بطبيعة الحال، لم تكن هيلينا الوحيدة التي تحمل جزءًا من مسؤولية موت ديلارك.
فثمة آخرون ارتبطوا بشكلٍ غير مباشر بتلك النهاية.
‘الكثير من الخيوط متشابكة…..’
خيانتها الشخصية، ومؤامرة كارين، وهجوم لودفيك، واستراتيجية أرييلا والسحر الذي بلغ حدّ المعجزة—
و في خضمّ هذه السلسلة المعقدة من الأسباب والنتائج، حتى قوانين العالم السفلي نفسها لم تستطع أن تحسب نسبة مساهمة كل طرف.
فلو حاولت تتبّع الأسباب إلى الوراء، لانتهت في حلقةٍ مفرغة: من سبق، الدجاجة أم البيضة؟
ولذلك اختار القانون الحلّ الأبسط— أن ينتقي آخر من تسبّب بشكلٍ مباشر وفوري في وقوع الموت.
“غغغغغغغغ!”
لقد كانت اللمسة الأخيرة، التي فعّلت تعويذة ديلارك الدفاعية القاتلة، هي لمسة هيلينا.
صحيحٌ أنها لم تكن تنوي قتله…..
‘لكن هل سيفهم القانون نيّتي؟’
لم يفعل. فالقانون لا يحكم بالنوايا، بل بالنتائج.
لمسة شفقةٍ بسيطة هي التي أكملت موت ديلارك.
“أبي….أنتَ..…”
في تلك اللحظة، أدركت الحقيقة بحدسٍ جليّ. هذا لم يكن قَدَرًا، بل انتقامًا.
قبل موته، كان ديلارك قد علم بأن ابنته فرت من وطنها إلى إقليم لودفيك. وقد أثار ذلك في صدره غضبًا حارقًا، جعله يتمنّى أن يقيّدها مجددًا إلى أرض مولدها.
عرش الإمارة المنهارة، والتاج المربوط بشمسٍ ملتوية عليلة— كان ذلك أسوأ إرثٍ يمكن لأبٍ أن يتركه لابنته.
“……!”
شعرت هيلينا بأن كل الأصوات في العالم قد تلاشت فجأة.
فششش!
وفي تلك اللحظة، في سماء إقليم ديلارك الذي لا يُرى إلا بعد اجتياز جبلٍ من أراضي لودفيك، انبثق من الشمس شعاعٌ هائلٌ من الضوء.
لكن لونه لم يكن ذهبيًا صافياً كضوء شمس لودفيك، بل كان مائلًا إلى البنفسجي الداكن، كجرحٍ مفتوحٍ في السماء.
“هـ-هاه؟”
“انظروا إلى السماء!”
لقد رأى سكان الإقليمين المشهد ذاته في آنٍ واحد. فمن أرض ديلارك إلى سماء لودفيك امتدّ عمود الضوء، تحيط به شراراتٌ بنفسجية ملتفّة كالأفاعي.
وكانت تلك الأشعة تتجه نحو شخصٍ واحدٍ فقط— نحو الوريثة التي اختارها القانون.
و لم يكن بوسع هيلينا أن تهرب.
‘آه..…!’
فششش!
ما إن لامس الضوء تاج رأسها حتى اخترقها تيارٌ جارفٌ من الطاقة.
لم يكن مجرد سحرٍ أو طاقةٍ روحية— بل فيضًا من التاريخ ذاته، منذ أول شروقٍ للشمس.
سمعت أصوات أجيالٍ من الأرواح التي سكنت هذه الأرض، صرخات الملوك الذين ورثوا الشمس من قبلها، وأنين الأرض التي عانت تحت ظلم ديلارك.
وكأن أرواح الأرض نفسها تمزّق روحها بأسنانٍ خفية.
ترددت أصداء الألم في أعماقها حتى امتزجت بها. واندفع حول جسدها دوّارٌ من الضوء الباهت المشوب بالبنفسج.
كانت المعلومات تتدفق داخل ذهنها كسيلٍ جارفٍ، فتحطّم وعيها ثم أُعيد تشكيله من جديد وسط العذاب.
وفي تلك اللحظة، وُسمت روحها بخاتم الملك الذي لا يُمحى.
فارتجفت هيلينا كأنها ورقةٌ في مهبّ الريح، وقد بهت لونها وذوى الدم من وجهها حين اكتمل التتويج.
‘هذه الشمس..…!’
للمرة الأولى شعرت بشيءٍ لم تختبره من قبل— اتصالٌ جديد يمتدّ من قمة رأسها إلى السماء البعيدة.
رغم أنها لم تفهم تمامًا ما يجري، إلا أنها أيقنت أن في الأمر خللًا.
فالشمس، في طبيعتها، يجب أن تُنشئ توازنًا بين الملك والإقليم، تدور بينهما بانسجامٍ مقدّس.
