غارقةً في مشاعرها، شرعت كيت في البكاء من جديد وبينما كان يشاهدها تشهق، عَقَد لويد حاجبيه بضيق.
لقد وعد بأنّ شيئاً لن يتغيّر، أليس كذلك؟ إذن لِمَ تتصرّف هكذا الآن؟ أيمكن أن يكون قد تظاهر بالتغيّر لخداع كارينا؟
“لا بدّ أن لدى آيدان أسبابه.”
ربّت لويد على كتف كيت وواساها بصوت لطيف.
“حين ذهبتِ لزيارة آيدان، ألم تكن سيدة وليّ العهد هناك؟”
أومأت كيت بعينين غمرتهما الدموع.
“إذن من الطبيعي تماماً أن يكون واعياً لوجود سيدة وليّ العهد ثقي بآيدان ألم يعدكِ بأنّ الأمور لن تتغيّر؟”
رمشت كيت وهي تنظر إلى لويد.
وكلما فعلت ذلك، ازداد لويد ابتساماً بلطف، وكأن الأمر لا يستحق كل هذا القلق.
“هذا القصر الإمبراطوري… أعقد قليلاً ممّا تتخيّلين يا آنسة سبنسر فظاهره وباطنه مختلفان تماماً ولهذا حتى آيدان مضطرّ إلى التصرّف بما يخالف قلبه أمام سيدة وليّ العهد هل تفهمين؟”
بعد تردّدٍ قليل، أومأت كيت إيماءة تكاد لا تُرى.
“لكن سموّه قال لي قبل قليل إنّه لن يقابلني بعد الآن…”
اهتزّت شفتاها وهي تتكلّم، وكأنّ الضيق بدأ يغمرها مجدداً.
“يا إلهي… لا بدّ أنكِ تأذّيتِ كثيراً.”
ضمّ لويد كتفها بخفّة وربّت على ظهرها.
“تماسكي سأساعدك.”
قال ذلك وهو يلتقي بعينيها مبتسماً أما كيت فظلّت متحيّرة، وكأنها لم تفهم بعد حقاً، بدت وكأنها امرأة لا تملك أدنى حدس شتمها لويد في سره، لكنه حافظ على ابتسامته اللطيفة.
“الليلة… انتظري في حديقة قصر آيدان.”
عندها فقط اتّسعت عينا كيت.
“سأنقل الرسالة إلى آيدان في الحقيقة، لا بدّ أن آيدان هو أيضاً يشتاق للقائك.”
“حقاً؟ شكراً! شكراً جزيلاً!”
نهضت كيت وانحنت مراراً لتعبّر عن امتنانها ثم مسحت وجنتيها المبلّلتين بالدموع، واستدارت لتغادر قائلة إنها تحتاج إلى أن تجهّز نفسها قبل لقاء آيدان وما إن ابتعدت حتى اختفت الابتسامة عن وجه لويد.
لم يكن من الصعب إعادة إشعال شائعة قد اشتعلت من قبل.
سواء كان آيدان لا يزال يملك مشاعر تجاهها أم لا، فذلك لا يهمّه على الإطلاق.
مجرد حقيقة أنّ آيدان قابل كيت سبنسر مجدداً كفيلة بأن تُسقط صورته إلى الحضيض مرة أخرى.
وفي الوقت نفسه، ستتلاشى ثقة كارينا به تماماً.
***
استمرّ الحفلُ أطول مما كان مُتوقَّعًا كان آيدان قد بلغ حدَّه من الجلوس.
وعلى الرغم من أنّه تمكّن من الصمود حتى الآن بفضل المُسكّنات التي طلبها من الطبيب، إلا أنّه لو اضطرّ للبقاء في الحفل أكثر من ذلك، شعر بأنّه قد يحتاج إلى تناول مزيدٍ من الدواء.
“سأخرج قليلًا لاستنشاق الهواء.”
وبعد أن استأذن من الإمبراطور والإمبراطورة الجالسَين إلى جواره، نهض واقفًا، فنهضت كارينا أيضًا لتتبعه.
“ليس عليكِ المجيء.”
رفضها، مُفكّرًا بأنّه لا داعي لإطلاعها على أنّه سيتناول الدواء، فتجمّد وجه كارينا قليلًا.
لم يستطع تحديد ما إذا كانت قلقة من تركه يذهب وحده، أم أنّها لا تثق به؛ وذلك ما جعله يبتسم بخفة.
وعندما رأته يضحك، بدا أنّها اعتقدت أنّ الأمر ليس مهمًا، فعادت إلى مقعدها متخلّية عن الفكرة.
