قبل أن تبدأ أرييلا بإطلاق سحرها بدقائق قليلة. في أراضي لودفيك التابعة لملك الشياطين.
كان باي يتعامل بلا مبالاة مع المغامر كيميلت الذي جاء لزيارته مجددًا.
“السيد باي!”
“ماذا مجددًا؟”
حرّك التنين ذيله الضخم في كسل، يمسح به الأرض كما لو كان الأمر منزعجًا.
“هل جئتَ تسألني مجددًا عن ما قبل فقسي؟ لقد قلت لكَ من قبل.”
فتح باي فمه على وسعه وتثاءب تثاؤبًا واسعًا.
“التنانين لا تنسى شيئًا أبدًا، لكن هذا بعد الفقس من البيضة، أما قبل كسر القشرة فالذكريات تكون باهتة، أليس كذلك؟”
“لـ، لا…..ليس هذا ما أقصده.”
ارتجف صوت المغامر كيميلت بخفة.
“يا له من شخصٍ عنيد. هل الجان المظلم جميعهم بهذه الطباع؟”
ومع أنه تذمر هكذا، إلا أن باي ضيق عينيه وأخذ يتأمل ملامحه.
كان يبدو مختلفًا عن المعتاد. ما الذي يجعله متوترًا هكذا؟
طَط!
فتح كيميلت أمام باي عددًا من الكتب القديمة والخرائط.
و حتى أثناء ذلك، كانت أطراف أصابعه ترتجف قليلًا.
“السيد باي. باي…..السيد باي!”
“هذا اسمي، فلماذا تناديني هكذا؟”
“نعم، باي….لماذا…..لماذا اسمكَ باي؟”
عندها تغيّر تعبير تنين الذهب الصغير على نحو غريب.
هل هذا الجان المظلم فقد عقله من فرط انغماسه في البحث؟
كان باي يعلم أن بعض المخلوقات من البشر أو الشياطين تصاب أحيانًا بالجنون حين تفرط في الدراسة.
و كانت أرييلا هي من أخبرته بذلك ذات مرة، عندما حدثته عن ذكرياتها في عالم البشر.
وبالطبع، لم يكن ذلك يعني شيئًا لتنين عظيم مثله، لكنه قد يحدث عند “الأجناس الضعيفة” كالبشر أو الشياطين.
فهل يمكن أن يحدث ذلك أيضًا للجان؟
وبينما كان يفكر في كيفية التصرف إن بدأ هذا الجان المظلم بالجنون وهاجمه فجأة، أجاب بحذر.
“تسأل لماذا اسمي باي؟ أنتَ تعرف الجواب. تابعي الوفي تشاد هو من أطلق عليّ هذا الاسم.”
وكما يعلم الجميع في مقاطعة لودفيك، كان هذا التنين الذهبي ثرثارًا للغاية.
تذكّر كل ما مرّ به منذ لحظة فقسه، مما يعني أن لديه دومًا ما يتحدث عنه بلا نهاية. ولهذا السبب، لم يكن سكان المقاطعة وحدهم، بل حتى كيميلت نفسه، يعرف تفاصيل حياة هذا التنين بما يكفي ليؤلف عنها كتابًا.
فسأل كيميلت بصوتٍ متلهف مجددًا.
“نعم! الصبي تشاد هو من سمّاك بهذا الاسم، أليس كذلك؟ ولكن، ألا يُعدّ اسم باي اختصارًا لكلمةٍ أطول؟”
تذكر باي أن تشاد أطلق عليها الاسم بينما كانا يتناولان فطيرةً معًا في ذلك اليوم بالذات.
لكنه تذكر أيضًا القصة التي حكاها له آنذاك.
“صحيح، باياكيا!”
“باياكيا؟ ما معنى ذلك؟”
“قال أنها نعيمٌ يقع في مكانٍ بعيد وراء البحر.”
“نعيم؟ وما ذلك النعيم؟”
“أرضٌ يعيش فيها الجميع بسعادة دون جوع، حيث تنمو الأشجار بعلو الشمس، ويتفجر الذهب من الأرض كنبع ماء.”
“أووو؟”
“لذلك اختصر الاسم إلى باي! ما رأيكَ؟”
حين سمِع كيميلت ذلك، تلألأت عيناه بوميض فضول.
“باياكيا! النعيم القديم الذي لا يعلم أحدٌ منذ كم من العصور وُجد!”
ثم فتح أمامه خريطةً بالية.
“لقد كنا جميعًا مخطئين طوال هذا الوقت، بسبب الجملة التي تقول أن باياكيا نعيمٌ يقع ‘وراء البحر’.”
