كان آيدان يبدو كشخص وُلد في منصب الأمير منذ البداية لقد انسجم في ذلك الدور أفضل من آيدان الحقيقي الذي وُلد وعاش فيه لأكثر من عشرين عاماً كان عليها أن تُقرّ، على الأقل، بطبيعة هذا الرجل المتأصلة في الارتياح، إلى جانب ذاكرته المذهلة.
في الواقع، حين ألقت عليه عشرات اللوحات الشخصية، كانت تظن أنه سيكون من الجيد إن تمكّن من حفظ نصفها فقط، وكانت تنوي أن تساعده من جانبه في الحالات التي لا يتذكرها.
غير أن رؤية آيدان وهو يتلقى تحيات النبلاء جميعاً دون أن يخطئ في أحدهم جعلتها تعيد النظر فيه من جديد.
فعلى الرغم من أنه أتى من عالم غريب، إلا أنه لم يُبدِ أي علامة من علامات التوتر في هذا الموقف كان يتصرّف بهدوء تام بصفته الأمير آيدان ، كما لو كان وجهه صفيحة من فولاذ.
وبعد أن انتهت تحيات النبلاء، بدأ الحفل فعلياً انساب اللحن المرح في الأجواء، وازداد عدد الرجال والنساء الذين ذهبو يرقصون في قاعة الاحتفال الفسيحة واحداً تلو الآخر.
ولحسن الحظ، لم يكن هناك ما يشير إلى أن على آيدان وكارينا أن يفتتحا الرقص أولاً كانت قلقة من أن تُهيئ الإمبراطورة مثل هذا الجو، لكنها كانت تحدّق أمامها بوجه متصلّب، ويبدو أنها لا تزال مستاءة مما حدث سابقاً.
“ألا يودّ صاحب السمو الأمير آيدان أن يرقص أيضاً مع أميرة القصر؟ الجميع يتطلعون إلى ذلك”
تصلّب وجه كارينا واستدارت نحو مصدر الصوت، وكما توقّعت، كان الماركيز بيلمون.
كان معروفاً بأنه من رجال الإمبراطورة، ليس بمعنى العلاقة الرومانسية، بل لأنه يقف في صفّها في كل الأمور ويعتني بشؤونها.
وقد سمعت أنه يرتبط بها بعلاقة قديمة منذ صغرهما، حتى إنهما يبدوان أحياناً على قدر من الألفة المفرطة.
‘هناك شائعة تقول إن الأمير لويد في الواقع هو ابن الماركيز بيلمون’
كانت بيرنيس قد قالت ذلك ذات مرة، وحينها حذّرتها كارينا من التفوّه بمثل هذه الكلمات، مؤكدةً أنه إن وصل الكلام إلى مسامع الإمبراطورة فقد لا تبقى على قيد الحياة.
لكنها الآن باتت تفهم سبب قول بيرنيس لذلك؛ فحتى بالنسبة لـكارينا ، كانت المسافة بين الإمبراطورة والماركيز بيلمون مختلفة عن الآخرين.
لقد رآه كثيرون وهو يخرج من قصر الإمبراطورة في وقت متأخر من الليل.
ورغم أن الأمر يبدو غير مرجّح، إلا أن الناس كانوا يشكّون بين الحين والآخر في العلاقة بين الإمبراطورة والماركيز بلمون كلما تذكّروها.
فهو كان يضع كل شيء جانباً، ويتقدّم كما لو أن الأمر يعنيه شخصياً متى تعلّق الشأن بالإمبراطورة.
هل كان ما قاله بأمرٍ من الإمبراطورة لإجبار آيدان على الرقص؟ أم أنه اجتهاده الشخصي لمحاولة إحراج آيدان ؟
في كلا الحالتين، كان من الواضح أنه رأس المجموعة التي تحاول إبراز لويد من خلال إذلال آيدان أمام الجميع.
قال الماركيز بلمونت مشيراً بعينيه نحو كارينا
“أليست أميرة القصر بانتظارك أيضاً؟”
كانت تودّ أن تجيب: لم أكن أنتظر شيئاً، لكن الأنظار كانت قد توجّهت كلها بالفعل إلى آيدان وكارينا
نظرت كارينا إلى أيدان ، فوجدته، على عكس مخاوفها، يواجه الماركيز بلمون بتعبير هادئ.
ولأنه تذكّر اسمه بدقّة عندما تبادلا التحية في وقت سابق، فلا بدّ أنه يعرف أنه من رجال الإمبراطورة.
