تجمعت الأجناس المختلفة حول الغابة التي تحيط بشجرة العالم، وبفضل مواردها الوفيرة استقر الشياطين لأول مرة في مكانٍ واحد.
كانت حياتهم آنذاك أشبه بحياة الجان اليوم، إذ عاشوا في وفرةٍ وطمأنينة، يصطادون ويجمعون ثمار الغابة دون خوفٍ من الجوع أو الافتراس.
كان زمنًا من السكينة المطلقة.
لكن صوت باياكيا خفتَ بجدية،
“غير أن تلك الأيام لم تدم.”
تبدّل المشهد مجددًا. و دوى الرعد وتشققت السماء بصاعقةٍ هائلة ضربت إحدى أشجار الصنوبر.
كان أمرًا لا ينبغي حدوثه، إذ كانت الغابة تحت حماية التنانين الذهبية، غير أن البرق أصاب بالصدفة نقطة ضعفٍ في الحاجز السحري.
اشتعلت النيران في لحظات، وصرخ الشياطين المذعورون وهم يتفرقون في كل اتجاه.
و تابعت باياكيا،
“تلك كانت أول كارثةٍ طبيعية تواجههم. النار التي ولّدها البرق كانت مصدر رعبٍ مطلق، لكن أحدهم تجرأ وتجاوز خوفه.”
بينما كانت الوحوش تهرب من اللهيب، اقترب شيطانٌ واحد من الرماد المشتعل. وبعد لحظاتٍ خرج ممسكًا بغصنٍ تتأجج فيه النار.
حمل الشرارة بعنايةٍ إلى كهف قبيلته. في البداية ارتعب أفراد القبيلة، لكنهم ما لبثوا أن التفوا حول اللهيب، منجذبين إلى دفئه ونوره الذي فاق حتى بريق شجرة العالم. واستخدم بعضهم النار لطهي اللحم للمرة الأولى.
“حين تعلم الشياطين كيف يتحكمون بالنار، بدأت المشكلة الحقيقية.”
فالسحر في أصله ينبع من عوالم الفكر والخيال، وحين فهم الشياطين ماهية النار، ظهرت قلةٌ منهم قادرة على استدعائها عبر السحر.
وتوالت المشاهد أمام أرييلا.
و كانت التنانين الذهبية تجتمع بوجوهٍ متجهمة حول شجرة العالم لتناقش الوضع.
“رأت التنانين في هذا التطور نذير دمارٍ وشيك، فالحرائق الطبيعية يمكن السيطرة عليها، أما إذا صار آلاف الشياطين يشعلون النار بسحرهم، فلن يعود هناك من يوقفها.”
و اعترضت أرييلا بدهشة،
“لكن التنانين نفسها تستخدم النار، بل تنفثها من أفواهها!”
تذكرت أنفاس باي المضيئة، التي لم تكن نارًا ملتهبة كنفَسِ التنانين الحمراء، لكنها حملت حرارةً تفوق اللهب.
“رأت التنانين أن الشياطين لا يملكون الحكمة الكافية لاستخدام النار، وأنهم سيستغلونها لإفساد الطبيعة وإهلاك كل ما حولهم.”
ثم ظهرت شجرة العالم أمامها من جديد، وقد كانت التنانين الذهبية تبني أعشاشها فوق أغصانها العالية.
“حتى شجرة العالم كانت ضعيفةً أمام النار، لذا رأت التنانين في نار الشياطين تهديدًا مباشرًا لعالمها.”
ارتفع أعظم التنانين الذهبية فوق الشجرة، وصوته يجلجل كالرعد،
“أصدر أمري: من اليوم، كل من يستخدم النار، يُنفى من غابة شجرة العالم!”
وهكذا أُعلن أول مرسوم طردٍ في نعيم عالم الشياطين.
________________________
وش بنستفيد من القصه
بس يضحك الشياطين طلعوا اصلاً منتفين وهم حالياً شايفين نفسهم😂
التعليقات لهذا الفصل " 169"