كانت تظن أن الأمر أوشك على الاكتمال، غير أن شيئًا بدأ ينحرف على نحوٍ مريب.
‘لماذا انقطع الاتصال بالشمس؟’
كانت منهمكةً في إتمام الطقس الرئيسي، تُتمتم بالتعاويذ، لذا لم يكن بوسعها أن تستخدم سحرًا آخر لتفقّد ساحة المعركة.
حتى تلك اللحظة، كان كل شيء يسير بسلاسة.
فقد كان ديلارك يمتص قوة الشمس بينما يتعرض لهجومٍ من لودفيك.
وخلال ذلك، حتى لو التحم جسده بلحمٍ جديد بفضل طاقة الشمس، فإن وعاءه الشيطانيّ لم يكن قادرًا على تجاوز حدوده الطبيعية.
بدأت روح ديلارك تتشقق ببطء، وكانت كارين تخطط للسيطرة عليه بالكامل في اللحظة الحاسمة.
ثم تكتفي بعد ذلك بجمع جوهر الشمس…..وينتهي الأمر.
لكن…..
‘لا أعرف ما الذي حدث، لكن يجب أن أسيطر على الوضع بسرعة.’
وفي النهاية، قررت ألا تنتظر أكثر.
رغم أنها شعرت أن الوقت مبكرٌ قليلًا، إلا أنها عزمت على استدعاء الجوهر فورًا.
“يا نوري الأول، أيتها الشعلة التي لا تنطفئ، أجيبي على ندائي.”
تشابكت الخطوط المعقدة للدائرة السحرية وتوهّجت بشدة. و اشتدّ وهج الهواء من حولها، وتبخّرت الظلال كما لو كانت تذوب تحت حرارةٍ مقدسة.
استجمعت تدفق السحر بعنفٍ أكبر، حتى شعرت بأن أعصاب جسدها تتوتر، وأن دماءها تحوّلت إلى سحرٍ يغلي في عروقها بدل الدم.
كان نواة الشمس التي وُلدت داخل جسد ديلارك على وشك أن تقع في قبضتها. فرفعت ذراعيها نحو السماء، وهتفت بآخر التعويذة،
“تعال إليّ، يا قلب الشمس! أجب نداء سيدكَ الجديد!”
في تلك اللحظة، تجمّد كل شيء. سكونٌ مروّع أشبه بما يسبق العاصفة.
وانطفأ النور الذي كان يلتف حول الدائرة السحرية فجأة، كأن الظلام ابتلع كل شيء.
فخفق قلب كارين بعنف.
لقد حدث خطأ. خطأٌ عميق…..من جذور الطقس نفسه.
“كهاه؟!”
لم تكن تتخيل. أن اللحظة التي نطقت فيها بتعويذتها كانت أسوأ توقيتٍ ممكن.
“ما…..ما هذه القوة؟!”
داخل تيار السحر الذي كان يربطها بديلارك، تسللت طاقةٌ غريبة وشديدة العنف، لا تنتمي لأي من العالمين.
وعندها فقدت التعويذة مسارها، وبدأ السحر بالارتداد عليها.
كان الأمر أشبه بطوفانٍ كونيٍّ يحاول الاندفاع بأكمله عبر مجرى نهرٍ ضيق.
“كك…..كياااااا!”
انطلقت منها صرخة وحشٍ ممزق. و الطاقة المرتدة مزّقت جسدها بلا رحمة.
أمعاؤها التوت، وعظامها تكسّرت من الداخل. اندفعت حرارةٌ مريعة إلى حلقها، وتفجّر سائلٌ ساخن ذو رائحةٍ معدنيةٍ لاذعة على جسدها.
“لا…..لااا!”
احمرّت رؤيتها، وكل شيءٍ حولها تلوّن بالدم. و نبض جسدها الممزق بتشنجاتٍ عنيفة.
ثم تدفقت منها دماءٌ سوداء بلا توقف.
ذلك الشيطان الذي حاول سرقة شمسٍ لا تغرب—— راح الآن يغرق في المستنقع الذي وضعته بنفسها.
***
“الملك الشيطاني…..باياكيا، تقول؟”
بعد أيامٍ قليلة، كانت أرييلا تجلس مع باي تستمع إلى حديث كيميلت.
فبعد الحرب، كان على أرييلا أن تأخذ وقتًا للراحة من إنهاكها، ولأن الكثير من الأمور الملحّة كانت تنتظرها، فقد أجّلت هذا اللقاء مرارًا.
