بعد عودتها إلى قصرها، بدأت كارينا تتجول بلا هدف في غرفة الاستقبال، غارقة في أفكارها المضطربة لقد قبلت عرض آيدان مؤقتًا، لكنها لم تكن متأكدة إن كان ذلك القرار صائبًا.
الموت خلال ثلاث سنوات… كانت قد طلبت الطلاق لتتجنّب ذلك المصير، ولكن هل من الضروري أن يحدث ذلك فعلاً بعد ثلاث سنوات؟ أليست الأمور قد تغيّرت منذ اللحظة التي ذهبت فيها لمقابلة آيدان؟
وفوق ذلك، بما أنّ روح آيدان قد تغيّرت إلى شخص آخر، فقد تغيّر أيضًا تعامله مع كيت سبنسر بدا آيدان الحالي وكأنه لا يكنّ لها أي اهتمام على الإطلاق.
فإن لم تحمل كيت بطفله، فهل سيتغيّر المستقبل؟ وإن كان كذلك، ألن تنتفي الحاجة إلى الطلاق من آيدن منذ البداية؟
حتى بلغت هذا الحد من التفكير، ضحكت كارينا بخفة وهزّت رأسها لم يكن معلومًا بعد إلى أي مدى سيتأقلم آيدان الحالي مع الحياة في القصر الإمبراطوري في أسوأ الأحوال، قد يلقى حتفه على يد الإمبراطورة خلال نصف عام، دون أن يصمد حتى مرور ثلاث سنوات.
وبالنظر إلى شخصيته التي أظهرها مؤخرًا، بدا أنه قادر على إثارة المشاكل وأكثر من ذلك فهل كان آيدان الأصلي، الذي حاول ألا يبرز أبدًا، أفضل منه حقًّا؟
سخافة.
بدلًا من رؤية ذلك العجز مجددًا، من الأفضل أن يكون هناك شخص يجرؤ على المقاومة، سواء انتهى الأمر بخير أم لا.
لكنها ستضطر إلى التأكد من أنه لن يتسبب في أي حادثة كبيرة خلال نصف العام القادم، إذ كان هدف كارينا في النهاية هو أن تطلّقه وتغادر القصر الإمبراطوري بسلام، دون إثارة أي ضجة.
ولحين ذلك، وبما أنّ آيدان قد ابتعد عن كيت سبنسر، التي كانت سببًا في اندلاع التمرّد أو أية حادثة بعد ثلاث سنوات، فقد تتغيّر الأمور حتى وإن تغيّرت مجددًا.
**صاحب السمو! إنّها أنا، كيت! كيت التي أحببتِها!**
تذكّرت كيف صرخت كيت بأنها كيت سبنسر حتى أثناء جرّها بعيدًا وعندما تذكّرت وجه آيدان الذي لم يلتفت إليها رغم صراخها، لم تستطع إلا أن تضحك.
في الواقع، كان ذلك مُرضيًا قليلًا ففي الماضي، حتى عندما كان آيدان يتحدث معها، إذا وصلته رسالة تفيد بأن كيت سبنسر قد حضرت، كان يضطرب ويغادر مسرعًا.
لم تكن كيت وحدها من كانت مخلصة له بإخلاصٍ أعمى، بل كانت أيضًا مميّزة لديه إلى حدٍّ ما.
ومع ذلك، عاملها آيدن الحالي كما لو كانت غريبة تمامًا حسنًا، بالنسبة لآيدان الذي يسكن ذلك الجسد الآن، كانت بالفعل غريبة عنه.
لكن الأمر نفسه ينطبق عليها أيضًا فكارينا هيويت لم تكن تختلف عن غريبة بالنسبة لآيدان الحالي.
ومع ذلك، فقد اختارها هي على كيت.
“يبدو أنّ شيئًا سارًّا قد حدث لك.”
قالت بيرنيس وهي تدخل غرفة الاستقبال وتضع الشاي على الطاولة عندها أدركت كارينا أن شفتيها كانتا تبتسمان لا إراديًا، فتنحنحت محاولة ضبط ملامح وجهها.
“هل هو بسبب ما حدث قبل قليل؟”
سألت بيرنيس بابتسامة خفيفة وعينيها نصف مغمضتين.
“ما الذي حدث قبل قليل؟”
تظاهرت كارينا بعدم الفهم، فأجابت بيرنيس بتوضيح
“الآنسة كيت سبنسر.”
