اقتربت كيت سبنسر وذراعَاها ممدودتان كانت على وشك أن تركض مباشرة إلى أحضانه لكن قبل أن تصل أطراف أصابعها إليه، مال آيدان قليلًا بجسده ليتفاداها.
“يا صاحب السمو…”
نظرت كيت إلى آيدان بعينين دامعتين بعد أن فاتها الهدف الذي كانت تتجه إليه.
“أليس هذا قصري؟”
ورغم سؤاله، لم تفهم كيت شيئًا وإنما حدقت في آيدان بعينين تنتظران شيئًا ما.
“لقد سألتكِ لماذا أنتِ في قصري.”
بعدما جعل سؤاله أكثر تحديدًا، لم تفعل سوى أن أمالت رأسها في حيرة، مما جعله يزفر متأخرًا أمام ردّها لا شكّ أنّ آيدان كان قد سمح لها في السابق بالدخول والخروج من هذا القصر كما تشاء.
“أشعر أنّني قلتُ هذا مرارًا علاقتنا انتهت الآن.”
شدّد ملامحه عامدًا ورسم حدودًا واضحة كانت كارينا ستصل قريبًا، ولم يرد أن يسبب أي سوء فهم لا ضرورة له.
“أعلم أنا أفهم لماذا قال صاحب السمو تلك الكلمات.”
“إن كنتِ تعلمين، فاغادري بسرعة…”
“لقد كنتَ تراعي الأميرة، أليس كذلك؟ كنتُ أنا طائشة فحين تكون الجهة الأخرى هي عائلة دوقية هيويت… لا بدّ أنّ الأمر كان صعبًا عليك.”
مسحت كيت دموعها بمنديل وهي تتفوّه بكلام لا معنى له يا لِلترّهات! كيف وصلت إلى هذا الاستنتاج؟ كان الأمر سخيفًا لدرجة أنه لم يجد كلمات يرد بها.
“هل كنتُ عديمة الإحساس؟ كان عليّ أن أفهم مشاعر صاحب السمو منذ زمن أنا آسفة.”
لم تكن عديمة الإحساس أبدًا بل كانت في الاتجاه المعاكس تمامًا لما تظنه شعر بتعب شديد يمنعه حتى من الشرح ومع صداع بدأ ينبض في رأسه، أصبح حتى استمرار الحديث مرهقًا، فاستدار مبتعدًا.
“يا صاحب السمو!”
أمسكت كيت بذراع آيدان على عجل.
“اتركيني!”
ولمّا حرّك ذراعه بقوة ليحرر نفسه، سقطت كيت إلى الخلف وجثت على الأرض.
“هَه… يا صاحب السمو…”
رفعت رأسها لتنظر إلى آيدان ودموع تملأ عينيها كان تعبيرها يشكو من سبب معاملته لها بهذه الطريقة.
“هاه… يبدو أنّكِ تسيئين الفهم بشكل خطير لا أعلم كيف كان الوضع سابقًا، لكنني الآن لا أهتمّ بك مطلقًا لذا آمل ألا يتكرر أمر كهذا بعد اليوم.”
“أعلم أنت تتعمّد أن تكون باردًا معي أمام الأميرة سأكون حذرة سأكون أكثر حذرًا ممّا كنتُ عليه عند القدوم لرؤية صاحب السمو، كي لا تنتبه الأميرة.”
هل نتحدث اللغة نفسها؟ ومع استحالة التواصل تمامًا، بدأ الغضب يتراكم داخله.
“ما دام الأمر مخفي عن الأميرة، فهو بخير، أليس كذلك؟ لا بأس لدي حتى لو عشتُ عشيقة خفية طوال حياتي، طالما أنّ صاحب السمو يبقى إلى جانبي…!”
كانت تثرثر بحماسة من تلقاء نفسها حين اتسعت عيناها فجأة وصمتت إذ بدا أنها تحدّق بشيء خلفه وعندما استدار، وجد كارينا بالفعل تقف هناك مع كاي.
خفضت كارينا بصرها لتنظر إلى كيت الجالسة على الأرض لم تُقرأ أيّ مشاعر على وجهها الخالي تمامًا من التعبير.
لم يكن يتوقع أن تُظهر أي غيرة، لكن… هل يمكن أن تكون بهذا الهدوء فعلًا؟ فمع أنّ زواجهما كان زواجًا سياسيًا بلا حب، ومع أنّ تبدّل الأرواح جعلهما غريبين عن بعضهما عمليًا، إلا أنّه ما يزال رسميًا زوجها.
