عندما سمع آيدان الإعلان من الخارج، أمرهم بالدخول.
وحين غادر الطبيب الذي أنهى فحصه، دخل الخيّاط الإمبراطوري ومعاونه كان المعاون يحمل دمية عرض ترتدي اللباس الرسمي الذي اكتمل صنعه وبعد أن وضع الدمية في موضع يمكن لآيدان رؤيتها جيدًا، غادر المعاون غرفة النوم أولًا.
“حتى دون تجربته، ينبغي أن يكون المقاس مناسبًا تمامًا.”
غير أنه كان يتلفّت نحو آيدان باضطراب واضح فأمال آيدان رأسه متسائلًا عن سبب قلقه، ليلاحظ أن الخيّاط خفَض بصره سريعًا متجنبًا النظر في عينيه.
“صاحبة السموّ الأميرة زوجة وليّ العهد أوصت بأن يُصنع اللباس الرسمي لسموّك باللون الأسود دون أي زينة، وعندما استوضحت من سموّك أكّدت أن ذلك صحيح، ولكن…”
آه، إنه غير متأكد إن كان هذا حقًا مناسبًا وكان ردّ فعله مفهومًا فمن ذا الذي سيرتدي ثوبًا رسميًا أشبه بملابس الحداد—أسود لا يميّزه سوى وشاح أبيض—في حفلةٍ تُقام للاحتفال بزفاف؟
“حتى الآن، لو أضفنا أزرارًا ذهبية وتطريزًا بسيطًا، فسيبدو أكثر فخامة رغم لونه الأسود.”
غير أنّه حين التقت عيناه بعيني آيدان، تلعثم وسكت.
أما آيدان فلم يقل شيئًا، واكتفى بالنظر إليه ثم تبسّم بخفة عند هذه الاستجابة الغريبة، ازداد ارتباك الخيّاط.
“هذا يكفي لقد عبّر تمامًا عمّا أردته.”
كانت كلماته تبدو كمدح، لكنها لم تُنطق بنبرة مدح، فتغيّر وجه الخيّاط بحرج.
“ما دام سموّك يقول إنه لا بأس، إلا أنني لست واثقًا إن كان هذا مناسبًا حقًا بل وحتى فستان صاحبة السموّ الأميرة زوجة وليّ العهد…”
توقف عن الكلام وزفر زفرة طويلة تعبّر عن قلقه.
“كارينا؟ ما شأن فستانها؟”
فعقد الخيّاط حاجبيه في ضيق وكأنه كان ينتظر أن يُسأل هذا السؤال.
“إنه حفل يُقام احتفالًا بدخول صاحبة السموّ إلى القصر الإمبراطوري حتى أكثر الفساتين فخامةً قد لا تفي بالغرض، غير أن الفستان الذي اختارته سموّها… بسيط إلى حدّ أني أراه أقرب إلى التواضع المفرط، حتى إنني أتساءل إن كان يليق بوليمة إمبراطورية.”
تابع الخيّاط متوسلًا، بأنه إن سُمِح له الآن، فيمكنه تبديله بفستان آخر.
“متواضع؟”
“بالطبع، إنه مصنوع من أرقى الأقمشة وأجود الخيوط لكنه فستان أبيض خالٍ تمامًا من الزينة، لا يكاد يختلف عن الملابس اليومية ولقد بذلت جهدًا كبيرًا في إقناع صاحبة السموّ بالعدول عن جعله فستانًا أسود.”
عند سماع كلماته، انفجر آيدان ضاحكًا نظر إليه الخيّاط مذهولًا، لكن آيدان لم يستطع التوقف عن الضحك لفترة.
“سموّك…؟”
قال آيدان وهو يلوّح بيده بلا مبالاة
“لا، لا بأس دع الأمر كما هو.”
وبهذه الكلمات التي أوضح فيها أنه لا حاجة لتغيير لباسه أو فستان كارينا، وقف الخيّاط متردّدًا قليلًا قبل أن يستدير ببطء ويغادر على مضض.
ابتسم آيدان وهو ينظر إلى اللباس الأسود البسيط أمامه، وتمتم لنفسه
“إنها حقًا امرأة مثيرة للاهتمام.”
