كانت كلماتها توحي وكأنها لا تنتمي إلى هذا العصر أصلًا.
نظرت الشيطانة ذات الشعر الذهبي إلى يديها هامسةً كأنها أدركت الحقيقة لتوّها.
“أجل…..لستُ روحًا حقيقية.”
كانت نبرتها مهيبة، تنضح بعظمةٍ وغموضٍ سامٍ.
في تلك اللحظة، تمكنت أرييلا أخيرًا من فتح فمها، وقد غلب فضولها دهشتها.
“أشعر بطاقةٍ مألوفة تصدر منكِ.”
“وهذا طبيعي.”
أومأت الشيطانة برأسها قليلًا،
“فالكيان الذي تتحدثين إليه الآن ليس سوى نتيجة تداخل طاقتكِ السحرية مع نوعٍ آخر من القوة المتدفقة من الخارج.”
ثم أضافت وكأنها تثبت يقينًا استعادته الآن،
“صحيح…..إنني لست سوى بقايا فكرٍ عالقٍ من حياتي السابقة. كنتُ في الأصل في حالةٍ لا تسمح لي بالتواصل مع الأحياء، لكنك أنتِ من أيقظني.”
‘بقايا فكر..…؟’
تألقت عينا أرييلا بفضولٍ لامع، ولم تستطع كبح تعطّشها للمعرفة رغم أن الوقت لم يكن مناسبًا.
“لكنني لا أعرف أي تعويذةٍ خارقة يمكنها تجسيد بقايا فكرٍ بهذا الشكل الواعي!”
“حقًا؟ إذًا لم تتقني المجلد السحري حتى النهاية. لكن كيف تمكنتِ من امتصاصه إذًا؟ وكيف عقدتِ عهدًا مع ملك الشياطين؟”
“مجلدٌ سحري؟”
تسارعت أنفاس أرييلا فجأة وقد اتسعت عيناها إدراكًا.
“أتقصدين المجلد الذي دوّن فيه سحر العقد بين البشر وملوك الشياطين؟”
“بالطبع.”
“لكن…..ذلك الكتاب اختفى!”
تذكّرت أرييلا لحظة استدعائها لودفيك.
حينها كانت قد رسمت الدائرة السحرية، ثم قدّمت المجلد ذاته كجزءٍ من الأضحية، لذا لم يعد موجودًا في حوزتها.
كانت لا تزال تتحسر لأنها لم تتعلم جميع التعويذات التي احتواها.
حينها نظرت إليها الشيطانة بنظرةٍ عميقةٍ شفافة،
“يبدو أنكِ لم تفهمي كل شيءٍ بعد. المجلد لم يختفِ، يا أرييلا.”
“ماذا؟”
“لقد تفكك إلى وحداتٍ من الطاقة والمعلومات النقية، وامتصّه جسدكِ بالكامل، أليس كذلك؟”
اتسعت عينا أرييلا في ذهولٍ أكبر من لقائها الأول بها.
“كيف يمكن لشيءٍ كهذا أن يحدث؟!”
“لقد صُمِّمت التعويذة بهذا الشكل منذ البداية.”
“هل تقولين أنكِ من صمم تعويذة العقد بنفسكِ؟!”
ابتسمت ابتسامةً غامضة،
“وأكثر من ذلك…..جميع نسخ المجلد التي وصلت إليكِ وإلى غيركِ من السحرة، أنا من كتبتها بيدي.”
“ماذا؟!”
‘هي مؤلفة ذلك المجلد الأسطوري؟!’
المرأة التي تقف أمامها؟!
حين سألتها إن كانت قد قرأت الكتاب كاملًا، وتعجبت من نجاحها في استدعاء ملك الشياطين، كان الأمر منطقيًا تمامًا الآن.
فلا بد أنها تشعر بالدهشة وهي ترى ساحرةً من العصور اللاحقة تنجح في استخدام سحرها دون أن تكمل حتى قراءته!
رغم أن ما كان يجري داخل عالمٍ ذهني، شعرت أرييلا بأن قلبها ينبض بعنف.
أن يكون أصل سحر العقود بين البشر وملوك الشياطين صادرًا من هذه المرأة نفسها…..ذلك كان مدهشًا إلى حد الرعب.