“آنسة سبنسر؟”
وحين لم تستطع كيت أن تأخذ يدها فورًا، نادتها كارينا مرة أخرى تنقلت عينا كيت بين آيدان وكارينا، عاجزة عن إدراك الوضع وعندما أخيرًا مدّت يدها بتردد شديد، ساعدتها كارينا على النهوض.
“شكرًا لكِ.”
كان صوت كيت بالكاد يسمع.
قبل لحظات فقط كانت تتوسل قائلة إن كل شيء سيكون بخير طالما أنّ كارينا لا تعرف… ثم تقع مباشرة بعد تلك الكلمات في مواجهة كارينا نفسها لم تعرف كيف تتصرف.
راقب آيدان الاثنتين دون أن يقول شيئًا.
كان من السهل عليه في هذه اللحظة أن يوضح أنّه لم يرغب في هذا اللقاء، وأنّها كانت هي من جاءت أولًا، لكنه امتنع عن ذلك عمدًا.
فكارينا تعرف بالفعل بأمر تبدّل الأرواح، وتعلم أنه ليس لديه أي اهتمام بكيت سبنسر وكان تقديم أعذار مفصّلة ليبدو الأمر طبيعيًا أكثر سخافة.
“آنسَة سبِنسر.”
كانت كارينا هي مَن كسَرَ الصَّمتَ الخانِقَ بين الثَّلاثة.
“نَـعَم؟”
قفَزَ صوتُ كيت بتوتُّر وهي تُجيب.
“أتظُنِّين أنَّكِ قادِرةٌ على مُواجَهَتي ومُواجَهَةِ دوقية هيويت؟”
“……؟”
لم تستوعِب كيت سؤال كارينا إطلاقًا، واكتفت بالنظر إليها وهي تطرف بعينَيها في حيرة.
“أعتَقِد أنّني حَذرتك بِوُضوحٍ في آخر مره التقَينا فيها أمام غُرفةِ صاحبِ السُّمو حَذَّرتُكِ من سُوءِ أدبك.”
لم يكن في صوت كارينا أيّ انفعال كانت فقط تُعبِّر عن مقصِدِها بوضوحٍ وبنبرتها الهادئة المُعتادة.
وهذا ما جعَل كلماتِها أكثر بُرودة.
“لم أكن أعلم أنَّكِ غافلةٌ إلى هذا الحدِّ بحيث تحتاجين إلى شَرْحٍ أوضح إنّني أنبهك ألَّا تُقيمي لقاءاتٍ خاصّة مع رَجُلي، حتّى في الأوقاتِ والأماكنِ التي لا أستطيع رؤيتكما فيها.”
ارتعَدَت عضلاتُ وجهِ آيدان عند لفظِها رَجُلي أن تخرُجَ مثل هذه التَّعبيرات من فَم كارينا تحديدًا… أمرٌ لم يكن يتوقّعه أبدًا.
وبالطبع، كان يدرك تمامًا أنّها لا تقول ذلك بدافع أيّ مشاعر نحوه، بل لأنّها تؤدي واجبها في إدارة حياة الأمير الخاصة بصفتها زوجته.
“هذا…”
تقلَّص وجهُ كيت بشدّة عند سماعها تعبير رَجُلي.
ثم التفتت لتنظر إلى آيدان.
بدا أنّها ما تزال تعتقد أنّ قلبه يخصّها هي، رغم زواجه من كارينا.
أمّا آيدان فلم ينظر إليها إطلاقًا.
تعمَّد تجاهلها أكثر، مُدرِكًا أنّه لو التقت أعينهما، لاضطرّ إلى إعادة التأكيد على مدى إساءتها للفهم.
غير أنّ هَوس كيت سبنسر بآيدان لم يكن أمرًا سهلًا.
“لكن يا أميرة… أنتِ مُنذُ البِداية في تلك المكانة.”
عبست كارينا عند الرد غير المتوقع.
“لا رغبة لي في منصب زوجة الأمير ليس لديّ أي نية للتمسّك بمكانة الأميرة.”
بينما واصلت كيت حديثها، شعرت كارينا بالرغبة في الضحك من شدة الدهشة.
في الواقع، خلال السنوات الثلاث التي قضتها كيت كزوجة للأمير، لم تسعَ أبدًا إلى الاستحواذ على ذلك المنصب أو التطلع إليه.
بدا أنّ رضاها اقتصر على البقاء بجانب آيدان، وهو أمر كان أكثر أهمية لها من جميع الامتيازات التي يمكن أن تمنحها إياها مكانة زوجة الأمير.
ولم تكن قد حاولت يومًا استغلال سلطات زوجة الأمير أمام كارينا، إلا مرة واحدة فقط، حين توسلت من أجل إنقاذ طفلها.