“بصراحة، شعرت بالارتياح الكامل حينها يبدو أن سموّه شعر بالأسف تجاهك ورغم أن ما حدث البارحة كان مخيبًا بعض الشيء، إلا أنه على الأقل صان كرامتك أمام الآنسة كيت سبنسر.”
هكذا كان الأمر يبدو للآخرين، ومن ضمنهم بيرنيس.
صحيح أن خيانته في ليلة الزفاف كانت أسوأ ما يمكن، لكنهم على الأقل اعتبروا أنه منح الأولوية لزوجته الشرعية.
أما الحقيقة، فكانت مختلفة تمامًا عمّا يظنون، غير أن إظهار الموقف وكأنه تصرّف لحفظ كرامة كارينا لم يكن أمرًا سيئًا.
بل كان أفضل بكثير من أن ترى عشيقته تعتني به في غرفة الأمير بعد أن خان زوجته في ليلة زفافهما.
الحاضر أفضل من الماضي.
كانت تلك مجرد بداية صغيرة، لكنها البداية مع ذلك.
“بيرنيس.”
“نعم.”
“لو كنتِ تعلمين ما سيحدث في المستقبل، ماذا كنتِ ستفعلين؟”
“مستقبلي أنا؟”
أمالت رأسها متسائلة، وكأن الفكرة لم تخطر ببالها من قبل.
“ذلك يعتمد على نوع المستقبل الذي أراه، أليس كذلك؟”
“وإن رأيتِ… موتكِ؟”
“يا له من افتراض مروّع.”
تجهم وجه بيرنيس وكأنها تخيّلت المشهد أمامها.
“سأحاول تفاديه إن أمكن، أليس هذا طبيعيًا؟ إن رأيت أنني سأموت بسبب مرض، فسأحاول ألا أمرض وإن كان موتي في حادث، فسأتجنب القيام بما قد يؤدي إلى ذلك الحادث أما إن كان موتي من الشيخوخة… فذلك أمر لا مفرّ منه.”
كان ردّها خفيفًا بسيطًا، لا يتضمن احتمالات كالموت بتهمة الخيانة أو على حدّ السيف.
ومع ذلك، كان جوابها واضحًا ومباشرًا: ببساطة، لا تقومي بما يؤدي إلى الموت، أيًّا كان.
كانت كارينا قد ظنّت أن الطريقة لتجنّب ذلك هي الطلاق، لكن بما أن الطلاق قد أُجّل لمدة نصف عام، فقد بات واضحًا ما ينبغي عليها فعله الآن.
يجب ألا تسمح لآيدان بأن يُنجب طفلًا من امرأة أخرى، وأن تجعله وريثًا للعرش كما كانت عائلة هيويت تخطّط منذ البداية، ليحصل بذلك على السلطة الكاملة.
ولحسن الحظ، كان آيدان هذه المرة متعاونًا لا، بل هو من طلب المساعدة أولًا.
ماذا ينبغي أن تفعل الآن؟
غرقت كارينا في تفكيرٍ عميق، وضيّقت عينيها وهي تمسك بفنجان الشاي الذي ناولتها إياه بيرنيس.
**سوف نعثر على من هاجم سموّك يجب أن نكشف من يقف خلف هذا الأمر حتى لا تتكرر مثل هذه الحوادث.**
كان من الطبيعي أن تُجرى التحقيقات في حادثة يُهاجم فيها أحد أفراد العائلة الإمبراطورية.
**لا داعي لذلك أنا على قيد الحياة وبخير، أليس كذلك؟ لا أريد أن أعرف… من الفاعل، فدَعوا الأمر وشأنه.**
لكن آيدان الأصلي، قبل ثلاث سنوات، كان قد عارض ذلك.
**لا أريد استفزاز أحد بلا داعٍ، فلنغلق القضية بهدوء.**
كان يخشى مجرّد محاولة معرفة من يقف خلف الهجوم، لأنه كان قادرًا على التخمين.
منذ البداية، لم يكن يجرؤ حتى على التفكير في مواجهة الإمبراطورة أو لويد.
لكن هذه المرة، قد يكون الأمر مختلفًا… أليس كذلك؟
**أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم.**
حين تذكّرت تلك الكلمات التي قالها، ابتسمت مجددًا كان كل شيء مختلفًا جدًا عن ذكرياتها السابقة حتى إنها لم تستطع التعود عليه.
“يبدو أنكِ استمتعتِ بلقائكِ مع سموّه، باستثناء ما حدث مع الآنسة كيت سبنسر.”
