ارتجفت شفتا كيت قبل أن تدير رأسها مبتعدّة على نحوٍ مفاجئ راقبها آيدان وهي تهرب عابرةً الحديقة، وكلتا يديها تغطيان وجهها، ولم يُطلِق أنفاسه الطويلة إلا بعد أن اختفت تمامًا عن الأنظار.
“العيش كأمير يجعلني أختبر شتّى الأمور.”
تمتم بذلك لنفسه، ثم شعر بحركة داخل ذراعيه لقد تذكّر أخيرًا أنه ما زال يحتضن كارينا.
كان على وشك أن يشرح لها أنّ ما فعله كان الطريقة الأضمن لجعل كيت سبنسر تتخلى عنه، لكن الكلمات ماتت في حلقه عندما رأى وجه كارينا.
عندها فقط أدرك معنى التعبير القائل: أحمر لدرجة أنّه قد ينفجر إذا لُمِس.
لم يعرف ما يقول وهو ينظر إلى كارينا التي احمرّت حتى أطراف أذنيها.
حتى لو كانت في العشرين فقط… أكانت بريئة إلى هذا الحد؟ هل كان جميع الناس في هذا العالم مثل كارينا؟ لا، حتى بالمقارنة مع كيت سبنسر قبل قليل، كانت كارينا بريئة على نحوٍ مبالغ فيه إنّها حازمة في العادة في كل شيء، ومع ذلك احمرّ وجهها كلّه من مجرّد قبلة ــ وهذا التفاوت جعل الأمر أوضح وأشدّ وقعًا.
“آسف…”
خرج الاعتذار منه قبل أن يشعر.
“لا بأس ، أعلم لماذا فعلت ذلك.”
حاولت أن تبدو متماسكة وكأن شيئًا لم يحدث، غير أنّ حمرة أذنيها لم تعد بعد إلى لونها الأصلي وجدت كارينا صعوبة في الحفاظ على التواصل البصري، فصرفَت نظرها أولًا.
“لنعد إلى الداخل ، لقد قلتَ إنّه لا ينبغي إرهاق جرحك.”
يبدو أنّها سمعت ذلك من كاي، فأخذت تمشي في المقدّمة عائدةً نظر إيدان إلى الجناح المزخرف في الحديقة، ضحك بخفة، ثم تبعها كان يرغب في الاستمتاع بالحديقة الجميلة معها تحت سماء الليل الهادئة، لكن ذلك بدا مستحيلًا اليوم.
وإن لم يكن اليوم، فستكون هناك فرص كثيرة فهما سيقضيان نصف عامٍ كامل معًا على أي حال.
“علينا تعزيز أمن القصر.”
قال آيدان لكاي الذي كان يسير خلفه.
كان من المزعج أن تتمكّن كيت سبنسر من دخول الحديقة داخل قصره بهذه السهولة.
“قالت إنّ لديها موعدًا مع سموّك.”
شرح كاي.
“أنا؟ لم أحدّد معها أي موعد.”
“لكن لماذا كنت هنا يا صاحب السموّ…؟ عندما خرجتُ مع الأميرة، تفاجأتُ بعدم وجودك”
عند كلمات كاي، أطلق آيدان همهمة طويلة لقد كان قد تبِع فارسًا أخبره بأنّ كاي طلب منه الانتظار هنا.
“لقد ظننتُ أنّ الأمر مريب.”
سأله كاي عمّا يقصده حين تمتم بذلك لم يذكر آيدان أن فارسًا ما ادّعى أنّ كاي يطلب منه الانتظار هنا؛ فقد رأى أنه لا داعي لإظهار أنّه لا يعرف حتى وجوه الفرسان العاملين في قصره جيدًا.
“اجمعْ جميع الفرسان التابعين لهذا القصر غدًا صباحًا. بلا استثناء.”
كان من الأفضل له أن يتعرّف إلى وجوههم جميعًا حتى لا تتكرر حوادث كهذه.
“آه، وجميع الخدم العاملين في هذا القصر أيضًا.”
“لماذا فجأة…؟”
“فكّر فيها كأنها جمعيّة عامّة.”
“جمعيّة عامّة؟”
لم يكن يبدو أنّ في هذا القصر عادة كهذه فمن ذا الذي يهتم من الأمراء بمَن يعمل في قصوره واحدًا واحدًا؟
“هناك أمرٌ أحتاج إلى التأكد منه.”
قدّم آيدان لكاي هذا العذر المقتضب دون شرح مطوّل.
فمهما كان الأمير الأصلي يتصرف، إذا كانت حياة المرء مهدّدة، فمن الأفضل أن يتعرّف جيدًا إلى الأشخاص المحيطين به وبطبيعة الحال، قد يكون بينهم من يتآمر عليه بالفعل.
