بإشارة من الماركيز بيلمون، رفعت الآنسة الشابة التي كانت إلى جانبه طرف فستانها قليلًا بكلتا يديها، وانحنت لتقدّم تحيتها.
“يسرّني لقاؤك أنا إيريس أتلي.”
كانت شابة جميلة المظهر متزنة الطبع، بما يكفي ليقدّمها الماركيز بيلمون بثقة.
“سررت بلقائك.”
ألقى لويد عليها تحية خفيفة، ومع ذلك احمرّ وجه إيريس بخجل، واحنت رأسها بعمق بدا الماركيز بيلمون مسرورًا من ردّ فعلها وابتسم بفخر، أما لويد فكان يراقب المشهد بنظرة باردة.
‘*أنا كارينا هيويت:يشرفني لقاؤك.’*
دون وعي، استعاد في ذهنه اليوم الذي رأى فيه كارينا لأول مرة بعد أن انحنت لتحيّيه بأدب، حدّقت فيه مباشرة دون أدنى تردد.
ورغم أن رتبتها كانت أدنى من رتبته كأمير، إلا أن موقفها كان يوحي بأنها لا تقلّ عنه كبرياءً ولا اعتزازًا بنفسها.
تلك الجرأة كانت ما أثار لويد.
فمجرد تخيّل عينيها المتغطرستين مركزتين عليه وحده كان كفيلًا بأن يسري البرد في جسده.
لقد أدرك منذ النظرة الأولى… أنه لا توجد امرأة أصلح لمقام الإمبراطورة من كارينا هيويت.
وبالطبع، كان من الطبيعي أن تكون له.
“جلالتك.”
عند نداء الماركيز بيلمون له، قطب لويد حاجبيه قليلًا ونظر إليه بعد أن قطع تيار أفكاره عن كارينا.
“كما ذكرتُ، اليوم هو أول ظهور لإيريس في المجتمعرهل لي أن أطلب منك مرافقتها؟”
سأل الماركيز بانحناءة احترام، وإزاء هذا الطلب الذي لا يمكن رفضه، قال لويد إنه فهم، ومدّ يده نحو إيريس.
وضعت إيريس يدها على يده بخجل.
“يبدو أننا سنسمع قريبًا أخبار زواج الأمير لويد.”
“يبدو أنه سيتخذ أحد أطراف الماركيز بيلمون زوجة له في النهاية.”
“ومهما قال الناس، فهو رجل الإمبراطورة تمامًا.”
“سمعت شائعة تقول إن الأمير لويد قد تقدّم بطلب زواج إلى دوقية هيويت…”
“هشش! ماذا لو سمعك أحد؟”
الذين راقبوا لويد وإيريس أخذوا يتهامسون بمختلف الأحاديث.
فمن كان يعلم، كان يعلم أن لويد أراد كارينا.
غير أن دوقية هيويت كانت قد دعمت الأمير آيدان منذ البداية، لذا كان احتمال زواج كارينا من لويد ضئيلًا.
وكان من المدهش أن لويد رغب في الزواج من كارينا رغم علمه، والإمبراطورة أيضًا، بذلك جيدًا.
“لكن الأمر مفهوم، فالطرف الآخر هي صاحبة السمو زوجة الأمير.”
عند ذكر أحدهم كارينا، أومأ الجميع برؤوسهم موافقين.
“لقد وصل صاحب السمو الأمير آيدان وصاحبة السمو زوجة الأمير.”
أعلن الصوت من عند المدخل.
وعندما ظهر الشخصان الرئيسيان، توقف الناس عن الهمس، واتجهت جميع الأنظار نحو الباب.
“آه…”
تنهّد أحدهم بدهشة خافتة.
لقد كان مظهر آيدان وكارينا، التي كانت تمسك بذراعه، مختلفًا قليلًا عمّا توقعه الجميع.
إذ ظنّوا أنهما سيحضران مرتديين أزياء فاخرة كما لو كانا في حفل زفاف، لكن الأمر لم يكن كذلك.
كان آيدان يرتدي ثوبًا أسود رسميًا خاليًا من أي زينة، بينما ارتدت كارينا فستانًا أبيض، إلا أن تطريزاته وجواهره كانت محدودة للغاية مقارنة بثوب زفافها، حتى بدا بسيطًا إلى حدّ التقشّف.
