كانت أرييلا تحدق في هيلينا بعينين يلفهما الحزن والظلام. وبعد أن أودعت جوهر الشمس في حافظة سحرية، هرع الجنود إلى المكان ونقلوا هيلينا على وجه السرعة.
وكما توقعت، لم يكن في جسدها أي جرحٍ ظاهر. لكن وفقًا لقول ريتشموند، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في الطاقة السحرية العاصفة التي تموج داخل جسدها وتنهش روحها من الداخل.
وفيما كانت أرييلا تلازم هيلينا وتراقب حالتها، عاد لودفيك إلى غرفة التحقيق حيث تُحتجز كارين، ليتأكد إن كان بالإمكان انتزاع أي معلومةٍ أخرى منها.
غير أنه فوجئ بصوت ضحكةٍ عالية تتردد في أرجاء الزنزانة.
“هاها…..هاهاها!”
قطّب لودفيك حاجبيه ونظر إلى كارين المقيدة بالسلاسل بنفور.
كان الاضطراب بادياً على وجهها في اللحظة التي سمعت فيها خبر موت ديلّارك، لكن ذلك الاضطراب سرعان ما تبدد، لترسم على شفتيها الشاحبتين ابتسامةً ملتوية كمن أدرك الحقيقة كلها.
“ها…..هاها! هاهاهاها!”
ضحكت طويلاً، ثم تفوهت بكلماتٍ مليئة بالازدراء والسم.
“نهايةٌ تليق برجلٍ جشعٍ وعنيدٍ حتى آخر لحظة. إنه ديلّارك الذي أعرفه…..لم يتوقف عن النضال حتى في موته. أن يضحي بحياته فقط ليلعن ابنته، يا له من جنون.”
لقد كانت تعرفه جيدًا، معرفةً عميقة تجعلها تفهم تمامًا ما الذي كان يدور في ذهنه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ضحكت بجنون وأطلقت كلماتها كطعنةٍ موجهةٍ إلى هيلينا، رغم أنها لن تسمعها.
“يالكِ من بائسة يا هيلينا…..تعفّني ببطءٍ مع الأرض التي حاولتِ حمايتها بكل جهدكِ، فتلك تبدو آخر هديةٍ يقدمها لكِ والدكِ!”
وانطلقت ضحكتها المشوهة تتردد بين جدران الزنزانة كصدى لجنونٍ عتيق.
***
السبب الوحيد الذي جعل أرييلا تُبقي كارين على قيد الحياة كان واحدًا.
ذلك السحر القديم الذي اعترفت به. السحر الذي دنّس الشمس وأفسدها.
لقد أبقتها حيةً تحسبًا لاحتمال حاجتها إليها عند دراسة السحر ذاته بعمق لاحقًا، فقد تظهر أسئلةٌ جديدة لا يمكن الإجابة عنها إلا منها.
‘من المؤكد أنها لم تفصح عن كل ما تعرفه.’
كارين لم تكن غبية. فهي تدرك أنه إن كشفت كل أسرارها، فستفقد قيمتها فورًا، لذا كانت ستخفي الأجزاء الحاسمة أو تتجاوزها عمدًا.
‘لتجعل لنفسها ضرورةً لي…..حتى النهاية.’
لكن أرييلا لم تكن لتسمح لنفسها أن تقع تحت رحمة مجرمة.
لقد عقدت العزم على أن تكتشف الحقيقة بنفسها، خطوةً بخطوة. وإبقاء كارين على قيد الحياة لم يكن إلا خيارًا أخيرًا، احتياطيًا لا أكثر.
‘إن استمر الوضع هكذا، فحياة هيلينا في خطر.’
صحيحٌ أن لودفيك منع امتصاص الشمس الملوثة، لكنها لم تكن تنوي مطلقًا أن تترك هيلينا تهلك باحتضانها لتلك اللعنة.