لم يكن يتوقع أن تشاركه كارينا في ما قاله مازحًا بأنه سيقيم جنازة.
‘*من فضلك، طلّقني. هذا ما جئت لأقوله.’*
أولى الكلمات التي قالتها بمجرد أن رأت وجهه كانت حادّة وقوية.
كان قد سمع بالفعل أنهما تزوّجا في اليوم السابق فقط، لكن أن تتبدّل مشاعرها بين ليلةٍ وضحاها وتطلب الطلاق، فقد أثار ذلك تساؤله عمّا تكون عليه تلك المرأة.
وبعد أن سمع ظروفها، أدرك أن طلبها للطلاق أمر يمكن تفهّمه، غير أنه بعد أن أمضى بضعة أيام هنا، أدرك أن مشاعر الناس في هذا العالم تختلف عن مشاعره هو.
فلم يكن الزواج مجرد زواجٍ عادي، بل كان زواجًا سياسيًا من أحد أفراد العائلة الإمبراطورية.
أن تطلب فسخه بعد ليلةٍ واحدة فقط، وهي امرأة من هذا العالم، لم يكن تصرّفًا طبيعيًا بحال.
وذلك ما جعله يزداد اهتمامًا بها.
فمنذ ذلك الحين، كانت ردود أفعال كارينا دائمًا تختلف قليلًا عمّا كان يتوقّعه.
وحين صرّح لها بوضوح أنه أتى من عالمٍ آخر، كان مستعدًا لأن يُعامَل كمجنون ولو أنها لم تستطع تقبّل ذلك، فقد كان يعتزم التذرّع بأنه ربما أصيب بالجنون المؤقت بسبب إصابته.
لكنها، بعد أن بدت وكأنها تفكّر مليًّا في الأمر، اعترفت في النهاية بأن روح آيدان قد استُبدلت بشخصٍ آخر.
“لكنّ حقيقة أنها ما زالت تصرّ على الطلاق تعني أن السبب ليس خيانة صاحب هذا الجسد.”
حتى الآن، كان قد أبقاها إلى جانبه لستة أشهر بحجة أنه يحتاج إلى خلفيتها الاجتماعية ليتمكّن من التكيّف مع هذا الجسد وهذا العالم، غير أنّ اهتمامه بها كشخص بدأ يزداد شيئًا فشيئًا.
ماذا لو أنني لا أريد أن أطلّقها؟
ابتسم ساخرًا من أفكاره تلك فقبل أن يقلق بشأن ذلك، كان عليه أولًا أن يكتشف سبب رغبة كارينا في الطلاق من الأساس.
كانت تخفي شيئًا بلا شكرفي البداية، لم يكن مهتمًا كثيرًا بمعرفة السبب وراء رغبتها الشديدة في الطلاق، لكنه الآن أراد أن يعرف.
“على أي حال، الأولوية الآن هي أن أجتاز هذا الحفل أو أيًّا يكن، بنجاح.”
غدًا، سيظهر آيدان رسميًا أمام الجميع للمرة الأولى، خارج نطاق كارينا ومن يخصّ هذا القصر.
ولم يكن يشعر بأي توتر حول ما إذا كان سيتمكن من تقمّص شخصية آيدان على نحوٍ جيّد.
فهو لم يكن ينوي تقليد آيدان الأصلي منذ البداية، إذ إن مثل ذلك التقليد الأخرق لن يكون ممكنًا على أي حال.
وبما أن الأمر كذلك، فليكن آيدان المختلف منذ البداية.
لم يكن متوتّرًا، بل متحمّسًا.
من سيكون أولئك الذين يستهدفون حياته؟ وكيف سيتصرّفون؟ وكيف سيتعامل معهم هو لاحقًا؟
آيدان — لا، بارك جين هو — عاش حياته كلها في مجتمعٍ تنافسيّ شرس.
