قُبيل الظهيرة، كان لويد يجلس متراخياً بجانب نافذةٍ مشمسة يحتسي الشاي، فتجعّد جبينه عند سماعه خبر زيارة آيريس أتلي والحق أنّهما كانا قد اتّفقا على لقاءٍ منفصل أثناء المأدبة.
في ذلك الحين، قدّم وعداً غير راغبٍ فيه بسبب ضغط الماركيز بيلمون الذي لم يستطع تجاهله.
“قولوا لها إنني مشغول واصرفوها.”
“لكن هناك موعداً…”
سأل الخادمُ سؤالاً غافلاً.
“لهذا أقول أخبروها أنني مشغول جداً ولا أستطيع اللقاء فلتأتِ في وقتٍ آخر.”
ولم يكن ينوي لقاءها حتى لو جاءت في وقتٍ آخر.
أيّ سبب قد يدفعه لمراعاة الماركيز بيلمون الذي لم يُحسن حتى التعامل مع آثار الحادث؟ ولحسن الحظ، بدا أنّ والدته أيضاً غير مهتمّة بجعل الابنة المتبنّاة لبيـت بيلمون زوجة للأمير، فلم يعد هناك داعٍ لمراعاة تلك الناحية.
في الوقت الحاليّ، كان التعامل مع آيدان أهمّ من بيلمون فقد حاول زعزعة العلاقة بينه وبين كارينا عبر كيت سبنسر، لكنها لم تؤدِّ دورها كما كان يأمل.
“كانت تبدو متحمسةً جداً لذلك مع ذلك.”
كان آيدان يلتقي كيت سبنسر منذ بدء أحاديث الزواج مع بيت هيويت.
وكأنّه كان يحتجّ بأنّه لا يريد الزواج من كارينا.
فمع أنّه لم يكن يستطيع الرفض علناً بسبب مكانته، بدا يائساً لحمل كارينا على كرهه.
وإلّا، كيف خطرت له فكرة لقاء امرأة أخرى في ليلة زفافه؟ حتى وهو شخص طائش عديم التفكير، كان ذلك مقصوداً.
إن لم يكن آيدان يريد كارينا، كان لويد يظنّ أنّه سيحصل على فرصة في يومٍ ما… فلماذا تغيّر فجأة؟ هل تبدل قلبه بعد قضائهما وقتاً معاً عن قرب؟ ومع أنّ مشاعر آيدان الحقيقية لم تكن تهمّه، إلا أنّ قربهما المتزايد كان يزعجه ألا توجد طريقة جيدة لفصلهما قبل أن يقتربا أكثر، قبل أن يستكملا زواجهما فعلاً؟
“سموّك ، الضيفة…”
“قلت اصرفوها!”
صرخ بضيق لانقطاع أفكاره.
“ليست الشخص نفسه، بل الآنسة من بيت سبنسر.”
كيت سبنسر؟ الآن وقد فكّر، تذكّر أنّه أمر أمس بالبحث عنها.
“أدخِلوها.”
دخلت كيت سبنسر بعد أن أذن لها لويد ظنّ أنّه لمح آيريس أتلي واقفة في الرواق عبر الباب المفتوح، لكنه لم يكترث.
“سمعتُ أنّك طلبتني.”
انحنت كيت أولاً تحيةً، وبدت على وجهها علامات عدم فهم سبب استدعائه لها.
“اجلسي أولاً.”
وبخلاف رفضه القاسي لآيريس أتلي، قدّم لها مقعداً بابتسامة لطيفة ترددت كيت قليلاً ثم جلست حيث أشار لويد.
“هل تناولتِ طعاماً؟”
سألها بألطف صوتٍ وأحنّه هزّت رأسها بوجهٍ شاحب.
“لا، ليست لديّ شهية…”
“يا إلهي، عليكِ أن تأكلي جيداً خصوصاً في مثل هذه الأوقات.”
استدعى لويد خادماً وأمر بتحضير وجبة فوراً.
ولم ينسَ أن يضيف أن تكون طعاماً ليّناً وسهل البلع أجابت كيت بالشكر، لكنها بعد ذلك أبقت رأسها منخفضاً، تحدّق فقط في الأرض.
صبّ لويد الشاي العطري من الإبريق على الطاولة ودفع الفنجان نحوها، قائلاً لها أن تشرب على الأقل حتى تصل الوجبة ظلّ يراقبها بهدوء بينما انحنت مجدداً ورفعت الفنجان إلى شفتيها.