فكل ما تحقق حتى الآن كان بفضلها. هيلينا كانت ضيفة شرفٍ عظيمة خدمت مملكة لودفيك بجهدٍ لا يُقدّر بثمن.
ورغم أن الوقت الذي قضتاه سويًا لم يكن طويلًا، فإن بينهما صداقةً راسخة نُسجت من خلال الرسائل وتبادل الفكر والإيمان بالقضية ذاتها.
‘لن أسمح بأن تموت بهذه المأساوية…..’
بعد أن سلّمت هيلينا إلى رعاية الممرضين، توجهت أرييلا إلى مكتبتها الخاصة، إلى قاعة القراءة التي أُعدت خصيصًا لها وحدها.
أخرجت جوهر الشمس ووضعته أمامها. فأصدر الجوهر طنينًا خافتًا مضيئًا.
ثم ركّزت أرييلا نظرها عليه بكل وعيها.
وعلى عكس الشمس التي تلوثت في السماء، كانت هذه البلورة النقية تحتوي على جوهر الطاقة الشمسية الخالصة.
كانت أرييلا تعقد آمالها عليها. واستحضرت في ذهنها النمط السحري الذي اعترفت به كارين، ثم بدأت تمزجه بموجاتٍ جديدة من طاقتها الخاصة.
انساب صوتٌ خافت يشبه الهمس. و بدأ الجوهر، المستخلص من بقايا جسد ديلّارك المتفكك، ينبض بخفة.
‘نقيٌ…..تمامًا كما ظننت.’
لم يكن هناك أدنى أثر للطاقة البنفسجية الملتوية.
‘الملوث هو الشمس في السماء والملك الشيطاني وحدهما. أما هذا الجوهر…..فهو يحمل فقط نقاء سحر الشمس.’
وهذا منطقي. فكارين، التي كانت تنوي امتصاص هذا الجوهر لنفسها، لم تكن لتجازف بتلويثه.
وبعد أن أعادت فحصه مراتٍ عدة حتى تأكدت، بدأت من أطراف أصابعها تتشابك خيوطٌ من الضوء الذهبي في حركةٍ دقيقة.
لم تكن تلك شعلة نار، بل أشبه بإبرةٍ تفك عقدةً معقدة.
تسللت الموجات الذهبية برفقٍ إلى داخل الجوهر النقي. و في تلك اللحظة، قطبت أرييلا حاجبيها.
‘لا توجد أي استجابة؟’
عادةً، عندما تُضغَط طاقةٌ سحرية بهذه القوة، فإنها تُظهر مقاومةً فورية لأي تدخل خارجي.
‘خصوصًا وهي جوهر الشمس نفسه…..’
لم يكن الجوهر يشع ضوءًا ولا يبعث حرارة، لكنه في جوهره لم يختلف عن شمسٍ صغيرةٍ كامنة.
ومع ذلك، لم يصدر عنه أي رد فعل.
‘حسنًا، فلأغيّر نمط الطاقة السحرية.’
كما لو كانت تبحث عن المفتاح المناسب لفتح بابٍ مغلق، بدأت أرييلا تولّد أنماطًا لا حصر لها من الموجات السحرية، محاولةً إيجاد التردد الذي سيُحفّز استجابة الجوهر.
و استمرت تلك التجارب وقتًا طويلًا دون توقف.
***
مملكة آيبيسيا، تحت حكم الملك الشيطاني.
‘هل السيدة هيلينا بخيرٍ الآن؟’
كان سيلِفِينير، التِرول الثلجي، بعيدًا عن سيدته الحقيقية، بعد أن خرج في مهمةٍ طويلة.
جلس في غرفة الانتظار، وقد رفع يده إلى عنقه بغير وعي، يلمسه كما اعتاد دائمًا.
رغم مرور وقتٍ طويل منذ أن أزيل القيد الحديدي من حول رقبته، إلا أنه لم يزل يشعر بالفراغ في ذلك الموضع، وكأن شيئًا من نفسه انتُزع منه.