“سأعيش وكأنني ميتة إذا قلتَ لي ألا أظهر أمام الأميرة، سألتزم بذلك فقط دعني أبقى بجانب صاحب السمو.”
توسلت كيت ووجهها ملطّخ بالدموع.
تساءلت كارينا عن مصدر ثقتها الغريبة في مواجهة مثل هذا اليأس.
لم تكن متأكدة مما إذا كانت هذه العائلة الإمبراطورية مجنونة لأنها تتسامح مع وجود عشّاق لأعضاء العائلة، أم أنّها هي الغريبة لأنها لا تفهم تلك المرأة.
وعند رؤية كيت تتوسل بهذا الانفتاح لمجرد البقاء إلى جانب آيدان، شعرت أنها قد تفقد صوابها هي نفسها.
هكذا كانت كيت تلتصق بآيدان.
ورغم أنّه كان مزعجًا رؤية شخص يعلن بجرأة رغبته في رجل امرأة أخرى، إلا أن جزءًا من كارينا كان فضوليًا لمعرفة كيف يبدو هذا الحب اليائس.
لم تشعر كارينا أبدًا بمثل هذه المشاعر الرقيقة تجاه آيدان، أو تجاه أي شخص آخر في الحقيقة.
“آنسة سبنسر، أنتِ تجعلينني أكرر كلامي باستمرار.”
بعيدًا عن فضولها لمعرفة طبيعة مشاعر المرأة تجاه الرجل، لم تستطع كارينا التسامح مع وجودها ذاته.
ففي حياتها السابقة، حاولت كارينا أيضًا التسامح مع وجود عشّاق أحد أفراد العائلة الإمبراطورية.
أقنعت نفسها بأن عليها فقط أن تصمد كزوجة الأمير، لكنها كانت مخطئة ذلك الوجود الذي تسامحت معه أدى في النهاية إلى موقف كُرّ فيه السكين إلى عنقها.
“لا أريد أن أراكِ داخل هذا القصر الإمبراطوري ولأكون أكثر تحديدًا، لا أستطيع التسامح مع قدومك وذهابك إلى قصر صاحب السمو…!”
اتسعت عينا كارينا بدهشة عند القوة التي جذبت جسدها فجأة
آيدان، الذي كان مستمعًا بهدوء حتى تلك اللحظة، أمسك بذراع كارينا وسحبها.
دار جسدها بسرعة، وسرعان ما حَلَّ ظل على وجهها.
قبل أن تتمكن من إدراك ما يحدث، لفّ آيدان ذراعًا حول خصرها بينما أمسكت يداه الأخرى بمؤخرة رأسها وسحبها بالقرب منه.
“يا صاحِب السمو… ممف!”
لم تتح لها الفرصة لتسأل لماذا يتصرّف بهذه الطريقة فجأة.
ضغطت شفاه آيدان على شفتي كارينا وكأنها تسحقها.
ومن خلال شفتيها المفتوحتين قليلًا، تدفّق حرارة شديدة.
كان الأمر مختلفًا تمامًا عن القبلة العابرة التي لمست شفتيها في قاعة الوليمة.
غاص لسانه قسرًا داخل فمها، مستكشفة كل زاوية فيه.
لم تستطع التنفس بشكل طبيعي.
مجمدة، غير قادرة على التصرف، كانت حرارة اللقاء الغريبة وحدها كافية لإرهاقها.
… وعندما انفصلت الشفتان أخيرًا، ارتجف جسدها من شدة الصوت.
وعندما رفعت عينيها إلى آيدان دون أن ترمش، وجدته يبتسم لها بلطف وعند النظر إلى عينيه المنحنية بأناقة، شعرت فجأة بحرارة وجهها واحتدّ احمراره.
دفن آيدان وجه كارينا المحمر في صدره واستدار لينظر إلى كيت وهو ممسك بها.
كانت كيت تراقب الاثنين بوجه شاحب.
“يبدو أنّك كنتِ تسيئين الفهم منذ البداية، لكنني لا أرفضك لمجرد أنني أراعي كارينا من البداية… أكان اسمك كيت سبنسر؟ لا أهتم بكِ مطلقًا الوحيدة التي أشعر بشغف تجاهها الآن هي كارينا فهل تغادرين قصري بينما أطلب منك ذلك بلطف؟”
كان نبره هادئًا، وابتسامة على وجهه وهو ينظر إلى كيت ومع ذلك، لم تكن عيناه باردة فقط، بل حادة كالسكين.
التعليقات لهذا الفصل " 24"