ريتشموند أطلق ضحكةً منخفضة.
“البشر الذين قابلتهم كانوا يُظهرون رعباً شديداً ونفوراً حين يرون هيكلاً عظمياً يتحرك أمامهم.”
ثم هزّ غرويب رأسه موافقاً.
“البشر الذين رأيتهم كانوا كذلك أيضاً. الآنسة أرييلا….مختلفةٌ عن البشر العاديين.”
“بالضبط! من المدهش أنها رأت الهيكل العظمي وفكّرت مباشرةً باستخدامه كقوة قتالية.”
ما هذا، هل كان الحديث عن شيء كهذا؟
فردّت أرييلا دون أي تغيير في ملامح وجهها.
“مقزّز أو لا، نحن على وشك الانهيار، لذا علينا استخدام كل ما يمكننا استخدامه. سواءً كان كلباً حياً أو ميتاً، ما دام يحرس المنزل جيداً، فهذا يكفي، أليس كذلك؟”
“…..هاها! هاهاهاها!”
بدا أن ريتشموند أصبح في مزاج رائع. إذ أطلق ضحكةً أعلى من ذي قبل.
“سواءً كان كلباً حياً أو ميتاً، ما دام يحرس المنزل جيداً! هذا صائب! هذا يتوافق تماماً مع فلسفتي!”
ريتشموند، بدقة أكثر، هو ميت أيضاً. وبالتالي، قد يكون المقصود بالكلب الميت الذي ذكرته أرييلا ليس الهيكل العظمي، بل ريتشموند نفسه.
ومع ذلك، لم يُبدِ ريتشموند أي انزعاج إطلاقاً.
“يسعدني أن ألتقي أخيراً برفيق يشاطرني الرؤية. على أي حال، للإجابة على سؤالكِ، لا يمكن استخدام هؤلاء كقوات حراسة.”
“ولم لا؟”
“لأن وقت استدعائهم محدود. فقد ماتوا منذ وقت طويل.”
ومع ذلك، قال أنهم سيحمون أرييلا أثناء الوقت القصير الذي سيقضونه خارجاً.
و كان لدى أرييلا الكثير من الأسئلة.
ما علاقة مرور الوقت بعد الموت بالسحر، ولماذا يصمد الزومبي أكثر من الهيكل العظمي، وما مزايا وعيوب استخدام الزومبي كقوة قتالية، ولماذا تختلف ذبذبات المانا في تقنيات التعامل مع الجثث.
تتابعت الأسئلة في ذهنها دون توقف. وكانت تحرّك شفتيها بصمت، وهي تحاول كتم سيل الأسئلة الذي يكاد ينفجر كألعاب نارية.
و يبدو أن ريتشموند قد لاحظ علامات الفضول فتحدث بلطف،
“هل ترغبين، ربما، في تعلُّم هذه التعويذة؟ إنها من السحر الذي يصنّفه البشر على أنه من أشرّ الأنواع.”
“نعم! بالتأكيد.”
أجابت بحماسةٍ وكأنها كانت تنتظر هذا العرض، لكنها سرعان ما عادت إلى الواقع العملي.
“لكن لديّ أمورٌ أخرى يجب أن أنجزها أولاً.”
هزّ ريتشموند رأسه موافقاً.
“إن لم يتغير هذا الشعور لاحقاً، فعودي إليّ من جديد. بالطبع سيكون هناك مقابل.”
“مقابل؟”
هل يعني أنه لا توجد دروسٌ مجانية؟
تحدث ريتشموند بصوت تخللته مودةٌ أعمق من ذي قبل،
“حتى وإن كنتِ متعاقدةً مع ملك الشياطين، لا يمكنكِ الحصول على كل شيءٍ مجاناً. فهذه التعويذة هي ثمرة كل حياتي ومماتي، تحفةٌ فنية بلغت بها أقصى حدودي!”
كانت كلماته مشبعةً بالفخر والشغف، كما يليق بشخص غارق في فنون السحر.