ذلك لأن القيد كان يرافقه منذ طفولته المبكرة.
‘عليّ أن أعتاد على هذه الحياة الجديدة…..’
كانت هيلينا هي من فكّت قيده بيديها.
فبعد أن فرت إلى مملكة لودفيك الشيطانية، قدّمت له أعظم هديةٍ يمكن أن تُمنح لعبدٍ سابق — الحرية.
و قالت له يومها بصوتٍ دافئ،
“شكرًا لأنكَ سرت معي حتى النهاية. من الآن فصاعدًا، عش كما تريد، في المكان الذي تختاره، وفق إرادتكَ أنت.”
حينها، ظل سلفينير صامتًا لبرهة، كمن تلقّى صفعةً من الواقع.
وبعد مرور لحظات، تمتم مبررًا بصوتٍ منخفض،
“لن أغادر…..حتى أرى مملكة ديلّارك تسقط، وحتى يتحرر جميع العبيد.”
كانت تلك الكلمات جزءًا من الحقيقة فقط. إذ إن قراره بالبقاء إلى جانبها كان مدفوعًا بعوامل أعمق من مجرد الوفاء بالوعد.
ومع ذلك، فقد أوفى بوعده بالفعل. فبفضله، استطاعت هيلينا التسلل إلى معسكر الاعتقال دون خسائر تُذكر، وتحرر العبيد جميعًا.
وكان ذلك الانتصار هو أول خطوةٍ نحو سقوط ديلّارك المحتوم.
وبعد انتهاء كل شيء، قالت له مجددًا بنبرةٍ حازمة،
“سيلفينير، لقد قُلتها من قبل. أنتَ لم تعد عبدي بعد الآن.”
لكن سيلفينير لم يستطع أن يرحل. لقد أراد أن يخدمها لا كعبدٍ بعد اليوم، بل كفارسٍ حرّ، وفاءً لها.
غير أن هيلينا لم تتقبل رغبته بسهولة، إذ كانت تشك في أن تعلقه بها ليس سوى أثرٍ متبقٍ من سنوات العبودية الطويلة.
“سلفينير، هل تعرف ما الذي يحدث للصقر الذي يُربّى في الأسر طويلًا؟”
“لا…..لا أعرف، سيدتي.”
“بالنسبة لذلك الصقر، فإن ذراع سيده هي مركز العالم، والعش الذي يعود إليه دائمًا. حتى لو قُطعت حبال الجلد التي تقيده، فلن يطير إلى السماء.”
“….…”
“سيحلّق للحظة، لكنه سرعان ما يعود، ويهبط على الذراع نفسها. لأن تلك الذراع هي الملاذ الوحيد الذي يعرفه.”
“….…”
“سيلفينير، فكّر جيدًا…..هل قراركَ بالبقاء نابعٌ حقًا من إرادتكَ؟ أم أنه مجرد ظلٍ باقٍ من القيود التي رافقتكَ طول حياتكَ؟”
لكن سيلفينير كان قد فكّر في ذلك منذ زمنٍ بعيد.
ما لم يكن يعرفه بعد هو كيف يُقنع هيلينا بأنها ليست سيدته، بل من اختار هو خدمتها بإرادته الحرة.
وفيما كان غارقًا في تلك الأفكار، انفتح الباب، وظهر أحد خدم مملكة الشياطين.
انحنى الخادم احترامًا،
“السيد سيلفينير، جلالة الملك الشيطاني آيبيسيا يطلب حضوركَ.”
***
مملكة لودفيك الشيطانية. في الساحة الداخلية للقلعة، اصطفّ جنود أولكن تحت رايته.
ولم يكن الجنود وحدهم هناك، بل حضر أيضًا بقية التابعين الذين يعملون في القلعة، إضافةً إلى أرييلا ولودفيك اللذين شهدا المراسم بأنفسهما.
“إذًا، لنبدأ.”