وعند مغادرتهم الحديقة، كانت كارينا ووصيفاتها ينتظرن آيدان في الممرّ وقد سبقنه إلى هناك.
“سأعود الآن إلى قصري.”
بدت كارينا وقد استعادت رباطة جأشها بعد ذاك الاحمرار الشديد، وظهرت كما هي عادةً: هادئة ونبيلة إنّ شعوره بخيبة خفيفة بسبب هذا ربّما دلّ على أنّ شخصيته ماكرة قليلًا.
“لا داعي لأن تذهبي.”
قالها مبتسمًا، فمالت رأسها قليلًا وكأنها لم تفهم.
“بإمكانك النوم في غرفتي.”
كان يقصدها مزحة خفيفة، لكن وجه كارينا احمرّ في اللحظة نفسها بدا أنها استرجعت مشهد القبلة في الحديقة.
“لا بدّ أنك متعب، رجاءً ارتح جيدًا أراك غدًا.”
وقبل أن يتمكّن من الرد، انحنت له ثم غادرت مع وصيفاتها دون أن تلتفت.
“لِمَ جاءت كل هذا الطريق إذًا.”
شعر بخيبة طفيفة لأنها رحلت بلا تردد رغم مجيئها إلى قصره.
“عندما اختفى سموّك بعد مغادرتك قاعة الحفل، شحبت الأميرة من القلق.”
ابتسم آيدان بفتور عند تعليق كاي.
فبينما كان كاي يظنّ أنها قلقت عليه بوصفها زوجته، كانت الحقيقة مغايرة تمامًا لعلها كانت قلقة من أن يتسبب الغريب ــ ذو الروح المستبدلة والجاهل بأرجاء القصر الإمبراطوري ــ في مشكلة ما.
ومهما كانت الحقيقة، لم يكن شعور اهتمام كارينا الكامل به أمرًا غير سار.
“على أيّ حال، ماذا حدث بشأن ما أمرتُ به؟”
سأل بلا مبالاة وهما يسيران نحو غرفة النوم، فيما أبعد كاي الخدم عشر خطوات خلفهما.
“وجدنا الشخص الذي حدّدته الأميرة، لكنها كانت قد فارقت الحياة.”
في اليوم التالي لتقديم كاي قائمة بالأشخاص الذين كانوا على علم باجتماعات آيدان السرّية، أشارت كارينا إلى شخص واحد فقط.
كانت خادمة تعمل على تنظيف غرفة النوم بحثوا عنها فورًا، لكنّها كانت مفقودة منذ يومين وبما أنّ الأمر بدا خطِرًا، قاد كاي الفرسان لتتبّع أثرها لكن عندما وجدوها… كانت قد ماتت.
“لكن تأكدنا من أنّ عشيقها أحد فرسان الأمير لويد، ونحن نلاحقه الآن.”
“أمرٌ واضح أكثر من اللازم.”
ورغم أنّه كان يشكّ بلويد والإمبراطورة أكثر من غيرهما، إلا أنّ تضييق الشبهة على لويد بهذه الوضوح جعل الأمر فاقدًا للاهتمام.
“سيكون من الأفضل العثور عليه بسرعة موتُ الخادمة يعني أنّهم بدأوا بمحو الآثار وحتى لو كان تابعًا للويـد، فقد يكون ذلك العشيق في خطر أيضًا.”
قطّب كاي جبينه عند اقتراحه أنّهم قد يحاولون قتل أحد مرؤوسيهم فبصفته فارسًا وفيًا لسيّده، بدا وكأنه لا يستطيع استيعاب فكرة قتل تابعٍ قام بتنفيذ أوامر سيده لكنّ الواقع كان دائمًا قاسيًا.
“اعثروا عليه قبل أن يموت قد يكون شاهدنا الوحيد.”
أومأ كاي ممتثلًا لتعليماته.
“آه، ولا تُبلِغ كارينا بموت الخادمة ليس أمرًا تحتاج إلى سماعه.”
“قد تسأل عنه أولًا.”
“قل لها فقط إنّ الخادمة هربت.”
“…هل لي أن أسأل لماذا؟”
حتى الآن، كان آيدان يستشير كارينا في أدقّ التفاصيل، لذا كان من الصعب فهم سبب رغبة سموّه فجأة في إخفاء هذا عنها.
“لأنني أريد لها أن تبقى نقية.”
“الأميرة ليست هشّة كما تبدو.”
“أعلم أنها امرأة قوية لكن بعيدًا عن ذلك… أريد الحفاظ على أجزائها غير الملوّثة.”
خصوصًا إن كانت تفكر يومًا ما في مغادرة القصر.