“يا إلهي، ما الذي يحدث؟”
“هل يمكن أن تكون جلالة الإمبراطورة تتصرف بدافع الغيرة؟”
“سيغضب دوق هيويت إن رأى هذا.”
“ومع ذلك، في يوم كهذا…”
كانت السيدات النبيلات على وجه الخصوص في غاية الاضطراب.
فبالنسبة للنساء، كانت مأدبة كهذه ذات أهمية كبيرة، إذ تُعدّ مناسبةً يُظهرن فيها مكانتهم وسلطتهم من خلال مدى جمالهم ورقتهم ومع ذلك، وفي مأدبةٍ رسمية تُقام في القصر الإمبراطوري تحديدًا، ظهرت كارينا، التي أصبحت لتوّها زوجة الأمير، مرتديةً زيًّا بسيطًا إلى حدٍّ مفرط.
حتى لويد بدا متفاجئًا، واتسعت عيناه دهشة نسي وجود إيريس إلى جواره، ولم يستطع أن يُبعد ناظريه عن كارينا التي كانت تدخل قاعة الحفل برفقة آيدان.
ما الذي يحدث؟
لم يكن الأمر كما ظنّ البعض، أنه قد تدخّل عمدًا ليمنع آيدان وكارينا من الظهور بملابس فاخرة بدافع الحقد أو الغيرة.
فمنذ البداية، كان لويد يشكّ في أن آيدان سيتمكّن من حضور المأدبة أصلًا.
وحتى لو حضر، فقد كان يعتقد أنّه سيتعرّض للإحراج لعدم قدرته على الرقص كما ينبغي، لذلك لم يهتمّ بمسألة الملابس الرسمية على الإطلاق.
هل يمكن أن تكون والدته قد فعلت شيئًا حقًا؟
لم يسمع شيئًا عن ذلك، لكن الاحتمال بدا ممكنًا إلى حدٍّ كبير غير أن الطرف الآخر كانت كارينا من دوقية هيويت، وحتى لو لم تُجهَّز لهما ملابس مناسبة في القصر الإمبراطوري، لكان من السهل على دوقية هيويت إعدادها.
مهما فكّر بالأمر، لم يستطع أن يجد تفسيرًا لهذا الزيّ الذي لا يُعقل.
ومع ذلك، فإن آيدان وكارينا، المعنيَّين بالأمر، حافظا على ملامح هادئة رغم الاضطراب الذي عمّ بين الناس.
“نحن محبوبان إلى حدٍّ ما.”
قال آيدان ممازحًا بصوتٍ منخفض لا تسمعه سوى كارينا، بينما كانا يسيران وسط الحشد.
“حسنًا، فهؤلاء الناس اجتمعوا في الأصل لرؤية سموّك ورؤيتي أيضًا.”
إذن كان ينبغي لهما أن يرتديا ملابس أكثر فخامة في مثل هذه المناسبة.
لكنّهما فعلا العكس تمامًا، لذا كان من الطبيعي أن يشعر الناس بالاضطراب.
“أتمنى أن تتذكّر الشخصيات المهمة جيدًا.”
ابتسم آيدان برقة ردًّا على كلمات كارينا حتى عندما طلبت منه الليلة الماضية أن يُراجع الصور الشخصية مرة أخرى تحسّبًا، أجابها بثقةٍ أنه لا حاجة لذلك.
“حالما نجلس في تلك المقاعد، سيتوافد الناس لتقديم التهاني لسموك واحدًا تلو الآخر إن لم تتعرّف إلى أحدهم، أعطني إشارة.”
عند سماع قلقها، ألقى آيدان نظرة حوله.
كان هناك بعض الأشخاص الذين لا يعرفهم، لكنهم كانوا على ما يبدو من الشباب الذين ظهروا حديثًا في المجتمع، وقد شعر أنه يعرف كلّ من تبقّى.
“قلق لا داعي له.”
عند إجابته الواثقة، كتمت كارينا تنهيدة خفيفة، راجيةً أن يكون واثقًا بحق.
وبينما كانا متوجّهين إلى مقعديهما المخصصين داخل قاعة المأدبة، اعترض لويد طريقهما.
“ها هما العروسان الجديدان.”