فهل أدرك أيضاً أنه إن انساق خلف تحريضه فسينتهي به الأمر إلى الإهانة؟
بدأ ذهنها يزداد اضطراباً فعلى مدى الأيام الماضية، كانت ترقص أمام آيدان كل يوم بمساعدة كاي
وخلال الرقص، كان أيدن يحدّق مطوّلاً في حركاتهما.
هل يُعقل أنه حفظ كل شيء فقط من المشاهدة؟
والأهم من ذلك، هل كانت إصابته بخير؟
لم يُبدِ أي علامة ألم في طريقهما إلى هنا، ولكن “جكارينا في الحقيقة رأته اليوم يمشي خارج السرير للمرة الأولى منذ الحادثة.
“هل ترغب في رؤية رقصي؟ أم في رؤية رقص كارينا؟”
كان صوته هادئاً وفيه مسحة خفيفة من الدعابة، دون أي أثر للارتباك من الطلب المفاجئ بالرقص.
وربما لهذا السبب، ارتجفت حاجبا الماركيز بلمون بوضوح.
“بالطبع، سيكون المنظر الأجمل هو ظهور عضو العائلة الإمبراطورية الجديد.”
كان لويد هو من أجاب بدلًا من الماركيز بلمون.
كان واقفًا أمام كارينا ، بعدما انتقل بطريقة ما إلى الجلوس بجانب الإمبراطورة.
قال بانحناءة خفيفة وهو يمد يده نحوها
“هل تتكرمين برقصة واحدة معي؟”
أثار تصرّفه المفاجئ دهشة الحاضرين.
فـكارينا كانت زوجة الأمير آيدان، ولهذا كان من المفترض أن ترقص أول رقصة لها مع آيدان نفسه.
وقبل أن يتم ذلك، لا يحقّ لأحدٍ أن يطلب منها الرقص.
“لويد!”
نادته الإمبراطورة بصوتٍ بارد، وكان وجه الإمبراطور أيضًا قد تجمّد من الصدمة.
فما فعله لويد كان خروجًا صارخًا عن آداب البلاط.
قال لويد مبتسمًا وهو يتلفت حوله
“ولِمَ تبدون جميعًا متفاجئين إلى هذا الحد؟”
كان من الواضح أنه يعلم تمامًا ما يفعله، ومع ذلك تظاهر بالبرود.
“كما تعلمون جميعًا، لقد أُصيب آيدان في الهجوم واضطرّ للبقاء طريح الفراش لعدة أيام. وحتى الآن، لا بدّ أنه يعاني من الألم لمجرد الجلوس، وإن لم يُظهر ذلك. ومع ذلك، فهو هنا اليوم يضفي بوجوده البهيّ نورًا على حفل الإمبراطورة. وبما أنه يبذل كل هذا الجهد، رأيت أنه من اللائق أن أُبدي له قليلًا من المراعاة”
مراعاة؟ أية مراعاة هذه؟ وأين بالتحديد؟
حدّقت كارينا بـلويدربوجهٍ خالٍ تمامًا من التعابير، لكن اشمئزازها كان واضحًا.
أما هو، فالتفت إليها مبتسمًا بعينيه كأنه يزدريها.
وأضاف وهو يوجّه كلامه إلى الماركيز بلمون
“أليس من المبالغة أن نطلب من آيدان أن يرقص، بينما من الصعب عليه أن يتحرك؟”
تجهّم الماركيز عند سماع كلامه، وكأنه لم يفهم سبب تدخّل لويد في هذا الموقف.
“لكن، إن كان حتى زوجته ستجلس دون حراك في الحفل الذي أُقيم على شرفه، ألن يكون ذلك مؤسفًا؟ وبما أن الآخرين لا يستطيعون التقدّم، فقد رغبت فقط في أن أرقص معها الرقصة الأولى نيابةً عنه.”
عند سماع هذا العذر، كادت كارينا أن تنفجر ضاحكة، لكنها بالكاد كظمت ضحكتها.
فالفكرة القائلة إن لويد طلب منها الرقص بدافع المراعاة لـأيدان أو لها نفسها كانت أقلّ تصديقًا من أن يُقال إن قطًّا يشعر بالشفقة على فأر.
لقد كان ببساطة يُشبع رغباته الخاصة بينما يُهين أيدان بوقاحة أمام الجميع.
“أقدّر لطفك، ولكن—”
فقاطعها آيدان قبل أن تُكمل
“مراعاة غير ضرورية.”