“وما الذي يعنيه بهذا؟”
“السيد باي، فكّر في الأمر. بحر عالم الشياطين ليس إلا حاجزًا يمنع الحركة، بل إنه لا توجد أراضٍ مأهولة خلفه. في الجزر البعيدة لا يوجد سوى وحوشٍ قليلة بالكاد.”
وكان باي يعرف تلك الحقيقة جيدًا، فقد أبحر بنفسه مرتين وحدد مواقع الجزر ونباتاتها بعينيه.
“ومع ذلك؟”
“ومع ذلك، تقول الأسطورة أن هناك نعيمٌ يقع وراء البحر، أي مكان لا يمكن الوصول إليه سيرًا على الأقدام. فكرّ، أين يمكن أن تكون أرضٌ لا يُمكن بلوغها إلا بعبور البحر؟”
عندها جلس باي مستقيماً وقد بدا عليه الاهتمام.
“……الشمال؟”
فالأرض الوحيدة التي يمكن الوصول إليها من أراضي لودفيك بإبحارٍ عبر البحر هي بلا شك الشمال.
تذكّرت ياي افتراض أرييلا القديم، حين قالت أنه في الأزمنة السحيقة لم يكن هناك سبيلٌ إلى تلك الأرض سوى عبر البحر.
وهذا يعني أنه ربما حتى في عصر وجود باياكيا، كانت هناك سفن تُبحر بين الجانبين.
فسأل باي بصوتٍ يحمل الحيرة.
“أتقصد أن نعيم الأساطير، باياكيا، يقع في الشمال وراء البحر؟”
“كلا!”
هزّ كيميلت رأسه بقوة وحزم.
“هذا ما يُسمّى بخطأ انتقال الإحداثيات المكانية!”
“ماذااا؟”
“أي أن الأشخاص الذين نقلوا الأسطورة غيّروا موضعهم المكاني، لكن عبارات الاتجاه بقيت كما هي، مما أدى إلى انحرافٍ في تحديد الجهة!”
كانت هذه أول مرة يسمع فيها باي مثل هذا الكلام، فرفع أذنيه باهتمامٍ وفضول.
“في الواقع، المكان الذي نُقلت منه أسطورة نعيم باياكيا لأول مرة لم يكن الجنوب، بل الشمال!”
“تعود الأسطورة إلى الزمن الذي بدأت فيه الأراضي الشمالية لعالم الشياطين بدخول عصر التاريخ! هل أخبركِ بأمرٍ أكثر إثارة؟ في ذلك الزمان، كان الجنوب أكثر تطورًا من الشمال!”
“أوهو؟”
توقف باي عن خدش حراشف عنقه بمخلبه، وأصغى بكل تركيز.
كيميلت، الذي كان يستكشف الشمال منذ زمن، كان يعرف تاريخه أكثر مما يعرف تاريخ الجنوب.
“نعم، كان الأمر عكسيًا تمامًا عمّا هو الآن! والأكثر غرابة، أنه في تلك الحقبة، كان هناك تبادلٌ بحري بين الجنوب والشمال. بما أن الشمال لم يكن يمتلك بعد تقنية بناء السفن، كان أهل الجنوب يبحرون إليهم وينشرون علومهم المتقدمة هناك.”
“هاه؟ انتظر قليلًا.”
راود باي مشهدٌ واضح في ذهنه أثناء استماعه. وشعر كيميلت بأنه يتبع حديثه بدقة، فتابع كلامه بحماسٍ أكبر.
“يقال أن بعض الشياطين الشماليين حينها ركبوا السفن متجهين إلى الجنوب بدافع الفضول لرؤية العالم هناك! وهناك وصلوا إلى أكثر أراضي الجنوب ازدهارًا.”
كانت تلك الأرض بالفعل قريبةً من معنى النعيم ذاته.
“أشجارها كانت تعانق الشمس بارتفاعها، والذهب يتفجر من الأرض كينابيع ماء. تخيّل روعة ذلك!”
“تلك الأرض، لا تقل لي أنها……؟”
اهتز صوت كيميلت وهو يشتعل بالحماس.
“بعد بحثي في المخطوطات القديمة داخل هذه المكتبة، وجدت خيطًا يقود إلى الحقيقة. في العصور القديمة، كان في جنوب عالم الشياطين ملكٌ يُدعى باياكيا. ويقال أن مقاطعته بلغت من الازدهار ما لم يبلغه أي عهدٍ آخر! حضارةٌ غامضة لا يمكن تفسيرها حتى بأحدث السحر أو التقنيات الحديثة.”
“باياكيا.”
كرر التنين الذهبي الاسم في فمها ببطء.
