استقبله لويد بوجه مبتسم.
كان الماركيز بيلمون، الذي بلغ أواخر الخمسينيات من عمره الآن، لا يزال يتمتع ببنية قوية وكاريزما واضحة.
في شبابه، كان قد خرج إلى ساحة المعركة برفقة الإمبراطور، الذي كان حينها وليًّا للعهد، وحقق إنجازات كبيرة وبسبب ذلك، نال ثقة الإمبراطور، وتمكن بسهولة من التأثير عليه ليقع في حبّ لِيلِث ماكوي، الماركيزة الأرملة لعائلة ماكوي، التي كان قد عرّفه بها.
وبمعنى ما، كان بفضل الماركيز بيلمون أن لويد وُجد أصلًا.
عندما كان لويد صغيرًا، كان يشكّ في طبيعة العلاقة بين الماركيز بيلمون وأمه.
كان يتساءل إن كان حقًّا ابن الإمبراطور، أم أن الماركيز بيلمون ربما كان والده الحقيقي، نظرًا لقربه الكبير من والدته.
ومع مرور الوقت، حين أصبحت أمه الإمبراطورة واعترف به رسميًّا كأمير، تلاشت تلك الشكوك، إلا أن بعض الهمسات ظلت تتردّد هنا وهناك، متكهّنة بأن العلاقة بين الإمبراطورة والماركيز بيلمون ربما كانت أكثر من مجرد صداقة.
ولهذا السبب، أصبح وجود الماركيز بيلمون يزعج لويد بطريقة مختلفة الآن.
كانت أمه تقول إن الماركيز بيلمون ضروريٌّ تمامًا ليتمكن لويد من أن يصبح إمبراطورًا، لكن لويد كان يشعر أحيانًا بالقلق من أن وجود هذا الرجل قد يكون عبئًا عليه.
“لقد سمعتُ الخطوط العريضة من جلالة الإمبراطورة.”
“لا داعي للقلق.”
كان ردّه مختلفًا تمامًا عن الإمبراطورة، التي بدت متوترة للغاية.
“لن يواجه سموّك أي صعوبات.”
عند سماع كلماته الحازمة، شعر لويد بأن القلق الذي كان يعتريه قد بدأ يتبدّد.
ناول لويد الماركيز ورقة مطويّة
“هذه قائمة بالأشخاص المتورطين في تلك المسألة.”
فتح الماركيز الورقة وتصفّحها بعينيه بسرعة، ثم رفع نظره إلى لويد وسأله بنبرة باردة
“لا توجد أي أسماء ناقصة، أليس كذلك؟”
كان مجرد نظرته كفيلة بأن تخترق بشرة لويد.
ولما لم يُجب على الفور، طوى الماركيز الورقة بهدوء ووضعها على الطاولة.
“إن أبديتَ أي تعاطفٍ أحمق، فحتى جهودي لمساعدتك قد تذهب سدى والأسوأ من ذلك، قد تنقلب تلك السيوف لتُطعنك أنت.”
عند هذا التحذير الهادئ، أخذ لويد نفسًا عميقًا، انتفخ صدره ثم أخرجه ببطء.
“لا توجد أي أسماء ناقصة.”
تردّد لوهلة قصيرة كان بين الأسماء بعض التابعين الذين أخلصوا له إلى أقصى حد، وقد رأى في أمه قسوة حين أمرته بالتخلّي عنهم بتلك السهولة.
ومع ذلك، لم يستطع لويد في النهاية أن يعصي أوامرها.
“أفهم.”
حينها فقط، التقط الماركيز الورقة ووضعها في الجيب الداخلي لسترته.
ثم غيّر الموضوع قائلًا باسترخاء
“سمعتُ أن هناك حفلاً سيُقام قريبًا.”
يبدو أنه لم يُرِد التعمّق أكثر في موضوع الهجوم المفاجئ.
“جلالة الإمبراطورة تنوي اختيار شريكة لك في ذلك الحفل.”
توقفت يد لويد التي كانت تمتد إلى فنجان الشاي عند سماعه لتلك الكلمات غير المتوقعة.
“بما أن سموّ الأمير أيدان قد تزوّج أولًا، فإن جلالة الإمبراطورة مُحقّة حين تقول إنه لا ينبغي التأخر كثيرًا.”