قال ريتشموند ذلك بصوتٍ مهيب تحت أنظار الجميع. فأومأ لودفيك برأسه موافقًا.
“حسنًا.”
خلف الملك الشيطاني، وعلى طول الأسوار، رفرفت رايات الحداد السوداء.
اصطفّ الجنود في صفّين طويلين يحيطون بالميدان.
فاليوم يقيمون مراسم جنازة. لكنها لم تكن جنازةً عادية لتوديع موتى البشر، بل طقسٌ خاصٌّ لتوديع أولئك الذين ماتوا مرةً، ثم أعيدوا كزومبي، والذين يرحلون الآن أخيرًا إلى راحةٍ أبدية.
“!#$@%#@”
تمتم ريتشموند بتعاويذٍ غامضة بصوتٍ منخفض. وانتشرت كلماته في الهواء كأنها لحنٌ جنائزيٌّ مقدسٌ يملأ الساحة بجلالٍ صامت.
ثم رفع يده إشارةً إلى البدء. فخرج جنود الزومبي الذين اختاروا هذا الطريق، مرتدين أكفانًا بيضاء نقية.
كانوا من أولئك العبيد الذين قضوا نحبهم تحت ظلم ديلّارك، ثم عادوا إلى الحياة بفعل السحر، وقد غمرهم حقدٌ لا يُطفأ ورغبةٌ عارمة في الانتقام منه.
والآن، بعد أن انتهت الحرب وسقط الطاغية، تحقّق مقصدهم أخيرًا.
وكما شرح ريتشموند غير مرة، فإنهم لم يكونوا مجرد هياكل عظمية بلا وعي، بل زومبي يحتفظون بقدرٍ من الإدراك والذاكرة، ولذلك لم يُظهروا طاعةً عمياء للساحر الذي استدعاهم.
بعد الحرب، اعترف كلٌّ من أرييلا ولودفيك بفضلهم العظيم ومنحوهم حرية الاختيار،
أولًا، أن يعودوا إلى أوطانهم أو يرحلوا إلى أي مكانٍ آخر بعيدًا عن مملكة لودفيك الشيطانية، وهم على هيئتهم ‘الزومبي’.
ثانيًا، أن يبقوا في المملكة ويُعترف بهم كمواطنين رسميين تحت راية لودفيك.
ثالثًا، أن يختاروا الراحة الأبدية والمغادرة إلى العالم الآخر.
ووُعدوا بأن تُكافأ تضحياتهم وتُكرّم بطريقتهم الخاصة، مهما كان خيارهم.
وكما كان متوقعًا، لم يختر أيٌّ منهم الطريق الأول. فحتى في عالمٍ متسامحٍ مع السحر، لم يكن هناك مملكةٍ واحدة – سوى مملكة لودفيك – تعترف بالزومبي كجزءٍ من رعاياها.
ثم إن الزومبي، وقد فقدوا حياتهم بالفعل، لا يساهمون في نمو شمس الحياة ولا يزيدون من قوتها.
لذلك، اختار معظمهم الخيارين الثاني أو الثالث.
وكانت هذه المراسم مخصصةً لأولئك الذين قرروا نيل الراحة الأبدية. أولئك الذين، بعد أن أنجزوا انتقامهم، رأوا أنه لم يعد لهم مكانٌ بين الأحياء.
ثم تحدّثت سيسيل، وهي تراقب مجريات الطقس بعينين متأملتين،
“بصراحة…..لم أكن أتوقع هذا أبدًا.”
_________________________
ياخي ياحنيتهم على الزومبي 😔🤏🏻
وسيلفينير ياعمري عليه الحق على زوجتك😭 بس الصدق احس شوي اقتنعت لو اختار انه يقعد فارسها ووفي لها بس عادي مب لازم يتزوجها
المهم ارييلا بسرعه خلصي هيلينا متى دور مشاعر لودفيك😔
التعليقات لهذا الفصل " 163"