‘لكن هذا التيار…..خطر. إن استمرّ، سيفسد الأرض والشعب معًا…..’
كانت تلك آخر فكرةٍ راودتها قبل أن يغمر السواد عالمها وينقطع وعيها.
***
إقليم مملكة آيبيسيا. ثمة ظاهرةٌ طبيعية عجيبة لا يمكن العثور عليها إلا في هذه المنطقة وحدها.
“نبع الجليد.”
واليوم أيضًا، كان النبع الجليدي يبعث ضبابًا فضيًا ساكنًا إلى السماء.
مياهه الباردة أكثر من الجليد نفسه، ومع ذلك، كانت ترفض أن تتجمد، وتنبعث منها تياراتٌ صافية لا تنقطع.
لكن بخارها وحده كان يتجمد، مشكّلًا أعمدةً بلورية من الجليد تلمع في الأفق.
وفي قلب هذا المشهد الساحر، كانت امرأةٌ من بني الشياطين في منتصف العمر تجثو على ركبتيها.
“يا منبعي..…”
همست وهي ترفع أمنياتها.
“أرجوكَ، لتكن إقامة ابني هناك هادئةً وساكنة.”
كان ابنها، لير، قد اختفى فجأة منذ بضع سنوات.
ومنذ ذلك اليوم، لم يمرّ يومٌ إلا وجاءت فيه إلى هذا المكان.
فأهالي آيبيسيا يؤمنون أن هذا النبع الجليدي هو موضعٌ مقدّس، ولهذا يجلّونه كأرضٍ مقدسة.
أما هي، فقد تخلّت منذ زمنٍ بعيد عن أمل عودة ابنها حيًا. و كل ما كانت ترجوه هو أن تنعم روحه بالسلام.
“…….”
حتى بعد أن أنهت أمنيتها، بقيت جالسةً طويلاً فوق الأرض المتجمدة.
كان الضباب الفضيّ الذي يدور حول النبع أشبه بزفراتها اليومية، زفراتٍ باردةً وشفافة.
فمنذ أن فقدت ابنها، توقفت أيامها وجُمد زمنها مثل تلك الأعمدة الثلجية.
حزن الأم التي فقدت فلذة كبدها ظلّ يقيّد حياتها، باردًا ومؤلمًا كالجليد ذاته.
ببطءٍ، مدّت يدها المخدّرة من شدّة البرد وأسقطت زهرةً برية في مياه النبع.
وفي اللحظة التي لامست فيها أوراق الزهرة سطح الماء—
تشش!
انبعث صوتٌ خافت، صوت الحياة وهي تتبخر في لحظة.
وفي ومضة، تجمّدت الزهرة كلها بفضل الرطوبة العالقة في بتلاتها وساقها، فبدت كأنها تحفةٌ زجاجية شفافة.
ثم بدأت تغرق تدريجيًا في أعماق النبع، ببطءٍ…..شديد البُطء.
تابعت المرأة المشهد بعينين دامعتين، ثم نهضت أخيرًا لتعود إلى قريتها.
لكن في منتصف الطريق—
“هاه..…؟”
التقطت أذناها جلبةً غير مألوفة.
‘ما الذي يحدث؟’
كلما اقتربت من مدخل القرية، ازداد الضجيج وضوحًا. وحين بلغت بيتها، كان قلبها ينبض بجنونٍ كأنه يريد أن ينفجر.
لقد احتشد جمعٌ كبير من الجيران أمام المنزل. و بعضهم كان يتنهد بعمق، وآخرون كانوا يمسحون دموعهم خلسة.
فشعرت المرأة بأن أطرافها ترتجف دون إرادة منها.
“يقولون أنه كان أسيرًا في مملكة ديلارك الشيطانية!”
“يا إلهي…..من كان يظن أن أهوالًا كهذه تحدث على مقربةٍ من هنا؟!”
“لكنها معجزةٌ أنه نجا. ألم تسمعي؟ لقد اندلعت حربٌ بين ديلارك ولودفيك، وجيش لودفيك المنتصر أطلق سراح كل العبيد!”
“يا للرحمة…..هذا فضلٌ عظيم. أُوه؟ إنها هي!”
وبمجرد أن لمحها الجيران، تنحّوا جانبًا ليفسحوا لها الطريق.
كانت هناك مخلوقات “ترول الثلوج” النادرة، التي لا تظهر عادةً في مناطق سكن الشياطين.
و كان أحدهم يقف هناك، أطول وأضخم من أي ترولٍ عادي، يحمل على ظهره فأسًا عملاقًا لامعًا.
ومع ذلك، لم ترَ المرأة الترول جيدًا…..لأن عينيها كانتا قد ثبتتا على الرجل الشيطاني الواقف إلى جواره.
كانت سائر أفراد عائلة المرأة قد خرجوا أيضًا، يعانقونه وهم يبكون بمرارة. لكن عينيها لم تستطيعا أن تبتعدا عنه لحظةً واحدة.