وبينما كانت أرييلا تعيد التفكير في كلماته، ضمّ ريتشموند عظام يديه البيضاء وأضاف،
“إذاً، عندما تكونين مستعدةً لدفع أجر الدروس، وقتها سأنتظركِ.”
***
قررت أرييلا تأجيل أسئلتها الكثيرة حول سحر الموتى الأحياء لوقت لاحق، وخرجت من الغرفة.
وعندما رأت الجنيّة الهيكل العظمي الذي تبع أرييلا، ارتعبت وقفزت لتلتصق على كتفها.
“آنسة أرييلا! ألم تشعري بالخوف؟”
“بالخوف؟”
“أقصد من ذلك الشخص!”
عبّرت أرييلا عن الانطباع الذي تشكّل لديها عن ريتشموند.
“إنه شخصٌ يمكن التفاهم معه أكثر مما توقعت. فطريقة تفكيره منطقيةٌ أيضاً.”
“…..ماذا؟”
التوت ملامح فيلي بطريقةٍ غريبة، وكأنها سمعت شيئاً لا يُعقل. لدرجة أن أرييلا شعرت بالحرج.
“ما الأمر؟ هل ما قلته كان صادماً إلى هذه الدرجة؟”
“نعم. هذه أول مرة أسمع أحداً يمدحه.”
ثم خفضت فيلي صوتها وأكملت،
“في الواقع، معظم سكان الإقطاعية يخافونه. لدرجة أنهم يتجنبون الاقتراب منه.”
“حقاً؟ لماذا؟”
“السمعة المنتشرة عنه سيئةٌ جداً.”
يبدو أن لذلك الهيكل سمعةٌ أسوأ مما توقعت.
يُقال إن هوايته هي اختطاف سكان الإقطاعية وتحويلهم إلى موتى أحياء للتسلية. لكن أرييلا لم تتقبل الأمر بسهولة.
‘هل من المعقول أن لودفيك يغضّ الطرف عن ذلك؟ من الطبيعي أن يهرب السكان إن انتشرت هذه الشائعات.’
تجهمت قليلاً وهي تفكر.
‘……لكن، صحيحٌ أن لودفيك لا يمكن الاعتماد عليه كثيراً. و أحياناً يبدو وكأن مرؤوسيه يتجرؤون عليه.’
ومن البداية، كيف انتهى به الأمر ليتحمّل مسؤولية إقطاعية على وشك الانهيار؟
حين خطر لودفيك في بالها، تشتّتت أفكارها تماماً وانحرفت عن موضوع الهيكل.
و امتلأ رأسها مجدداً بذلك الملك الشيطاني ونُسي ريتشموند للحظة.
لكن همسةٌ من الجنيّة أعادتها إلى الواقع وأعادتها إلى مسار أفكارها.
“حتى لو كنتِ متعاقدةً مع ملك الشياطين يا أرييلا، لا يمكنكِ أن تطمئني تماماً.”
“لماذا؟”
“يُقال أن سبب مجيئه إلى هنا هو أنه حوّل أحد رؤسائه إلى ميت حي وتمّ كشف أمره!”
“هممم، صحيح؟”
لكن أرييلا لم تُعر الأمر اهتماماً كبيراً.
‘الإشاعات دائماً ما تكون مبالغاً فيها.’
وإن تمكّنت من كسب ريتشموند إلى صفها، فقد تتمكن من تعلم ذلك السحر العجيب.
كانت أرييلا، وقد سيطر عليها الشغف بالتعويذة الجديدة، تفسّر كل شيءٍ على هواها.
“على أي حال، كم بقي حتى نصل؟”
“علينا فقط عبور ذلك النهر. هل تتذكرين الجسر الذي حدثتكِ عنه؟”
“أي جسر؟”
“الجسر الذي ينهار باستمرار. لقد انهار مرة أخرى مؤخراً، وهم يعيدون بناءه الآن. لذا، رغم الإزعاج، علينا أن نسلك طريقاً أطول قليلاً.”
سماع هذا وحده كان كفيلاً بأن يُشعل الغيظ في قلبها.