حتى الآن، كان أمامها جبلٌ من المسؤوليات لتتفقده،
لكن هذا اللقاء بالتحديد لم تستطع رفضه، فالرجل الجالس أمامها هو من كشف الحقيقة التي لطالما بحثت عنها بنفسها دون جدوى.
“لكن ثمة أمرٌ غريب.”
قالت أرييلا ذلك وهي تضع يدها على ذقنها، غارقةً في التفكير.
وعندما كانت تركز على هذا النحو، كانت عيناها تلمعان بلونٍ ذهبيٍّ طبيعي دون أي تعويذة. فقد بات هذا البريق يظهر فيها كثيرًا، حتى من دون استخدام السحر.
“كنت أظن أنني قرأت كل ما كُتب عن تاريخ هذه الأرض..…”
كانت أرييلا تعرف جيدًا أن السجلات المتعلقة بالعصور القديمة وما تلاها مباشرةً مليئةٌ بالغموض.
ولهذا السبب، قرأت كل ما يمكن قراءته في مكتبات المملكة، بحثًا عن خيطٍ يكشف اللغز. ومع ذلك، لم تسمع قط باسم ملكٍ شيطاني يُدعى “باياكيا”.
فتحدّث كيميلت بهدوء،
“في العالم السفلي، ما سمعته عن باياكيا كان لا يتعدى الأساطير. أرضٌ بعيدة خلف البحار، تُوصف بأنها النعيم المفقود.”
تنهدت أرييلا بخفة.
“لم أكن أتخيل أن تلك الأرض الأسطورية نفسها هي مملكة لودفيك التي نقيم فيها اليوم.”
لكنها لم تستطع كبت تساؤلها،
لماذا تناقلت الأجيال تلك الأسطورة، بينما نسيت كليًّا أن هذه الأرض كانت هي ذاتها أرض باياكيا؟
ولماذا مُسحت سيرة ذلك الملك العظيم من التاريخ؟
قدّم كيميلت تفسيرًا مقنعًا لذلك،
“عندما تنهار حضارةٌ عظيمة، كثيرًا ما تتعمد الأجيال اللاحقة إلى محو آثارها عمدًا.”
بعد سقوط حضارة باياكيا، يبدو أن القوة التي تولّت الحكم تعمدت إلى طمس إنجازات الحاكم السابق.
“وجود ملكٍ حكيم ومقدس مثل باياكيا كان ليُبرز ضعف الحكّام اللاحقين واستبدادهم.”
فابتسمت أرييلا بمرارة،
“بالفعل، من مصلحة أي سلطةٍ جديدة أن تضع سرديةً تقول أنّ نظامها هو الأفضل.”
“كما أنها وسيلةٌ لإعادة تشكيل هوية الجماعة نفسها،”
أضاف كيميلت.
“فلو بقيت أمجاد الماضي في ذاكرة الناس، فقد يتحولون إلى معارضة تطالب بالعودة إلى تلك الحقبة.”
تذكّرت أرييلا أمثلةً كثيرة من عالم البشر، حيث دمّرت السلالات الجديدة مقابر من سبقها، أو أعلنت ملوكهم خونةً ومسحت أسماءهم من التاريخ.
لكن في هذه الأرض، يبدو أنهم اختاروا حذف كل شيء من الجذور.
“لهذا لم أجد في مكتبة المملكة أي كتابٍ يروي القصة بتفاصيلها.”
أومأ كيميلت موافقًا.
“المدوّنات الوحيدة التي بقيت كانت في الشمال، حيث لم تمتد يد السياسة إليها.”
كان ما يعرفه كيميلت عن الملكة الشيطانية باياكيا مستمدًا من تلك السجلات الشمالية.
أما مكتبة لودفيك التي درستها أرييلا، فكانت منقّاةً بعنايةٍ من قِبل أسلافها الذين أتمّوا عملية الإخفاء منذ زمنٍ بعيد.
وبعد مقارنةٍ دقيقة بين الوثائق الشمالية والجنوبية، توصّل كيميلت أخيرًا إلى الحقيقة.
“يبدو أنه كان يملك قوةً تضاهي قوة ملوك الشياطين العظام الذين جاؤوا بعده، ومع ذلك فضّل التعايش والازدهار على الحروب والغزو.”
في عهده، لم تُشن أي حربٍ من أجل التوسع. فقد كانت الأرض خصبةً بما يكفي، بفضل أشجار العالم العملاقة التي كانت ترتفع كالأبراج وتمنح الحياة بلا انقطاع.