ابتلع الجزء الأخير من كلامه، ثم اكتفى بالابتسام ودخل غرفة النوم كان يعلم أنّ كاي لا يفهم، لكن الأمر لم يكن مهمًا فهذا مجرّد شعور شخصي بحت.
كانت كارينا هيويت تختلف عن أيّ شخص التقى به بارك جين هو طوال حياته شخصٌ يبدو قويًّا لدرجة الانكسار، ومع ذلك يرتجف من لمسة… ويحمّر وجهه من قبلة واحدة فقط… كانت أنقى إنسانة عرفها.
ولو أنّها أظهرت جانبها القوي فقط لكان الأمر أفضل.
ابتسم مع نفسه، إذ لم يستطع منع شفتيه من الالتواء كلما فكّر بها.
“ربما ما كان ينبغي لي أن أقترح الطلاق.”
تمتم بذلك وضحك مرة أخرى أن يصبح جشعًا تجاه شخص ما…؟ من الواضح أنّ حياة هذا الأمير أكثر ترفًا من حياة بارك جين هو على الأقل حتى الآن.
***
عندما استلقت كارينا لتنام، بدأت تتقلّب يمينًا ويسارًا.
لم يأتِها النوم مطلقًا.
تمدّدت على ظهرها تحدّق في السقف وهي تطرف بعينيها ومن دون وعي، رفعت يدها لتلمس شفتيها.
وبينما كانت تشعر أنّ ملامسة إصبعها لهما تشبه إحساس ملامسة شفتي آيدان لهما، تساءلت عن السبب الذي يجعلها تفكّر في أمور كهذه.
حاولت أن تستلقي على جانبها مجددًا لتنام، لكنها انتهت بأن نهضت جالسة على الفور.
كانت قد تمكّنت من الحفاظ على رباطة جأشها بشأن القبلة التي حدثت في الحفل.
صحيح أنّها صُدمت كثيرًا لأنها كانت أول قبلة لها، لكنها طمأنت نفسها بأن الأمر ليس مستحقًا للتهويل بما أنّ آيدان زوجها على كل حال.
لكن قبلة الحديقة… على خلاف الملامسة الخفيفة التي التقت فيها شفاههما ثم انفصلت، فإنّ الحرارة التي اجتاحت فمها جعلت عقلها يخلو تمامًا.
أن يكون ذلك ما تعنيه القبلة… لقد كان مختلفًا تمامًا عمّا تخيّلته لا، لم يسبق لها أن تخيّلته أصلاً تخيّلًا صحيحًا.
ومع عودة الإحساس إليها، شعرت بحرارة تتصاعد داخلها وبحثًا عن مهرب، ذهبت نحو النافذة وفتحتها على مصراعيها ولمّا اندفع النسيم البارد إلى الداخل، بدأ وجهها المشتعل يبرد قليلاً.
‘لو كان عليّ أن أختار وفقًا لذوقي، لاخترتُك أنت.’
‘الشخص الوحيد الذي أشعر بالشغف نحوه الآن هو أنتِ، يا كارينا.’
قد تبدأ بإساءة الفهم.
بأنّ آيدان يروق له أمرها حقًّا لكن ذلك مستحيل.
إنه فقط بحاجة إلى أن تتأقلم مع مظهره الخارجي كأمير، وأن يرسّخ مكانته في القصر الإمبراطوري، وكل ما يفعله هو الالتزام بوعده بأن يكون زوجًا مخلصًا لدورٍ يدوم نصف عام.
ورغم أنها تعرف وضعه أكثر من أيّ شخص آخر… لماذا ظلّ قلبها يخفق؟ لماذا بدا أن قلبها يهبط كلما سمعت كلماته؟
هل لأن ملامحه وسيــــمة أكثر من اللازم؟ كلا، فهي ترى هذا الوجه منذ أكثر من ثلاث سنوات صحيح أنّه وسيم، لكن لا سبب لأن تجد شكله جذّابًا فجأة.
‘ينبغي لكِ أن تغمضي عينيكِ في مثل هذه اللحظات، يا كارينا.’
بدا صوته كأنه يهمس في أذنها، فارتفعت كتفاها من غير قصد.
‘فلنقل إنني سُحرت للحظة لأنّ شريكتي في الزواج جميلةٌ أكثر من اللازم.’
والآن كانت صورته المبتسمة تومض في ذهنها أيضًا.
آه… ابتلعت كارينا أنينًا وهزّت رأسها.
لا بدّ أنه لعوب وإلا لما قال أمورًا آسرة كهذه.
ورغم أنّها عقدت العزم على ألّا تنجرف خلفه، فإنّ قلبها الخافق لم يهدأ بسهولة.
التعليقات لهذا الفصل " 25"