“في عالم الشياطين، هناك عادةٌ تقضي بأن تُسمّى الأراضي بأسماء ملوكها. فهذه الأرض تُدعى مملكة لودفيك لأن الملك الشيطاني لودفيك هو من يحكمها، أليس كذلك؟ وبالمثل، عندما يتبدّل الحاكم، يتبدّل اسم المملكة تبعًا له.”
إن ظهور اسم باياكيا في السجلات الجغرافية يعني أن هناك في ذلك العصر حاكمًا يحمل ذلك الاسم بالفعل.
ثم دخل كيميلت في صلب الموضوع،
“بعد مقارنة كتب الشمال بمخطوطات هذه المكتبة، توصلت إلى دليلٍ قاطع. السيد باي، أرجو ألا تُصدم!”
قال ذلك بصوتٍ يرتجف من الانفعال،
“القلعة التي كان يسكنها الملك الشيطاني باياكيا منذ زمنٍ سحيق، تقع تمامًا أسفل هذا المبنى الذي نقف فيه الآن!”
“……؟!”
“المكتبة المدفونة تحت قلعة لودفيك لم تكن سوى قلعة باياكيا القديمة!”
لهاثه المتقطع كشف مدى انفعاله وهو يتابع بحماسٍ متقد،
“إن النعيم الذي وصفه سكان الشمال في الأساطير بأنه ’وراء البحر‘ لم تكن سوى مملكة لودفيك نفسها!”
ومع مرور القرون، نسي سكان هذه الأرض الأصليون تاريخهم العريق ومجدهم الغابر، بينما انتقلت الأسطورة إلى الجنوب، فصار الشياطين الجنوبيون لا يعرفون موضع تلك الأرض بالضبط، ولم يبقَ في ذاكرتهم سوى قصة “النعيم وراء البحر”.
“وهناك ما هو أهم من هذا!”
قال كيميلت ذلك متلعثمًا من فرط الحماس، كأنه لا يدري من أين يبدأ.
“دعنا نعود إلى قصة اسمكَ. لماذا اختير اسم ’باي‘ تحديدًا لتنينٍ ذهبي صغير؟ وكيف تذكّر الصبي تشاد تلك الحكاية القديمة؟ هل كان كل ذلك صدفة؟ أم أنه مصيرٌ مُحدّد منذ زمنٍ بعيد؟”
ارتجف جسده قليلًا، وقد غمره شعورٌ غامض بين الرهبة والدهشة.
“وُضِعت بيضتكَ في هذه الأرض تحديدًا، أرض لودفيك التي كانت فيما مضى مملكة باياكيا، لسببٍ عميق.”
أرضٌ يتفجر منها الذهب كينبوعٍ لا ينضب.
لم تكن تلك الجملة مجرّد وصفٍ حرفي، بل استعارةً أطلقها الشياطين القدماء بعد أن شهدوا ظواهر أشبه بالمعجزات.
“باياكيا عقد عهدًا مقدسًا قبل رحيل التنانين الذهبية عن عالم الشياطين بوقتٍ طويل. إنه وعدٌ مقدّس يتجاوز حدود الزمن……!”
“انتظر لحظة!”
قاطع باي كلامه دون أن تلتفت نحوه. و تمتم بصوتٍ خافتٍ مبحوح،
“……أرييلا؟”
فسأله كيميلت بارتباك،
“ماذا هناك؟”
و أجابه بحزمٍ لا يقبل الجدال،
“عليّ أن أذهب.”
“إلى أين؟”
“إلى حيث أرييلا.”
لكن ألم تكن أرييلا قد أمرته بحراسة القلعة؟
رغم ذلك، كانت أجنحة التنين قد انفتحت بالفعل. و لم يكن في ملامحها ما يوحي بأنه سيتراجع، مهما حاول أحدٌ إيقافه.
ثم تحدّث بصوتٍ يجمع بين اليقين والقلق،
“أرييلا في خطر.”
وما إن أنهى كلماته، حتى خفقت أجنحته بعنفٍ، وانطلق نحو السماء خارج القلعة.
بوووووم!
“السيد باي؟!”
وقف كيميلت مذهولًا في مكانه، عاجزًا عن الحركة.
و تحت شمسٍ متوهجة، اخترق التنين الذهبية السماء كسهمٍ من نور، يشقّ الأفق في ومضةٍ من الحزم والقلق.
____________________
واو لو يدرون تشاد عطى باي الاسم عشان الفطيره وش بيسوي كيميلت؟😭
بس الصدق واااو تاريخ مملكتهم رايع
وذولا الشمال كان فقراء وجايين يتحضرون من الجنوب والحين صار العكس حالهم يقهر
التعليقات لهذا الفصل " 156"