قالها دون أي تحية وعند سماعه ذلك، رفع آيدان بصره نحوه.
كان لويد ينظر إليه بنظرةٍ لا تخطئها العين، مزيج من الاحتقار والاستهانة.
إذن فهذا هو الرجل… الأخ غير الشقيق.
عرفه آيدان فورًا، وابتسم بسخرية.
عندها ارتجفت عضلات وجه لويد من الغضب.
“أتبتسم؟”
سأله لويد مذهولًا.
“إنه يوم سعيد، أليس كذلك؟”
أجاب آيدان بهدوء.
“ها! يقول يوم سعيد!”
ضحك لويد ضحكة فارغة من الذهول وتقدّم خطوة أخرى نحوه.
وبينما بدا موقفه مهدِّدًا، عبست كارينا وهمّت بأن تقول شيئًا، لكن آيدان مدّ يده قليلًا أمامها ليمنعها، وكأنه يحاول حمايتها من لويد.
ويبدو أن لويد أدرك الأمر بهذا الشكل أيضًا، إذ خفّض بصره ليتأمّل يد آيدان.
“يا لك من مثير للشفقة… أنت بالذات.”
من نبرة صوته وطريقته، اتّضح فورًا كيف كان لويد يعامل آيدان عادةً.
ولم يكن مستغربًا أن يكون المرافق الذي كان يخدم آيدان قد بدا قلقًا جدًا قبل خروجهم من جناحهم لحضور المأدبة.
“أليس من الأفضل أن تقلق بشأن وضعك بدلًا من وضعي؟”
رغم كلمات لويد المستفزّة، أجاب آيدان دون أن يقطّب حاجبيه حتى.
شعر لويد أن في الأمر شيئًا غريبًا، فتجمّد تعبير وجهه.
“ابتسم، فهذا حفل للاحتفال بزواج أخيك إن واصلت التحديق بهذه الطريقة، فقد يظنّ الناس أنك حانق على زواجي ألا توافقني؟”
ابتسم آيدان، وربّت على كتف لويد وهو يمرّ بجانبه.
“أيها الوغد…!”
“لقد وصل جلالة الإمبراطور وجلالة الإمبراطورة.”
وقبل أن يتمكّن لويد من الإمساك بآيدان غضبًا، دوّى إعلان وصول الزوجين الإمبراطوريين.
تراجع الجميع خطوة وانحنوا احترامًا، ولويد، رغم عبوسه، ابتلع كلماته وتراجع جانبًا.
دفعت كارينا ذراع آيدان برفق، ونظرت إليه نظرةً ذات معنى، ففهم مقصدها، ووقف إلى جانبها منحنِيًا قليلًا.
دخل الإمبراطور والإمبراطورة معًا عبر الممر الذي فتحه الحضور لهما.
وحين أوشكا على الوصول إلى مقعديهما المجهّزين، توقفت الإمبراطورة ونظرت نحو آيدان.
“آيدان.”
نادته بصوتٍ ناعم، فرفع رأسه ببطء والتقت عيناه بعينيها.
رغم أنه كان قد رآها فقط في اللوحات، إلا أنها بدت أصغر من عمرها بكثير.
كان قد سمع أنها في منتصف الأربعينيات، لكنها بدت في الثلاثينيات فحسب، وجمالها كان لافتًا للغاية.
خطر له أن هذا الجمال ربما هو السبب الذي مكّنها من أن تأسر الإمبراطور وتصبح عشيقته في شبابها.
لكنّ الإمبراطورة، التي كانت تحدّق فيه بهدوء، قطّبت حاجبيها الرقيقين فجأة.
“ما الذي حلّ بملابسك الرسمية؟”
كانت الإمبراطورة تشير أيضًا إلى مظهره البسيط، ويبدو أنها لم تُخفِ امتعاضها من كونه لا يليق بالمأدبة التي أعدّتها.
نظر آيدان إليها مباشرة وابتسم ابتسامة خفيفة، ثم فتح فمه وتكلّم بوضوح مقصود
“كما تعلمين، كان هناك من تمنى موتي وهذه الملابس هي إجابتي على ذلك.”
عند كلمات آيدان، خيّم صمت ثقيل على قاعة المأدبة، كما لو سُكب عليها دلـوٌ من الماء البارد.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"