وبينما كانت غارقةً في ذهولها، تحدّثت الشيطانة وقد بدا عليها مزيجٌ من الفضول والجدية،
“سأسألكِ مجددًا—كيف استدعيتِ ملك الشياطين في هذا العصر؟”
استعادت أرييلا ذاكرتها ببطءٍ وأجابت،
“بصعوبةٍ شديدة…..الغريب أن الفصل الأخير من المجلد، الخاص بالاستدعاء، كان الوحيد الذي تمكنت من تفسيره بوضوح.”
كانت تظن أن يأسها حينها هو ما جعلها تتجاوز حدود قدراتها الطبيعية.
“إذاً أنتِ عبقريةٌ تتحدى الزمن والمنطق معًا…..لا أفهم كيف يمكن أن يحدث هذا.”
تمتمت المرأة بنبرةٍ مشوبةٍ بالارتباك ثم،
“انتظري…..دعيني أقرأكِ.”
كان أسلوبها وكأنها تتحدث عن كتابٍ بين يديها، لا عن إنسان.
في اللحظة التالية، شعرت أرييلا بتموّجاتٍ رقيقة تنتشر في الفراغ من حولها. شيءٌ ما صنعته تلك الشيطانة وصل إلى أعماق وعيها، محدثًا دوائر متسعة كالموج على سطح الماء.
ثم حلّ صمتٌ قصير، وبعده تحدّثت المرأة بصوتٍ منخفضٍ مفعمٍ بالتفكير،
“الآن فهمت…..هكذا إذًا جرى الأمر.”
ثم همست وكأنها تحدّث نفسها،
“يا لها من مصادفة عجيبة…..أو لعلها لم تكن مصادفة على الإطلاق، بل حتميةٌ مكتوبة منذ البدء.”
وبعد أن غاصت في تلك العبارة الغامضة، بدأت حديثها لتكشف ما خفي من القصة.
“كلامكِ صحيح، فبقواكِ وحدها لم يكن بإمكانكِ استحضاري هنا. لكنّ الأمر تغيّر بسبب جوهر الشمس الذي لمستِه.”
بدا واضحًا أنها أصبحت على درايةٍ تامة بكل ما قامت به أرييلا قبل لحظات.
“نعم، كنت أحاول تحليل جوهر الشمس لإنقاذ هيلينا.”
نظرت إليها المرأة بنظرةٍ حادة وتحدّثت بصوتٍ صارم،
“ألم تكوني تعلمين كم هو أمرٌ بالغ الخطورة؟ أنّ ذلك الجوهر مادةٌ تتجاوز مستواكِ بأشواط. لو اختلّ توازن الطاقة أدنى اختلال، لتمزّق جسدكِ إلى شظايا.”
كانت أرييلا تعلم ذلك تمامًا. لكنها بدأت التحليل من دون أن تخبر لودفيك أو أيًّا من رفاقها، إذ لو علموا لأوقفوها حتمًا.
“فعلتُ ما اعتقدت أنه الصواب.”
كان عليها إنقاذ صديقتها هيلينا، ولم تكن لتسمح بأن تتحول المقاطعة المجاورة إلى وكرٍ للوحوش.
عندها بدت على المرأة ملامح الضيق، ثم تنهدت بخفة كما لو كانت تتعب من التفكير.
‘هل يمكن لوجودٍ من محض الفكر أن يتنهد؟’
تساءلت أرييلا بدهشة، قبل أن تسمعها تتمتم،
“فضولٌ لا حد له، وتهوّرٌ يدفع صاحبه إلى التضحية بنفسه لأجل الآخرين…..لا شك أن دماءهم ما زالت تجري فيكِ.”
‘دماؤهم؟’
حين قالت ذلك، كانت نظراتها تتجاوز أرييلا نحو ماضٍ سحيقٍ لا تُدركه الأبصار.
“اعلمي أن ما فعلتِه بالغ الخطورة. لا تكرريه أبدًا.”
“حاضر.…”
شعرت أرييلا أن نبرتها تغيّرت بعد أن “قرأتْها”. فبعد أن بدت محايدةً في البداية، صار في صوتها الآن دفءٌ قاسٍ يشبه حرص الأم حين تؤنب ابنتها.