قالت بيرنيس، التي كانت تراقب ملامح وجهها، بعد أن لاحظت الابتسامة التي ارتسمت على شفتي كارينا.
“استمتعتُ؟”
لم تكن كارينا قد فكّرت في الأمر على هذا النحو، فما زال من المبكر أن تحكم كيف ستسير هذه التغيّرات.
“آمل أن يكون ذلك أمرًا جيدًا.”
بعد أن قدّمت إجابة غير حاسمة، وضعت فنجان الشاي جانبًا، وفي تلك اللحظة أُعلن عن قدوم زائر من الخارج كان الزائر هو دوق هيويت، والد كارينا.
دخل دوق هيويت غرفة الاستقبال بعد أن أذنت له ابنته، وقد بدا على وجهه تعبيرٌ ثقيل، كأنّ العالم بأسره قد انهار أمامه.
“هل أنتِ بخير؟”
سأل بصوتٍ مفعمٍ بالقلق ما إن جلس في مكانه أومأت كارينا قائلة: آه ، ولم تدرك إلا حينها سبب مجيئه.
فمع انتشار الشائعات حول خيانة زوجها مباشرة بعد زواجهما، كان من الطبيعي أن يقلق والدها عليها أشد القلق.
**لا بأس، لم أكن أتوقع المودّة من سموّه أصلًا.**
هذا ما كانت تقوله في الماضي.
عاجزةً عن الاعتراف بأنها جُرحت منذ أول ليلةٍ لها في القصر الإمبراطوري، كانت تُصرّ بعناد على أنّ ما تريده من آيدان لم يكن حبًّا.
“لستُ بخير.”
لكن هذه المرة أجابت بصدق وفي اللحظة نفسها ازداد وجه الدوق جدّية لم يعرف كيف يواسي ابنته، فاكتفى بإطلاق تنهيدةٍ طويلة.
“لكنني رأيت بصيص أمل.”
عند سماع كلمة الأمل رفع دوق هيويت رأسه لينظر إلى ابنته.
“لن تتكرر حوادث مثل ما جرى بالأمس.”
لم يكن ذلك وعدًا من آيدان بل على العكس، كان قد تفوّه بكلماتٍ سخيفة لكارينا قائلاً إنه إن كان الأمر يزعجها إلى هذا الحد، فعليها أن تبحث عن عشيقٍ هي أيضًا.
ومع ذلك، كانت واثقة من أنّ آيدان الحالي، بخلاف آيدان السابق، لن يلهو بنشر الشائعات مع هذه المرأة أو تلك لقد أدركت ذلك من طريقته في التعامل مع كيت سبنسر.
إن كان يرغب حقًا في أن يصبح إمبراطورًا، فلن يدمّر مستقبله بخرافاتٍ تافهة وشائعاتٍ منحطة.
لقد قال إنه يريد البقاء على قيد الحياة، وبالنسبة لآيدان ، كان الوصول إلى العرش مرتبطًا مباشرة بالبقاء.
وفوق كل ذلك، فهي هذه المرة لن تغضّ الطرف عن أي شائعاتٍ تخصّه.
وإن كان يريد دعم عائلة هيويت، فهي تنوي أن تجعله يوقّع تعهّدًا بعدم خيانة أي امرأة أخرى على الأقل طوال فترة كونها ولية العهد.
“حسنًا، هذا مطمئن، ولكن…”
حتى وإن لم يكرر فعلته مرةً أخرى، فإن ذلك لا يُغيّر من كون ما حدث في الليلة الماضية أمرًا مشينًا.
“لا داعي للقلق.”
قالت كارينا بهدوءٍ وثبات، فظلّ دوق هيويت يراقبها صامتًا وشفتيه مطبقتان بقوة، ثم أومأ أخيرًا إيماءةً خفيفة بالكاد تُرى.
“لكن حين أرى أن الاستمرار أصبح مستحيلًا تمامًا، فسأنسحب من دون أي تردّد أو تعلق.”
اتسعت عينا دوق هيويت دهشةً عند سماعه تلك الكلمات.
**لا داعي للقلق سموّه وأنا فقط بحاجة إلى بعض الوقت.**
هكذا كانت تقول في الماضي، لأنها كانت تفكر فقط في كيفية تغيير آيدان بطريقةٍ ما.
أما الآن، وقد أدركت أن في هذا العالم أشياء لا تتغير مهما حاول المرء، فلم تعد تتمسّك بذلك العناد الفارغ.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"