ما إن سمعت كارينا أنّه ليس آيدان حتى تجمّد وجهها فوراً لم يكن هناك سوى شخصين في هذا القصر يُدعيان بالأمير وإن لم يكن آيدان فالشخص الآخر واضح.
دخلت غرفة الاستقبال، فنهض لويد، الذي كان جالساً على الأريكة، لتحيتها.
“جئتُ آملاً أن نتناول الغداء معاً، لكنني سمعتُ أنّك كنتِ تتناولينه بالفعل مع آيدان.”
هزّ لويد كتفيه وكأنّه مُحبَط ولأنّها لم تفهم لماذا ينبغي لذلك أن يُحبطه، اكتفت بخفض رأسها قليلاً تحيةً ثم جلست أمامه.
“ما الذي جاء بك من دون موعد؟”
“ألسنا قريبين بما يكفي الآن لئلا نحتاج إلى مواعيد لرؤية بعضنا؟”
راوغ لويد سؤال كارينا بابتسامة ربّما كان يقصد أنّها أصبحت الآن فرداً من العائلة الإمبراطورية، غير أنّ ذلك جعل كلامه أكثر سخفاً.
فقد أصبحت زوجة آيدان لا زوجته هو، ومع ذلك كان يشير إلى أنّها كانت تتناول الطعام مع آيدان.
“لقد جئت فقط لأنني كنتُ قَلِقاً.”
وعندما اكتفت كارينا بالتحديق فيه من دون أن تنبس بكلمة، تابع لويد كلامه، ربّما وقد شعر بالارتباك.
“قَلِق… بشأن ماذا؟”
في الحقيقة، كانت لديها فكرة.
ذهاب آيدان إلى الحديقة حيث كانت كيت سبنسر من دون أن ينتظر كاي — كان من المنطقي الاعتقاد بأنّ أحداً ما قد قاده إلى هناك عمداً، إذ لم يكن ذلك ليكون بإرادته.
“آه… أيمكن أنّك لا تعلمين؟ كنتُ أظنّ أنّك تعلمين بالتأكيد…”
عقد لويد حاجبيه وكأنّه تفوّه بما لا ينبغي، ثم ترك جملته معلّقة كانت سلسلة أفعاله برمّتها تمثيلاً واضحاً إلى درجة تثير السخرية.
“إن كان الأمر يخصّ الآنسة كيت سبنسر، فأنا أعلم.”
ولمّا أعطته الجواب الذي أراده، ارتجفت زاوية فم لويد.
“لا بدّ أنّك متألمة.”
كان الاستماع إليه وهو يقدّم التعزية بوجه بالغ الجدية يكاد يدفعها إلى الضحك بسخرية بدا مقزّزاً مدى نفاقه، إذ يتظاهر بمواساتها بعد أن دبّر لها عمداً رؤية لقاء آيدن وكيت سبنسر.
“لا أعلم ما الذي يقلقك، لكن لم يكن هناك ما يدعو للألم.”
عند ردّها الهادئ، توقّف لويد عن شرب الشاي الذي قدّمه الخادم قبل قليل اضطربت نظراته وهو يحدّق في كارينا بعدم يقين.
“كيف…”
قطّب جبينه لحظة وهو يفكّر فيما يجب قوله، ثم وضع كوب الشاي.
“لا حاجة للتظاهر بالهدوء.”
يبدو أنّه توصّل إلى استنتاجه الخاص.
“وهل أحتاج إلى التظاهر بالهدوء؟”
أجابت كارينا بصوت هادئ وبملامح خالية من التعبير.
“بعد ما حصل في ليلتك الأولى، أعلن في الحفل أنّه لن ينظر إلى امرأة أخرى، ثم خذلكِ بهذه السرعة.”
ارتفع صوت لويد قليلاً وكأنّه بدأ ينفعل.
“ولهذا أجيب بأنّه لم يكن هناك ما يدعو للخذلان.”
كلّما طال حديثها معه، ازداد يقين كارينا لقد دبّر بلا شك لقاء آيدان مع كيت سبنسر ليضعه في موقف صعب، وها هو الآن يأتي ليتفحّص ردّ فعلها.
“رغم أنّ الزواج كان زواج مصلحة، إلّا أنّ كونكِ غير مبالِية بلقاء زوجكِ امرأة أخرى… إنه أمر يُعَدّ مُلفِتاً بطريقة ما.”
قال لويد بسخرية ومن الواضح أنّه لم يُسعده عدم إظهار كارينا ردّ الفعل الذي كان يريده.