بدت كمن فقدت حياتها، كأن صدمة رفض آيدان جعلتها تتوقف عن الأكل والشرب.
لم تكن ذات جمال لافت.
صحيح أنها بدت طاهرة ومتواضعة، لكن ذلك كل ما في الأمر ومع ذلك، لم تكن بريئة تماماً أيضاً والدليل أنها لا تزال تتشبّث بآيدان رغم زواجه لم يستطع لويد أن يفهم أبداً لماذا اختارها آيدان هل كانت مجرد ذريعة للهروب من كارينا؟
مهما يكن، فقد كانت شخصاً يُظهر آيدان ميلاً واضحاً نحوه سواء كان ذلك لأنه بات يراعي كارينا الآن أو لسبب آخر، كانت كيت ورقة يمكنها كبح آيدان لذا عليه في الوقت الحالي أن يُحسن ملاطفتها واستغلالها جيداً.
“يبدو أنّ الأمور لا تسير على ما يرام بينك وبين آيدان.”
عند هذا التعليق الاستكشافي، امتلأت عينا كيت مباشرة بالدموع.
وبانكشاف مشاعرها بهذه الوضوح، فهي حقاً لا تصلح للقصر الإمبراطوري لو أصبحت كيت زوجة لآيدان، لكانت هي وآيدان معاً هدفين مثاليين ليستغلّهما الآخرون بالمقارنة، لم تُظهر كارينا يوماً أي مشاعر ظاهرة أمام لويد.
شخص مثل كيت كان ليلائم آيدان تماماً.
وأخفى لويد أفكاره المزعجة تلك، وأظهر تعبيراً حزيناً كما لو أنه وجدها حقاً مثيرة للشفقة.
“لذا كنت أفكر… ما رأيك في محاولة إنجاب طفلٍ لآيدان؟”
اتسعت عينا كيت وهي ترفع رأسها لتنظر إلى لويد عند هذا الاقتراح المفاجئ.
***
زارت كارينا قصر آيدان.
كان ذلك أمراً غير متوقّع، إذ ظنّ أنّها لن تُريه وجهها حتى يبادر هو بالزيارة أولاً وقد راوده أمل خفيف بأنها جاءت لتجيبه عن اقتراحه للموعد.
“هذا الصباح، ألمح الطبيب إلى أنّ حالة سموّك قد تحسّنت كثيراً.”
“آه.”
تساءل هل أخبرها الطبيب أيضاً عن مسألة استكمال الزواج وما شابه ذلك.
“أنا مرتاحة.”
حدّق آيدان بصمتٍ في تعبير الارتياح على وجه كارينا.
لم يستطع بسهولة تخمين ما الذي كانت ترتاح لأجله لم يبدُ أنّها مرتاحة فحسب لتحسّن صحته ومع ذلك، لم يستطع أن يتخيّل أنها ترغب في استكمال الزواج أيضاً.
وبينما كان آيدان يراقب تعابيرها المتوترة، كانت كارينا غارقة في أفكارها، عاجزة عن إيجاد الكلمات المناسبة لما تريد قوله.
من المحتمل أن تضطر للمشاركة في بطولة الفرسان.
لم تستطع إخراج هذه الجملة القصيرة، إذ إنّ من لم يستعدّ أو يتدرّب للمشاركة في بطولة الفرسان قد يتعرّض لإصابات خطيرة أو حتى يفقد حياته.
لم تستطع أن تقول له إنه بحاجة للذهاب إلى الخطر من جديد، وهو الذي بالكاد تعافى.
وبصراحة، كانت تريده ألا يذهب إطلاقاً.
لم يبدو أنّ شيئاً جيداً سيخرج من المشاركة، وإن كان سيتعرّض للإحراج أمام الوزراء على أي حال، ألن يكون من الأفضل تحمّل نقد الجبن بدلاً من أن يتعرّض للأذى؟
“تبدين قلقة.”
وقد شعر آيدان بشيء مختلفٍ عن المعتاد، فحاول استكشاف الأمر أولاً.
“ويبدو أنّه أمر يتعلّق بي.”
كان سريع الفطنة حقاً، فقد بدا أنه شعر بأنّ هناك شيئاً غير طبيعي بمجرد رؤيته تعبيرها المتوتر.
ومع ذلك، لم تستطع الكلام بسهولة لم تجد بعدُ جواباً عمّا إذا كان عليها أن تخبره أن يجد طريقةً لتفادي بطولة الفرسان أو أن يبدأ التدريب بالسيف من الآن.