كطالب، قاتل للحفاظ على درجاته في الصدارة كي يُحطّم تحيّز الناس تجاهه كيتيم في الجامعة، اضطر إلى العمل والدراسة طوال الليل كي لا يفقد منحة دراسته وفي سنته الأخيرة في الجامعة
خاض حربًا نفسية غريبة مع الطلاب المتفوقين الآخرين من أجل الحصول على توصية من أحد الأساتذة وحين التحق بالشركة بعد ذلك، اضطرّ إلى التنافس مع الموظفين الآخرين لبناء ما يُسمّى بـالإنجاز
لكن، حتى بعد كل ذلك، حين وُجِّهت إليه تهمة اختلاس زورًا واضطر إلى الاستقالة، وجد نفسه في شجارات بالأيدي مع رجالٍ يحملون سكاكين بشكل ما ولم يتردّد في خوض أعمال غسيل الأموال في عالم العصابات، حتى ارتقى ليصبح الذراع اليمنى لرجلٍ يُدعى الزعيم
وفي تلك المسيرة، كانت التهديدات لحياته أمرًا يوميًا مألوفًا.
القصر الإمبراطوري خطر؟
بالنسبة إليه، بدا مكانًا مهذّبًا مقارنة بعالم العصابات.
فعلى الأقل، كان الناس هنا يحاولون الحفاظ على كرامتهم مع مراقبة تصرّفاتهم تحت أنظار الآخرين — وذلك بحد ذاته يمكن أن يكون نقطة ضعفٍ قاتلة لهم.
تمامًا كما أنّ كارينا، لو كانت حقًا تريد الطلاق، لكان بإمكانها الهرب من القصر، لكنها لم تفعل بسبب أسرتها وسمعتها الشخصية.
الإمبراطور الذي أنجب طفلًا من عشيقته قبل زواجه الرسمي، والإمبراطورة التي قتلت الزوجة الأولى لتحلّ محلها، والأخ غير الشقيق الذي ينازعه على عرش الإمبراطورية — كان الغد هو اليوم الذي سيُعلن فيه الحرب عليهم جميعًا.
حربًا تُعلن أن آيدان القديم قد مات، وأن آيدان جديدًا وُلِد مكانه.
***
منذ الصباح الباكر، كان عدد كبير من الخدم يتحرّكون جيئةً وذهابًا في انشغالٍ تام استعدادًا للحفل.
ومع بدء غروب الشمس في وقتٍ متأخّرٍ من بعد الظهر، بدأت موسيقى هادئة تُعزف في قاعة الولائم الكبرى بالقصر الإمبراطوري.
أخذ الضيوف المدعوّون يتوافدون واحدًا تلو الآخر، وعلى أحد جوانب القاعة أُعدّت شتّى أنواع الأطعمة والمشروبات.
“صاحب السموّ الأمير لويد قد وصل.”
مع سماع هذا الإعلان، ابتعد النبلاء الذين كانوا يتبادلون الأحاديث في مجموعات صغيرة إلى جانبي القاعة وانحنوا احترامًا.
تكوّن ممرّ طبيعي بين صفوفهم، وسار لويد مرتديًا ثوبًا رسميًا أبيض في وسطهم كان صدر سترته مطرّزًا بكثافة بخيوطٍ ذهبية، والنقوش المطرّزة والأحجار الكريمة التي استُخدمت كأزرارٍ لسترته كانت فاخرةً إلى درجة أنّ من لا يعرف قد يظنّ أنه هو صاحب هذا الحفل.
قال له بعض النبلاء الذين اقتربوا لتحيّته
“صاحب السموّ، مرّ وقت طويل.”
“هل كنت بخير؟”
كان معظم أولئك من مؤيّدي الإمبراطورة والأمير لويد.
“صاحب السموّ.”
عندما سمع مناداةً من خلفه، التفت فرأى الماركيز بيلمون يقف هناك ردّ لويد بانحناءة خفيفة تعبيرًا عن التحية.
تلاقى نظرهما للحظةٍ بوميضٍ غامض، لكن قبل أن يلحظ أحد ذلك، ابتسم الماركيز بيلمون أولًا واقترب منه
“دعني أقدّم لك هذه ابنة أختي التي ستصبح قريبًا ابنتي بالتبنّي ، حيّي صاحب السموّ.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"