لكن لماذا وُجدت تلك الأشجار بكثرةٍ في أراضيه دون غيرها؟
ابتسم كيميلت بخفة،
“هنا يظهر دور التنين الذهبي مجددًا.”
لم يرَ باياكيا في التنانين الذهبية مجرد مصدرٍ للقوة أو الثروة، بل اعتبرتهم رفقاء مقدّسين يحافظون على توازن عالم الشياطين.
وبفضل ذلك، كانت تلك التنانين تبني أعشاشها بحريةٍ في أراضيه، تنثر بركتها على التربة، فتتوهج الأرض بلونٍ ذهبيٍّ دائم، وتنمو شتلات أشجار العالم بلا توقف.
“وكانت ذروة تلك الثقة ما يُعرف بـ«عهد الشمس الذهبية».”
فقد قطعت التنانين الذهبية وعدًا أزليًا بالازدهار والصداقة مع باياكيا، ووهبته بيضةً واحدة——أعز ما تملك——رمزًا للعهد بينهما.
“تقول بعض الروايات أن التنانين الذهبية كانت تملك القدرة على التنبؤ بالمستقبل، لكن لا يوجد دليلٌ مؤكد على ذلك.”
وُضعت تلك البيضة في المزار المقدس، في المكان الذي تسطع فيه شمس باياكيا بأدفأ إشراقٍ لها، لتصبح رمزًا خالدًا للوحدة التي جمعت بين الجنسين.
“وفقًا للأسطورة، كانت تلك البيضة تُعرف بأنها «المفتاح» و«البذرة» التي أرسلها التنين الذهبي لينقذ الأجيال القادمة. ولهذا لم تُفقس على الفور، بل وُضعت في مكانٍ مقدّس تحت الحراسة.”
شعرت أرييلا بدوارٍ يضرب رأسها.
“من أجل الخلاص؟ هذا يعني أنهم كانوا يعلمون أن كارثةً كبرى ستهدد جنسهم في المستقبل.”
وإذا كانت هناك كارثة كهذه، فلا بد أنها تشير إلى الحدث الذي اختفى فيه التنانين الذهبية تمامًا من عالم الشياطين.
“هل تتحدث عن تنبؤهم بأن نسلهم سيغادر هذا العالم؟ هذا يصعب فهمه أكثر.”
فلو كانوا حقًا يعرفون المستقبل، لكان بوسعهم الاستعداد له.
لكن التنانين الذهبية اختفت رغم ذلك. فما هو الدور الذي كان من المفترض أن يؤديه باي إذًا؟ وما المقصود بقولهم أن تلك البيضة كانت خلاصًا للتنانين؟
في تلك اللحظة، تقدم كبير الخدم غرويب بانحناءةٍ خفيفة.
“عذرًا لمقاطعتكم، يا سيدتي أرييلا.”
اقترب منها وهمس في أذنها،
“السيد أولكن قد ألقى القبض على كارين. إنها محتجزة الآن في السجن السفلي.”
فابتسمت أرييلا براحةٍ واضحة.
“هذا مطمئن. ذلك أسرع مما توقعت.”
وقفت من مقعدها، ففهم كيميلت أن اللقاء قد انتهى وغادر بخطواتٍ متزنة.
وأثناء سيرها مع غرويب، تابع،
“كما أن السيدة هيلينا طلبت مقابلتكِ، وقد أبلغتني أن أنقل رغبتها شخصيًا.”
لم تكن ترغب في لقاء كارين، بل في مقابلة شخصٍ آخر. لترددت أرييلا لحظة، لكنها في النهاية وافقت.
***
في أراضي ملك الشياطين ديلارك. انتهت الحرب، وعمّ الحزن المدن التي خسرت المعركة.
و لم يتبقَّ سوى صمتٍ ثقيلٍ يغطي الأرض تحت سماءٍ رماديةٍ كالرصاص.
أما من بقي من سكان المملكة الشيطانية، فقد اكتسبوا عادةً جديدة.
“هاه.…”
كانوا، بين حينٍ وآخر، يرفعون رؤوسهم نحو السماء، مقاطعين أعمالهم اليومية. فشمسهم لا تزال هناك، لكنها لم تعد كما كانت.
“ما زالت صغيرة…..لا تبدو عليها أي علامةٍ على الانتعاش.”
التعليقات لهذا الفصل " 158"