“هل الأمر يتعلق باستكمال الزواج؟”
أضاف آيدان سؤالاً آخر عندما بقيت كارينا صامتة.
استكمال الزواج…؟ آه، لقد كان ذلك مشكلة أيضاً.
تذكّرت الأمر الذي كانت قد نسيته بسبب حديث لويد عن بطولة الفرسان.
فقد نصحتها بيرنيس بأنّه سيكون من الأفضل تحديد موعدٍ جديد لاستكمال الزواج بأسرع وقت ممكن كان من الطبيعي أنّ بيرنيس وغيرها من الوزراء يتوقّعون حدوث الاستكمال، إذ إنّ إنجاب وريث هو أفضل وسيلة لتثبيت المكانة داخل العائلة الإمبراطورية.
“هذه أيضاً مشكلة.”
“إن لم تكوني مرتاحة، فلا حاجة لإجبار نفسك.”
“لا ، لنحدّد موعداً لاستكمال الزواج قريباً.”
ضاقَت عينا آيدان عند ردّها الهادئ.
“ستستكملين؟ معي؟ حقاً؟”
عقدت كارينا حاجبيها من كثرة أسئلته المتتابعة التي حملت قدراً مبالغاً فيه من الدهشة.
“ما دمتُ زوجة سموّك، فإنّ استكمال الزواج واجب طبيعي.”
“واجب…”
تمتم آيدان وهو يتجهّم بتعبير غريب.
“لعلّ معنى الاستكمال لديكِ… ليس مختلفاً عمّا أفهمه، أليس كذلك؟”
نظرت إليه بينما كان يتمتم بالكلمات كأنه يخاطب نفسه.
“مع كل براءتكِ… لا بدّ أنّكِ تدركين ما يعنيه أن ننام في الغرفة نفسها…”
اقترب آيدان حتى أصبح يقف أمامها مباشرة.
حافظت كارينا على التواصل البصري حتى توقف، ولم يبقَ بينهما سوى خطوة واحدة لكن عندما انحنى فجأة واقترب منها، سحبت وجهها إلى الخلف دون وعي.
“كيف تُخطّطين للنوم معي وأنتِ تتوترين بهذا الشكل من مجرد هذا القرب؟”
سأل آيدان بابتسامةٍ ماكرة كان وجهه لا يبتعد عنها سوى مقدار شبر، مما جعلها غير مرتاحة إذ شعرت أنّ أنفاسه قد تلامس وجنتها لو زفر بعمق.
“بما تفكّرين؟”
وحين اقترب آيدان أكثر، خطت كارينا خطوة إلى الوراء بلا وعي فتقدّم آيدان بالقدر نفسه الذي تراجعت به وفي النهاية، من دون أن تزيد المسافة بينهما قيد أنملة، اصطدم ظهر كارينا بالرفّ ولمّا لم يعد لها مهرب، اقترب وجه آيدان منها أكثر فأكثر.
“إلى أيّ حدٍّ ستسمحين؟”
شعرت بأنفاسه قرب أذنها لقد تقلّصت المسافة إلى درجةٍ لم تعد قادرة معها على رؤية وجهه بوضوح وبما أنّ شفتيه قد تلامسان شحمة أذنها أو خدّها، انكمشت كتفاها بلا إرادة منها.
“لو… لو أمكنك التراجُع قليلًا…”
حاولت دفع صدره حين أصبح اقترابه خانقاً لها، إلا أنّه قبض على معصمها.
فارتفع بصرها تلقائياً ليلتقي بعيني آيدان وكانت تلك العيون العنبريّة قد تجرّدت من كلّ ما كان فيها من لهوٍ قبل لحظات، ولم يبقَ فيها إلا نظراتٌ تُمسك بملامح وجهها وتستحوذ عليها.
“أأنتِ حقّاً تدركين ما معنى الاستكمال حين تقولين ذلك؟”
جعلها صوته المنخفض الهادئ تشعر بقشعريرة تمتدّ على كامل جسدها.
كانت تعلم أنّ هذا الآيدان يختلف عن ذاك الذي عرفته في حياتها السابقة، لكن ما تراه الآن كان جانباً آخر لم تعهده قط.
لم يعد ذاك الرجل المرح السهل الذي عرفته حتى الآن، بل أصبح رجلاً يقف أمامها بحضور طاغٍ، وكأنّه مستعدّ لالتهامها في أية لحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 33"