وما إن خرج من قاعة الحفل ودخل الممرّ، حتى تبعه كاي على الفور.
“هل تحمل الدواء؟”
كان قد أوكل إلى كاي الاحتفاظ بالمسكّنات التي أعطاها له الطبيب.
فقد رأى أنّ حملها بنفسه قد يتحوّل إلى نقطة ضعف إن رصدته الإمبراطورة أو لويد
“هل تشعر بألم شديد، يا صاحب السمو؟”
هزّ آيدان رأسه مبتسمًا لطمأنة كاي.
“إنه ما يزال محتملًا.”
ما يزال لم يأخذ كاي تلك العبارة باستخفاف.
فمع أنّ الوضع لا يُقارن بما كان عليه من قبل، إلا أنّ كاي كان أقرب من راقب آيدان بدقة وعلى مدى أطول خلال الأيام الماضية.
منذ الهجوم، لم يكن آيدان يشتكي من الألم إلا عندما يكون شديدًا فعلًا أمّا طلبه للدواء أولًا فمعناه أنّ الألم قد بلغ حدًّا لا يُحتمل.
وبالفعل، ما إن خطا آيدان خطوة حتى تلوّى آلمًا وكاد يتعثر.
“أرى أنّه من الأفضل أن تعودوا إلى القصر.”
أسرع كاي بإسناده مقترحًا.
“الحفل لم ينته بعد ثمّ إنّ كارينا ما تزال هناك.”
لم يكن أحدٌ ليقول شيئًا لو غادر في منتصفه، بالنظر إلى المدة الطويلة التي تحمّل فيها البقاء، غير أنّ كارينا ما تزال في الداخل لم يكن لدى أيدن أي نيّة للعودة وحده من دونها.
“إذن سأبلّغ صاحبة السمو عودوا معًا، من فضلك.”
كان كاي هو الآخر يرى أنّ الحفل أخذ أكثر من وقته وأسندًا إلى مساعدته، جلس آيدان على حافة الرواق وابتلع الدواء الذي أعطاه كاي.
“ولماذا لم تتناوله سابقًا بدلًا من الانتظار حتى تَبلغ الحد؟”
“علم، لكنني لم أستطع مغادرة مقعدي.”
أمال كاي رأسه متعجّبًا من إجابته.
لم يكن ثمة مشكلة لو غادر آيدان مقعده لوقت قصير أثناء الحفل كان يمكنه الخروج والعودة في أي وقت لتناول الدواء.
“كان هناك الكثير من الأشخاص الذين يطمحون إلى الاقتراب من زوجتي ، كما تعلم.”
وما إن أضاف تلك العبارة مازحًا، حتى أطلق كاي آه بعد لحظة استيعاب.
فبعد الرقصة التي أدّتها مع آيدان كان العديد من النبلاء الشباب من الأسر الأرستقراطية يبحثون عن فرصة للرقص مع كارينا وبرغم أنّهم لم يكونوا مؤهلين ليكونوا شركاء لها عادةً، فإنّ حفلات كهذه تُعدّ استثناءً فطالما أنّها قد رقصت مع آيدان ، كان بوسع أي أحدٍ أن يطلب الرقص معها بعد ذلك.
غير أنّ كارينا لم ترقص طوال ليلة اليوم مع أحدٍ غير آيدان جاءها الكثيرون يدعونها إلى الرقصة، لكن في كل مرة كان آيدان يتدخّل بخفّة ليفتتح حديثًا معها بل قال لاحقًا إنّ إصابته بدأت تؤلمه، فلا تستطيع كارينا الخروج للرقص مع الآخرين بينما تترك زوجها المريض خلفها.
“هل كنتَ تفعل ذلك عن قصد؟”
ومع أنّه سأله دون تمهيد، أدرك آيدان المعنى حالًا.
وبدلًا من الإجابة، اكتفى بابتسامة عريضة، وهو ما بدا كافياً لتأكيد أنّه كان يفعل ذلك عمدًا.
“هل كان ذلك طفوليًا؟”
هزّ كاي رأسه نافيًا لن يلوم أحدٌ رجلًا لا يريد أن يخسر زوجته للآخرين ولحسن الحظ، بدا أنّ كارينا لم تكن ترغب في الرقص مع الآخرين على أي حال ومع أنّها كانت تساير أجواء الحفل إلى حدّ ما، إلا أنّ كاي كان يرى أنّ كل اهتمامها كان منصبًّا على آيدان.
“رجاءً انتظر هنا قليلًا، سأدخل لأُحضر صاحبة السمو.”