لم يكن في كلامه خطأ، لكن جبين لويد انعقد فورًا.
فما يريده هو كارينا هيويت.
ورغم أنها أصبحت الآن من نصيب إيدان إلا أن لويد كان يعتقد أن كارينا ستسأم قريبًا من ذلك الأعرج البائس لذا لم يحن وقت التخلّي عنها بعد.
فإضافةً إلى أن مكانة دوقية هيويت كانت مغرية للغاية، كان اهتمامه بكارينا شخصيًّا أيضًا.
لقد كانت أجمل وأنبل من أي امرأة رآها من قبل، وهي الأنسب له كإمبراطور مستقبلي.
لقد ظنّ أن الإمبراطور اتخذ قرارًا أحمق حين منح تلك المرأة لآيدان .
“لمجرد أن آيدان تزوج أولًا لا يعني أنه علينا التسرع في زواجي أيضًا…”
قاطعه ماركيز بيلمون
“ستحضر ابنة أختي ذلك اليوم أيضًا.”
ارتعشت حاجب لويد عند تلك الجملة التي قطعت كلامه.
“لقد أتمّت التاسعة عشرة هذا العام سمعت أنها كانت تستعدّ لظهورها الاجتماعي الأول، فطلبت منها الحضور إلى الحفل لأنه فرصة مناسبة.”
لم يكن هناك ما يستدعي أن يُبلغه بأن ابنة أخته ستشارك في أول ظهور اجتماعي لها.
“أفهم.”
وحاول أن يمرّ على الأمر بعبارة مقتضبة.
“أنوي تبنّيها قريبًا لتصبح ابنتي رسميًّا إنها فتاة لطيفة وجميلة، فأرجو أن تُوليها بعض الاهتمام.”
كان يُظهر نواياه بوضوح لا يمكن تجاهله.
يبدو أنه لم يكتفِ بأن أصبحت لِيلِث ماكوي — التي دعمها — إمبراطورة، فالجشع البشري لا حدود له.
حين يحصل المرء على شيء، يرغب بالمزيد، وحين يمتلك كل شيء، يخشى فقدانه.
ولم يكن لويد مختلفًا كثيرًا عن ذلك.
الفرق فقط أن رغبات الماركيز بيلمون وأمه كانت تسير في طريقٍ يخالف ما يريده هو.
ابتسم لويد ابتسامة خفيفة
“حسنًا.”
وعندما سمع الماركيز الإجابة التي أرادها، ابتسم بدوره راضيًا.
ومهما اختلفت رغباتهم، فإنه ما زال بحاجة إلى مساعدته في الوقت الراهن، لذا لم يكن هناك ما يدعو للخصومة بينهما.
***
وضعت كارينا قائمةَ الأشخاص الذين كانوا على علمٍ باجتماع آيدان السرّي – تلك التي كانت قد تلقّتها منه – على الطاولة، وغرقت في تفكيرٍ عميق.
أول ما فعلته بعد استلام القائمة كان التحقيق في أمر كاي ميلر، قائد فرسان الحرس الخاصّ بإيدان كانت تظنّ أن إيدان سابقًا قد عيّنه في هذا المنصب لأنه كان يثق به أكثر من غيره، غير أنّها، وهي تتذكّر كم كان إيدان السابق شخصًا ضعيف التقدير وعديم الكفاءة في الحكم على الناس، لم تكن واثقةً تمامًا من قراره.
ولحسن الحظ، تبيّن أن كاي ميلر ليست له أيّ صلة بالإمبراطورة بل، وعلى الرغم من أنّ الأمر لم يكن معروفًا على نطاقٍ واسع، إلا أنّه كان قد أصبح فارسًا إمبراطوريًا بفضل رعاية الدوق هيويت وقد ساورت كارينا الشكوك بأنّ كاي ربما كان شخصًا زرعه الدوق لحماية إيدان من وراء الستار ومع ذلك، ومن باب التأكد، استعانت بوالدها للتحقق من هويته.
وبعد أن تأكّد لها أمر كاي ميلر، استعانت بمساعدته.
فلم يكن هناك من هو أنسب منه لتولّي مهمة التحقيق في الأشخاص داخل قصر إيدان من أجل مصلحة وكان إيدان قد أوكل إلى كاي بأن يقدّم تقاريره إلى كارينا مباشرة وكان السبب في ذلك أنّ ذهاب كاي وإيابه المتكرر إلى آيدان قد يُثير انتباه أيّ جواسيس لم يُكشف أمرهم بعد.