تمامًا كما كانت أمها تفعل قديمًا.
“على كل حال..…”
ضيّقت المرأة عينيها،
“رغم أنكِ لم تكوني تنوين ذلك، فإنكِ بفعلكِ ذاك خلقتِ مسارًا سمح لقوة الجوهر بالتسرّب إلى جسدكِ. السبب كان نمط الطاقة الذي استخدمتِه في النهاية.”
“أتعنين تعويذة العقد بين الإنسان وملك الشياطين؟”
“نعم. ما إن استعدتِ ذلك النمط حتى استجاب المجلد السحري الكامن في جسدكِ.”
وكان جسد أرييلا في تلك اللحظة متصلًا بمصدر طاقةٍ هائل.
“تمامًا كما تتدفق الرياح من البرد إلى الدفء، تتدفق الطاقة السحرية بدافع الاتزان. فامتصّ المجلد تلك الطاقة، ونتيجةً لذلك…..استيقظتُ أنا، بقايا الفكر التي سكنت داخله.”
‘إذاً لهذا كانت تعويذة العقد فريدةً إلى هذا الحد…..’
ولماذا ابتكرت هذه المرأة ذلك السحر وخلّدتْه في مجلدٍ كهذا؟
توالت الأسئلة في ذهن أرييلا، ولم تعد قادرةً على كبح فضولها، فسألت أخيرًا،
“من أنتِ بالضبط؟”
ابتسمت الشيطانة ابتسامةً خفيفة كمن يوشك أن يرفع الستار عن سرٍّ عظيم، و أجابت بنبرةٍ عتيقةٍ تتردد فيها أصداء القرون،
“أنا التي حكمتُ هذه الأرض في زمنٍ سحيقٍ غابر.”
كان ذلك الصوت يحمل في طيّاته قوّةً عميقة هزّت أرجاء العالم الذهني كلّه.
“اسمي باياكيا.”
***
اسمي لودفيك. لا أملك اسمًا للعائلة.
“يا جلالتك ملك الشياطين! هل تسمعني الآن؟”
بحسب ما قالت أرييلا، فالبشر في عالمهم كلّما علت مكانة أحدهم طالت الأسماء التي تتوسط بين اسمه ولقبه، لكن في عالم الشياطين لا وجود لمثل تلك العادات.
تقول أرييلا أن السبب ربما أن ملوك الشياطين نادرًا ما يورّثون العرش لأبنائهم على أي حال.
لا أعلم ما علاقة هذا بطول الأسماء أو قصره، لكنّها على الأرجح محقّة. فكلام أرييلا لا يكون خاطئًا أبدًا.
وما دامت أرييلا قالت ذلك، فكل ما عليّ أن أفعله هو أن أقول: “آه، فهمت.”
تلك هي الحقيقة التي أدركتها متأخرًا في هذا العالم.
“…..ولهذا السبب يستمرّ الأورك في رفع العرائض إلى قلعة ملك الشياطين. اللاجئون القادمون من مقاطعة ديلّارك السابقة يتصرّفون معهم بقلة احترام على ما يبدو.”
أكرر: نادرًا ما يرث أحدٌ العرش في عالم الشياطين. لكنّ ذلك النادر قد حدث مؤخرًا.
“أليس من المفترض أن نسمّيها الآن مملكة هيلينا بدلًا من مملكة ديلّارك الشيطانية؟”
“عفوا؟”
ارتبك الإداريّ الجديد الذي قالت أرييلا أنها اختارته بنفسها عبر غرويب.
بالمناسبة، ما اسم هذا الشخص؟ لا أذكر، ولا يهمّني كثيرًا.
لذا تركت التفكير جانبًا وواصلتُ كلامي.
“لقد مات ديلّارك، والشمس باتت مرتبطةً بهيلينا. إذًا فهي مملكة هيلينا الشيطانية.”
“آه، الأمر أن مراسم التنصيب الرسمية لم تُقم بعد…..وكما تعلم يا جلالتك، فالوضع الراهن يجعل إقامتها أمرًا صعبًا..…”
التعليقات لهذا الفصل " 167"