انهياراتٌ تتكرر باستمرار؟ في المملكة التي كانت فيها سابقاً، أمرٌ كهذا لا يمكن تصوره.
ليس فقط لأن حياة الناس ستكون في خطر، بل لأن انقطاع الطرق يعني توقف حركة البضائع، وهي بمثابة شريان الحياة للدولة.
هل السبب هو ضعف في تقنيات البناء؟
“كم مرة تقريباً ينهار ذلك الجسر؟”
“آخر مرة…..كانت قبل قدوم سيد الظلام بقليل، يعني منذ سنة تقريباً.”
حتى مع ذلك، سنة واحدة تعتبر فترةً قصيرة جداً. وكأنهم بنوه بأعواد الأسنان.
مرّوا بموقع أعمال بناء الجسر، حيث كان هناك عفاريت مجتمعون، وسلكت المجموعة طريقاً ملتفاً عبر نقطة ضحلة من النهر.
“آه، ها هي، يمكن رؤية السلايم من هنا.”
وصل الاثنان قريباً من منطقة تتجول فيها كائنات السلايم ببطء.
“هل ستقومين بصيدها فعلاً؟”
“نعم.”
ثم نظرت أرييلا إلى جنود الهيكل العظمي من الأورك المحيطين بها.
‘لِمَ لا أجرب شيئاً الآن؟’
و صاحت نحو الهياكل العظمية،
“أمسكوا بذلك السلايم!”
“…….”
“…….”
“…….”
“…….”
لكن الهياكل العظمية بقيت واقفةً في أماكنها دون أن تتحرك قيد أنملة. و بفضل ذلك، خيّم صمتٌ محرج بين أرييلا، فيلي، والهياكل العظمية.
شعرت أرييلا بحرج شديد أمام الجنيّة، فحاولت استعجالهم.
“أعزائي الهياكل العظمية؟”
“…….”
“…….”
“…….”
“…….”
“هيه!”
لكن لم يكن هناك أي رد كالعادة.
‘هل السبب أنهم لا يملكون آذاناً فلا يسمعون؟ لا، هذا غير منطقي. فكلام ريتشموند كانوا يفهمونه جيداً…..’
بعدها جرّبت معهم كل شيء، من الأوامر إلى التهديدات، لكن الهياكل العظمية بقيت بلا حراك.
على ما يبدو، هم مبرمجون فقط لحراستها، ويرفضون تنفيذ أي شيء آخر.
‘ما هو الحدّ الفاصل بالضبط لمفهوم “الحراسة”؟ ماذا لو وجدت نفسي في موقف خطر إن لم ينفذوا أمري؟ هل سيستجيبون حينها؟’
لو كان لديها وقتٌ أكثر، لكانت أجرت المزيد من التجارب. لكن الوضع لم يسمح بذلك.
ثم نظرت أرييلا إلى السماء التي امتلأت بالغيوم السوداء.
“فيلي، قلتِ أنكِ تجيدين استخدام بعض التعاويذ البسيطة، صحيح؟”
“نعم، بالتأكيد.”
“يبدو أننا سنضطر للإمساك به بأنفسنا.”
“هل سنفعل؟”
بادرت فيلي بترديد تعويذة أولاً. و راقبتها أرييلا بعينين متلألئتين من الفضول. كيف سيكون شكل السحر الذي تستخدمه الجنيّة؟
‘أوه؟’
طريقة تحريك الطاقة السحرية كانت مشابهةً لما قرأته في كتب السحر.
“قبض!”
نسجت الجنيّة شبكةً من الطاقة السحرية من أطراف أصابعها، ثم ألقتها نحو السلايم. فغطّت الشبكة المصنوعة من خيوط غير مرئية السلايم بالكامل.
لكن،
تحرّك- تحرّك!
زلق-!
استشعر السلايم الخطر، فاستجاب بسرعة. و جسده اللين المتموّج ارتجّ كما لو كان سائلاً، ثم تمدد وانبسط.
“آه!”