وهذه المرة، لم يعترض آيدان فقد شعر أنّه أدّى دوره بما يكفي فأومأ بالموافقة.
وبعد وقت قصير من عودة كاي إلى قاعة الحفل، اقترب منه شخصٌ بدا كأنه فارس، وانحنى برأسه وعلى الرغم من أنّ آيدان قد حفظ وجوه النبلاء من صورهم، إلا أنّه لم يكن ليحفظ وجوه الخدم أو الفرسان.
كان يعرف فقط الفرسان الذين يحرسون مدخل جناح النوم، والخدم الذين يدخلون ويخرجون لترتيبه.
لذا، لم يكن بإمكانه معرفة ما إذا كان الفارس الواقف أمامه الآن ينتمي إلى قصره أم إلى قصر آخر.
“قال السيّد كاي إنّ عليك العودة إلى القصر أولًا سأرافقك إلى هناك.”
لقد ذكر اسم كاي.
“ألم يقل لي أن أنتظر هنا؟”
“قال إنّ جلوسك على الأرض الباردة ليس جيدًا.”
نظر إليه آيدان مطوّلًا مطلقًا همهمة خفيفة لم يكن ما قاله خطأ، لكن شيئًا ما بدا له مريبًا.
“حسنًا إذن.”
وقف من دون كثير من تفكير فبعد كل شيء، هذا المكان داخل القصر الإمبراطوري.
وحتى لو كان هناك من يسعى لقتله، فالمجازفة بارتكاب أمرٍ ما بفارس واحد فقط تُعدّ مخاطرة كبيرة.
ثم إنّ وجهتهم كان قصره هو وبما أنّه حفظ خريطة القصر الإمبراطوري، فهو يعرف الطريق جيدًا نحو قصره لذا فإن حاول أحدهم أخذه إلى مكان غريب، فسيمكنه القتال فورًا.
وبينما نهض وتبعه، ذهبت يداه تعبثان بالخنجر المعلّق عند خصره.
وعلى الرغم من أنه يُسمّى خنجرًا زخرفيًّا ، إلا أنّ ذلك كان يعود إلى غمده المرصَّع بالجواهر فقط؛ أمّا داخله فكان نصلًا حقيقيًّا حادًّاركان كافيًا لإخضاع شخص بسرعة بطعنه في رقبته.
يا لها من حياة مضطربة، أينما أذهب.
مرّ هذا الخاطر في ذهنه فجأة، فأطلق ضحكة خاوية.
سواء امتلك المرء الكثير أو كان لديه ما يحرص على حمايته، فإنّ حياة بارك جين هو وحياة آيدان كانتا متشابهتين في أنّ كليهما كان مهدَّدًا.
ألهذا السبب وجد نفسه في هذا الجسد؟ لم يفكّر يومًا بعمق في سبب استيقاظه في عالم غريب، وفي جسد أمير تحديدًا، لكن ربما كانت هناك بعض المشابهة هذا التفكير جعله يضحك مرّة أخرى.
ولحسن الحظ، اتجه الفارس مباشرة نحو قصر آيدان موحِيًا بأنّ حذره ربما كان زائداً عن اللزوم.
“هل ترغب في المرور بالحديقة قليلًا؟ القمر ساطع، ويبدو المنظر جميلًا سأبلغ صاحبة السمو الأميرة زوجتك لتلحق بك هناك.”
سأل الفارس عندما وصلا إلى الممرّ الذي يتفرّع باتجاه الحديقة ولأنّ آيدان كان يريد استنشاق بعض الهواء، وافق، فقادَه الفارس إلى الحديقة.
“إن انتظرت في الشرفة في الداخل، سأُحضر صاحبة السمو الأميرة.”
وأشار الفارس إلى أحد جوانب الحديقة.
كان هناك طريق تصطف الأشجار على جانبيه، ويبدو أنّ شرفة موجودة في الداخل.
وربما لأنّها حديقة قصر الأمير، فقد كانت مُعتنى بها جيدًا بلا شك كانت الأزهار المتفتّحة في كل مكان تتلألأ بانعكاس ضوء القمر عليها.
أتمنّى أن تُعجب كارينا أيضًا.
ابتسم آيدان وهو يفكّر فيها، غير أنّ ابتسامته تلاشت في اللحظة التي وقع فيها بصره على الشرفة الحديقة الحجرية البيضاء في نهاية الطريق.
“يا صاحب السمو!”
كانت التي خرجت من الشرفة الحديقة راكضه ، وقد غمرتها السعادة لرؤية آيدان ليست سوى كيت سبنسر.
التعليقات لهذا الفصل " 23"