“لست أفهم ما تقول صاحب السمو آيدان لم يلتقِ قطّ امرأةً أخرى لغرض من تلك الأغراض.”
عند ردّ كارينا، تشوّه وجه لويد بدا وكأنّه وصل إلى حدّه في التظاهر باللطف.
“لقد غادر الحفل مبكراً والتقى الآنسة سبنسر سراً في حديقة قصره، وأنتِ تتفهمين ذلك؟”
“صاحب السمو لم يستدعِ الآنسة سبنسر سراً هي التي اقتحمت المكان.”
عند ردّها الحازم، حدّق لويد في كارينا بتعبير خالٍ من الفهم كان وجهه يُظهر مدى عدم استيعابه لثقتها المطلقة بآيدان.
“قد يكون آيدان تصرّف على نحو مختلف لأنكِ كنتِ هناك ألم تفكّري في أنّه قد يواصل لقاء الآنسة سبنسر خلف ظهركِ؟”
كان لويد يريد بشدّة أن يربط آيدان بكيت سبنسر في الماضي، لولا علمها بأنّ روح آيدان قد استُبدلت، لربّما وافقت على إمكانية ذلك.
ففي الواقع، كان آيدان يواظب على لقاءات سرّية ليس فقط مع كيت سبنسر، بل أيضاً مع سيدات نبيلات أخريات طوال السنوات الثلاث من زواجهما.
وعلى الرغم من أنّها تظاهرت بعدم العلم ما دام لا يتعمّد ذلك علناً، إلّا أنّه لم يكن حذراً جداً في إخفائها، ولذلك كانت كارينا على دراية بوجودهن دائماً.
ولكن هذه المرة كانت مختلفة.
“إن لم أثق بصاحب السمو، فبمن أثق؟ إنني أؤمن بأنّ صاحب السمو سيوفي بالوعد الذي قطعه لي.”
حين أجابت بلا أدنى تردد أنّها تثق بآيدان ، لم يستطع لويد إلا أن يقطّب حاجبيه بعمق ويبقى صامتاً.
“إن كنتَ قد زرتني لتعزيتك ظنّاً منك أنّني سأتألم، فقد كانت زيارة غير ضرورية لم أكن متألمة قط.”
قالت ذلك، ثم كانت كارينا أول من نهض.
“إن كان هذا كل ما جئت لأجله، فهل لي أن أنصرف؟”
لم ترَ أي ضرورة للتعامل مع لويد أكثر من ذلك ولم تكن تنوي مطلقاً مواساته لفشله في تحقيق هدفه ، وعندما طلبت الإذن بالمغادرة واستدارت لتغادر غرفة الاستقبال، شعرت بلويد ينهض من مقعده.
“ألا أخبرك بمعلومة جيدة؟”
رغم أنّها تساءلت عمّا قد يقوله من هراء هذه المرة، إلا أنّه بما أنّه لا يزال رسمياً وليّ العهد الأول للإمبراطورية، فلم تستطع تجاهله، فاستدارت نحوه.
“سيُقام قريباً دوريٌ للفروسية.”
دوري الفرسان… الآن وقد فكّرت بالأمر، تذكرت بعد زواجهما بوقت قصير، كان أحد أفراد الأسرة المالكة من أكبر الدول المتحالفة مع إمبراطورية غريفيث قد قاد وفد التهنئة بنفسه.
وللمصادفة، كان ذلك البلد مشهوراً بإنتاج أسلحة عالية الجودة.
كانت إمبراطورية غريفيث تستورد الكثير من أسلحتها من هناك ولهذا أقام الإمبراطور دوري فرسان ترحيباً به، واقترحت الإمبراطورة أن يشارك لويد وآيدان في البطولة لأنّها فرصة جيدة.
وكانت النتيجة متوقعة آيدان ، الذي لم يتدرّب قط، خسر خسارة مخزية في الجولة الأولى، بينما لويد، سواءٌ بمهارته الحقيقية أو عبر صفقة ما، هزم كل الفرسان الممدوحين وانتصر كان واضحاً كيف تغيّرت سمعة آيدان ولويد بعد دوري الفرسان
“سيصل وفد من إيسينيا قريباً لتهنئة آيدان بزواجه، وإن كان ذلك متأخراً قليلاً.”
كان ذلك مطابقاً تماماً لما تتذكره كارينا.