ثم أضاف وهو يحدّق في لويد
“ومن قال إنني لا أستطيع الرقص؟”
وقف آيدان واقترب من لويد
“أم أنك تأمل أنني لا أستطيع الرقص؟”
وضع يده على كتف لويد وهمس بالقرب من أذنه بصوتٍ منخفض
“أم أنك واثق من أنني لن أستطيع الرقص؟”
ارتجف لويد عند سماع تلك النبرة العميقة.
ولم يفُت أيدان أن يلاحظ ردّ فعله، فابتسم بسخرية وربّت بخفة على كتفه قبل أن يتراجع خطوة.
“سأتقبّل نيتك الطيبة بامتنان فحسب.”
ثم ترك لويد خلفه، وتقدّم نحو كارينا ومدّ يده اليمنى نحوها
“لا يمكنني أن أتنازل عن فرصة الرقص معك لشخصٍ آخر.”
ظهر انحناء لطيف على طرفي عينيه، وبمجرد أن ظهرت ابتسامته الوسيمة، سُمعت تنهّدات خافتة من هنا وهناك.
كان على آيدان أن يشكر والدته التي أنجبته، فقد كان وجهه وحده كافيًا ليسحر قلوب النساء ملامح تجمع بين شبهٍ واضحٍ بالإمبراطور وخطوطٍ دقيقة رقيقة ورثها عن الإمبراطورة الراحلة، وعينان بلون حجر التوباز المتلألئ.
باستثناء كارينا، التي كانت تعلم أن الرجل القابع خلف هذا الوجه ليس أيدان الحقيقي.
— محتال.
ابتلعت الكلمة التي كادت تفلت من شفتيها، وأمسكت بيده الممدودة.
‘اتمنى انه يستطيع الرقص حقًا…’
راودها هذا الرجاء الصادق وهي تمشي معه نحو وسط قاعة الحفل.
***
في زقاقٍ مظلم، اضطربت عينا الرجل وهو يلتفت خلفه، ووجهه مبلّل بالعرق كان صوت حوافر الخيل يقترب أكثر فأكثر، وكلما ازداد اقترابًا، ازداد ركضه يأسًا غير أن ساقيه، اللتين بلغتا حدّهما، لم تعودا تطيعانه.
“هناك!”
ما إن خرج من الزقاق حتى سمع صوتًا يصرخ ثم تعالت أصوات حوافر عدة خيول بشكل أكثر عنفًا.
إن أُمسك بي، فسأُقتل.
لم يكن في ذهن الرجل سوى تلك الفكرة. عندما عُثر على حبيبته، التي كانت تعمل على ترتيب حجرة الأمير أيدان في الليلة الماضية، ميتةً، أدرك في تلك اللحظة أنه لم يعد له نفع
“أمسكوا به!”
كان الصوت القادم من خلفه أشبه بيدٍ قبضت على مؤخرة عنقه.
بدأ فمه يجفّ من شدة أنفاسه المتقطعة.
وبينما كان يركض بلا وجهة محددة، وجد نفسه فوق جسرٍ يجري تحته نهر إن عبرت الجسر ودخلت الغابة في الجهة المقابلة، ربما أستطيع الاختباء هناك غير أن بصيص الأمل ذاك تلاشى عندما رأى رجالًا ملثمين بالسواد يظهرون على الطرف الآخر من الجسر
“آه، ما أرهق هذا الأمر.”
تمتم الذي كان يطارده وهو يقطّب حاجبيه ويستلّ سيفه كانت عيناه تتوهّجان بعزمٍ قاتل وقد ضاق ذرعًا بالمطاردة الطويلة.
تحوّلت نظرات الرجل إلى النهر أسفل الجسر ابتلع ريقه بصعوبة وهو يحدّق في المياه الداكنة التي لا يُرى قاعها من شدّة عمقها وظلمة الليل.
في كل الأحوال، كان يعلم أنه سيموت.
وفي اللحظة التي انطلقت فيها ضربة السيف نحوه، ألقى بنفسه من فوق الجسر دون تردّد.
صوت ارتطام الماء — بلّاش!
ُمِع صوت ارتطام جسده بالماء، فتفاجأ المطاردون المقنَّعون وأطلّوا على النهر من أعلى الجسر
“اللعنة!”
تمتم الرجل الذي كان قد لوّح بسيفه بشتمٍ غاضب.
“ما الذي تنتظرونه؟ انزلوا جميعًا وابحثوا عنه! حتى لو كان جثة، أحضروها!”
وبمجرد صرخته، اندفع الآخرون نحو أسفل الجسر للبحث.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 20"