جسدٌ هزيل، ثيابٌ ممزقة وبالية، ووجهٌ غائر الملامح محفورٌ بعلامات الشقاء الطويل.
ذلك الوجه…..كان وجه ابنها الذي لم يغب عن قلبها يومًا واحدًا.
“لير..…؟”
تسللت الكلمات من بين شفتيها بصوتٍ مبحوحٍ مرتجف. وحين سمع النداء، التفت لير ببطء، ثم تغيّر تعبير وجهه كأنه انهار من داخله.
فصرخت المرأة باسمه واندفعت نحوه تركض بجنون.
“كنتَ حيًّا…..يا ولدي، يا إلهي، لقد عدتَ إليّ فعلًا!”
احتضنته للمرة الأولى منذ سنواتٍ طويلة، وبكت كما تبكي طفلةٌ صغيرة.
ومن عيني لير انهمرت الدموع الغليظة دون توقف، كأنها تذيب سنوات الألم.
كان جسده الواهن يتمايل، لكنه تمالك نفسه بصعوبة وتحدّث بصوتٍ متحشرج،
“أمي!”
مدّت يدها المرتجفة تلمس وجهه، تتحسسه كأنها تخشى أن يكون حلمًا.
وفي تلك اللحظة، عادت ساعاتها المتجمدة للحياة من جديد.
***
بعد نهاية الحرب، لم يكن لير وحده من عاد إلى موطنه في مملكة آيبيسيا الشيطانية. فقد عاد الناجون الآخرون من عبيد الحرب واحدًا تلو الآخر إلى أوطانهم.
وخلال تلك الرحلة، قدّمت مملكة لودفيك الشيطانية دعمًا سخيًا، حتى أنها استعارت عرباتٍ من نقابة الجنوب التجارية لتأمين عودة الجميع.
أثارت قوافل العائدين موجةً من المشاعر المختلطة في أرجاء الجنوب، بين الفرح والدموع.
“إنه أنا يا صغيري، أنا أمكَ…..ألا تذكرينني؟”
لكن الطفلة التي افترقت عن أمها وهي رضيعة اختبأت خلف جدتها بخوف.
“أيها الأحمق! أين كنتَ كل هذه السنوات؟ ما الذي جعلكَ تختفي هكذا؟!”
قال الأخ الأصغر ذلك وهو يضرب صدر أخيه العائد بعد غيابٍ طويل، لكنها كانت ضربةً بلا قوة، مفعمةً بالدموع.
“يا عزيزتي…..إنها أنا، لقد عدتُ أخيرًا.”
همس الزوج العائد بعد سنوات الفراق، فاحتضنته زوجته طويلاً في صمتٍ ثقيل تملؤه الدموع.
انتشرت هذه القصص المؤثرة كالنار في الهشيم، كأنها شرارةٌ سقطت على حقلٍ من العشب اليابس.
ولوقتٍ طويل، لم يخلُ مجلسٌ في الجنوب من حديث العائدين.
“أتصدق أن ديلارك ارتكب كل تلك الفظائع؟ تلك المملكة الغنية كلها كانت قائمةً على دماء العبيد ودموعهم!”
“مقرفٌ لأبعد حد! لم يكن يستحق لقب الملك الشيطاني أصلًا.”
وانتشرت الشائعات بإعجابٍ ودهشة عن أولئك الذين أنقذوا الأسرى. وكان الثناء الأعظم من نصيب الذين أوصلوا عبيد ديلارك المحررين سالمين إلى ديارهم.
“الملك لودفيك هو من فعل هذا؟”
“يُقال أنه ليس قويًا فحسب، بل رحيمٌ أيضًا! لو استطعت، لهجرت مملكتي وذهبت للعيش في أرضه.”
“لكن أخبرني، كيف فاز لودفيك في الحرب رغم أن مملكته أصغر بكثير؟”
“ألم تسمع؟ جيشه كان يمتلك أسلحةً رهيبة لم يرَ الجنوب مثلها من قبل، مصنوعةٌ من مادةٍ غامضة.”
“وفوق ذلك، يُقال أن تنينًا ذهبيًا ظهر في المعركة الأخيرة وساعدهم!”
“آه! إذًا فهم انتصروا بفضل تنينٍ أسطوري!”
“ليس تمامًا، سمعت أن التنين ساعد فعلًا، لكن لودفيك كان متفوقًا منذ البداية بفضل استراتيجيةٍ عبقرية تقود جيشه.”
“استراتيجية؟ في مملكة لودفيك؟”
“نعم، والأعجب أنها بشريّة.”
“بشرية؟!”
_________________________
ايه بشريه لايكون عندكم مانع؟
المهم يا اني بكيت مع ام لير😭💔 وذي الام الي رجعت بس بنتها ماعرفتها اوتش ياقلبي
وتدرون وش الي يصيح اكثر؟ باقي 19 فصل على النهايه……..🫂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 161"