“أتعلمين أنّ أسلحة إيسينيا متفوّقة بلا مقارنة على غيرها؟ سيُقام دوري الفرسان كإشارة على الرغبة في استمرار التحالف المتين معهم سيكون من الجيد لو شجّعتِ آيدان على المشاركة.”
ورغم أنّه قال تشجيع ك إلا أنّ الإمبراطورة ستضغط على كليهما — لويد وآيدان — للمشاركة أمام الوزراء على أي حال.
“آه، أترى أنّ الأمر سيكون ثقيلاً على آيدان لأنه لم يتدرّب قط؟”
ابتسم لويد ابتسامة خفيفة فيما كان يقلّل من شأن آيدان بطريقة خفيّة.
“حسناً، إن أراد الهرب، فأظنّه ليس مضطراً للمشاركة.’
تحوّلت نظراته نحو وجه كارينا ورغم مواجهتها ابتسامته الخبيثة، حافظت كارينا على ملامح خالية من التعبير.
”هناك توقع يسود القصر بأنّ آيدان قد تغيّر منذ تزوجك — أليس عليه إثبات ذلك؟ مع أنّه من المشكوك فيه أن دعم أسرة هيويت قادر على تحسين مهارته في السيف.”
ولأنّه بدا وكأنّه لا يتوقع جواباً، اكتفت بمشاهدته بصمت بينما اقترب لويد منها.
“أتوق لرؤية أداء آيدان الذي تثقين به في دوري الفرسان.”
ارتسمت على وجهه ابتسامة راضية وكأنه يتخيّل آيدان يتعرض للهزيمة الساحقة ثم ضحك باستخفاف وتجاوز كارينا مغادراً غرفة الاستقبال أولاً ولمّا أُغلِق الباب، أطلقت كارينا تنهيدة طويلة.
ورغم أنّ آيدان قد تغيّر، فإنّ دوري الفرسان كان مشكلة بلا شك.
فالمسابقة يحضرها أساساً فرسان القصر الذين تدربوا على السيف منذ طفولتهم ورغم أنّ آيدان كان قد تعلّم السيف ضمن تعليمه كأمير في صغره
لكن بعدما مضت أكثر من عشر سنوات دون أن يمسك بسيف، لم يعد قادراً حتى على حمله كما ينبغي، فكانت إهانته شديدة حين بدا عجزه واضحاً أمام أفراد الأسرة الملكية من الدولة الحليفة.
هل يستطيع من يسكن جسد آيدان الآن التعامل مع السيف؟ لقد قال إنه عاش في مكان خارج إمبراطورية غريفيث… لذا بدا من الصعب توقّع الكثير.
هل يجب أن تحاول إيجاد عذر يمنعه من حضور البطولة؟ فبما أنها تعرف الإهانة التي تنتظره إن شارك، لم تستطع دفعه إليها بتهوّر كما فعلت في السابق لقد ظنّت أنهما تجاوزا الحفل بأمان، لتجد عائقاً آخر بانتظارهما.
هل يمكن التعامل مع فنون السيف بالحفظ مثل الرقص؟ فقد أتقن آيدان حفظ خطوات الرقص مع كاي ومعها بعد مشاهدتها بضعة أيام فقط، فربما مع السيف أيضاً… لا، الرقص والسيف لا يمكن أن يكونا متشابهين فمحاولة تقليدهما بشكل أخرق قد تؤدي إلى إصابة خطيرة.
هذه المرة، كانت حقاً في مأزق.
لو أنه فقط ادّعى أنّ إصابته من الهجوم كانت شديدة لدرجة تمنعه من الحركة وتخلّف عن حضور الحفل، لكان بإمكانهما استخدام العذر ذاته لعدم مشاركته في دوري الفرسان لكن بما أنه قد ظهر وهو يرقص ببراعة كاملة في الحفل، فهذا العذر لن يجدي.
إلى أي حد يمكنها أن تعلّمه السيف في الوقت المتبقي قبل البطولة؟ هي لا تأمل حتى في نصر نهائي يكفي فقط أن يتجنب الإهانة، أن يجتاز الجولة الأولى بسلام، وهذا وحده سيكون كافياً.
أم هل عليها محاولة التأثير على الفرسان الذين سيقاتلهم آيدان مسبقاً؟
كادت أن تزفر من ثِقل هذه الخطط اليائسة، ومع ذلك لم تكن تريد أن يمر بالإهانة ذاتها كما في السابق، فآيدن غريفيث زوجها، وذله كان ذلّها أيضاً.
التعليقات لهذا الفصل " 31"