بعد أن تمّ تأكيد هوية كاي ميلر، تلقّت مساعدته.
فلم يكن هناك أحد أكثر ملاءمة لتولّي مهمة التحقيق في الأشخاص داخل قصر آيدان من أجل مصلحته كان آيدان قد أوصى كاي بأن يرفع تقاريره إلى كارينا بعد انتهاء التحقيق، لأن تردده المتكرر على آيدان قد يثير الشبهات لدى الجواسيس الذين لم يُكشَف أمرهم بعد.
وحين علم آيدان أنّ آيدان الأصلي لم يكن يتدخل في الأمور مباشرة، قرّر أن من الأفضل الحفاظ على تلك الصورة لبعض الوقت.
وقد وافقته كارينا الرأي، إذ لم تكن هناك حاجة لإثارة الشبهات دون داعٍ، خصوصاً وأنه لا يزال عاجزاً عن الحركة بشكلٍ كامل.
كانت كارينا تقضي معه ما يقارب نصف يومٍ كل يوم بحجة زيارة المريض، وفي أثناء تلك الزيارات كانت تنقل له تقارير كاي وآراءها الخاصة.
كان كاي ميلر يشعر بالمسؤولية تجاه الهجوم الذي تعرّض له آيدان.
فقد كان يحمّل نفسه اللوم لعدم حمايته كما ينبغي بصفته فارس الحراسة الخاص به، ولذلك كان يبذل قصارى جهده في التحقيق وراء خلفية ذلك الهجوم.
“لقد حققتُ حتى في عائلات جميع الأشخاص الواردين في القائمة، لكنني لم أجد أي صلة بالإمبراطورة جلالتها أو بسمو الأمير لويد كما تحققتُ مما كان يفعله كلٌّ منهم ومع مَن كانوا قبل وبعد وقت الهجوم على سمو الأمير آيدان لكن لم يكن بينهم من يثير الريبة بشكلٍ خاص.”
تكمن المشكلة في أنّه على الرغم من كلّ هذا، لم يتمكّنوا من العثور على أي شخصٍ مشبوه فهل كان افتراضهم بوجود جاسوسٍ داخلي خاطئاً؟ أم أنّ الفاعل لم يكن من جهة لويد أو الإمبراطورة؟
وأثناء تفكير كارينا في جميع الاحتمالات، هزّت رأسها نافضةً الفكرة لقد كانت على يقينٍ بأنّ الأمر مرتبطٌ بالويد فعندما التقته في الحديقة، بدا وكأنه يعلم تماماً بحالة آيدان.
علاوةً على ذلك، كان لديه الدافع الكافي.
*’لم يفت الأوان بعد إن وافقتِ على أن تصبحي عشيقتي الآن، فقد أتمكّن من إبقاء حياتكِ سالمة.*’
حتى وهو يضع السكين على عنقها، حاول لويد أن يمتلك كارينا لم تكن تعلم متى بدأ هوسة، لكن من المنطقي أن زواجها من آيدان هو ما أثار جنونه، وقاده إلى تدبير الهجوم.
إلا أنّ خصمها لم يكن شخصاً عادياً؛ فقد كان الأمير الأول، وابن الإمبراطورة الشرعي لذا لم تستطع اتهامه بالوقوف وراء الهجوم اعتماداً على مجرد شكوكٍ بلا دليل.
كان عليها أن تجد دليلاً قاطعاً بطريقةٍ ما، غير أنّ الأمر بدا عصياً عليها، كأنه يلتفّ حولها دون أن تتمكن من الإمساك به.
“عمّ تفكرين بعمقٍ مجدداً؟”
لم تعلم متى دخلت بيرنيس، لكنها كانت قد وضعت صينيةً أمام كارينا تحوي شايًا عطريًّا وسندويشات.
“لقد طرقتُ الباب عندما دخلتُ.”
قالت بيرنيس مشيرةً بعينيها نحو الباب قبل أن تتلقى توبيخاً.
عندها شعرت كارينا بالأسف تجاهها، مدركةً أنها كانت غارقة في تفكيرها إلى درجةٍ لم تسمع طرق الباب.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"