فأطلقت الجنيّة شهقةً مؤسفة. بينما انزلق السلايم
بخفة من بين فتحات الشبكة ونجا.
لأعادت فيلي ترديد نفس التعويذة مرة أخرى.
“قبض! قبض!”
لكن الشيء نفسه تكرّر مجدداً.
‘آه، فيلي طيبة القلب، لكنها……’
نظرت أرييلا إلى فيلي التي بدت على وشك البكاء، وفهمت المشكلة بسرعة.
‘لا تُحسن التصرف في العمل.’
الشبكة التي صنعتها فيلي كانت واسعة الفتحات وفضفاضةً جداً. لو جعلتها أكثر إحكاماً ودقة لنجحت.
لماذا تُلقيها بتلك الطريقة؟
بينما كانت تراقبها، شعرت أرييلا أنه حان الوقت لتجرب الأمر بنفسها.
“آه؟ ماذا ستفعلين؟”
“سأجرب أنا أيضاً.”
“آه…..حسناً..…”
بدت فيلي وكأنها لا تتوقع شيئاً يُذكر. فالعالم البشري الذي قرأت عنه في الكتب كان أقرب إلى أرضٍ قاحلة من حيث السحر.
و لم تكن تعرف كيف تعلمت أرييلا السحر، لكنها لم تتصور أن مستواها سيكون مرتفعاً.
لذلك، وبدلاً من الإدلاء بأي تعليق، تنحّت بهدوء جانباً، لا ترغب في إثارة استياء أرييلا.
ثم وقفت أرييلا في المقدمة، وترددت لحظة قبل أن تردد التعويذة.
‘هل من الممكن أن يؤثر هذا مجدداً على لودفيك؟’
بحسب ريتشموند، فإن طاقة أرييلا الكامنة، أو “قدرتها على التحمل”، كانت ضخمةً لدرجة أنها بمستوى ملك الشياطين.
لكن قواها التي ظهرت حتى الآن كانت محدودةً جداً. وفي حال حاولت استخدام قدرات تفوق مستواها الحالي، فهي تميل لا إرادياً إلى سحب طاقةٍ من لودفيك.
وهي حالةٌ نادرة، لكن ذلك ممكن فقط لأن “وعاء” أرييلا كبيرٌ بشكل غير طبيعي.
‘عندما واجهت بيفار، أعتقد أنني تصرفت بدافع غريزة البقاء.’
و لشدة الاستعجال، امتصت كل طاقة لودفيك دون وعي منها.
لكن هذه المرة، قررت أن تسيطر تماماً على كمية الطاقة التي ستستخدمها.
ثم بدأت طاقتها تدور عند أطراف أصابعها، مشكّلة شكلاً معقداً ومتقناً.
‘هذا لا يكفي…..يجب أن يكون أدق!’
بما أنها كانت تتدرب سراً على السحر في العالم البشري، لم يكن بإمكانها استخدام طاقةٍ ضخمة أثناء التدريب.
لذا ركّزت تدريباتها على استخدام كمياتٍ صغيرة من الطاقة، وتحريكها بطريقة دقيقة ومعقدة.
ولو شبّهناها بفنان، فهي لم تكن تنحت تماثيل ضخمة يمكن رؤيتها من بعيد، بل كانت تنحت قطعاً بحجم الظفر، تنقش فيها تعقيد حركة الشمس والقمر والنجوم.
وهكذا، بفضل موهبتها الفطرية والتدريب طويل الأمد…..امتلكت أرييلا قدرةً خارقة على التحكم بالطاقة تفوق التصور.
لكنها لم تكن تعلم بعد أن موهبتها هذه تُعتبر نادرة حتى بين سلالة الشياطين أنفسهم.
“قبض!”
وفي اللحظة التي انطلقت فيها شبكة الطاقة السحرية من يد أرييلا…..شهقت فيلي بدهشة مذهولة.
__________________
ايه مايمديكم عليها
ريتشموند ضحكني مسكين بعد احسه مظلوم 😂
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"