“وما الأمر الآن؟”
رغم أنها كانت تعلم أن الأمر لا مفرّ منه كونه مريضاً، إلا أنها شعرت وكأنه يحاول استغلالها في هذا وذاك كظمت شعورها المتصاعد بالانزعاج وسألته بنبرة متحفظة.
“هل توجد أقحوانات هنا أيضاً؟”
“أقحوانات؟”
“بيضاء، إن أمكن.”
أجاب بنبرة خفيفة وابتسم ابتسامة غامضة.
“آه، وماذا عن ملابس المأدبة؟ هل أرتدي ملابسي الرسمية الموجودة؟ أم أصنع غيرها جديدة؟”
تابع آيدان أسئلته كما لو أنه تذكّر شيئاً آخر.
“يمكنك ارتداء ملابسك الرسمية الحالية، لكني أعتقد أنه سيكون من الأفضل أن تُفصَّل لك أخرى جديدة هذه المرة فالجميع سيوجّه أنظارهم نحو سموّك.”
لم يكن من الضروري صنع ملابس جديدة في كل مرة، لكن هذه المأدبة، كونها الأولى بعد الزواج، كانت ذات أهمية خاصة فإذا كان سيظهر أمام الناس، فلا ينبغي أن يكون في مظهره أدنى نقص.
“إذن، أرجو أن تتولّي ذلك أيضاً لكن هل يمكنني تحديد لون الزي الرسمي؟”
أجابت بأنه حرّ في اختيار ما يريد ارتداءه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة كانت ابتسامة تنطوي على نيةٍ خفيّة.
“ليكن أسود أبسط ما يكون، ومن دون أي زينة إن أمكن.”
أسود؟ شعرت بالحيرة قليلاً لم يكن في ذلك ما يعيب، لكن من دون زينة، ألن يبدو الزيّ باهتاً أكثر مما ينبغي لمأدبة كهذه؟ كانت على وشك اقتراح لونٍ أكثر إشراقاً أو على الأقل إضافة بعض الزخارف، لكن آيدان سبقها بالكلام.
“إنها مأدبةٌ تستضيفها من يرغب في موت آيدان، لذا علينا أن نُرضي رغبتها تلك.”
ضيّقت كارينا عينيها في حذر، محاولة فهم ما يقصده، فيما ازداد اتساع ابتسامته المشرقة أكثر من ذي قبل.
“سنقيم جنازة جنازة لِـآيدان الذي كانوا يعرفونه.”
***
دخلت الخيّاطة الإمبراطورية إلى قصر كارينا، فقد كان الغرض تصميم فستانها من أجل المأدبة القادمة.
قالت إنها تملك بالفعل مقاساتها من حفل الزفاف، ثم عرضت عدداً من الفساتين الجاهزة وطلبت منها اختيار التصميم الذي تفضّله.
جالت عينا كارينا بين الفساتين الموضوعة أمامها كانت جميعها ذات ألوان زاهية مزدانة بزخارف متلألئة وبراقة لم يلفت أيٌّ منها انتباهها بل بدت شاردة الفكر، بالكاد تنظر إلى الفساتين.
“جنازة…”
“عفواً؟”
انزلقت الكلمة من فمها دون قصد لم تسمع الخيّاطة الإمبراطورية ما قالته بوضوح، فسألتها إن كانت ترغب في إعادة ما قالته بدت وكأنها تعتقد أن كارينا تتحدث عن ذوقها في الفساتين.
ورغم أن تفكيرها كان بالفعل منصبّاً على الفستان، إلا أنه كان يدور حول ما قاله آيدان، لذا لم يكن لديها ما تجيب به تحديداً.
أن يصف آيدان مأدبة الإمبراطورة بأنها جنازته الخاصة…
تساءلت عمّ كان يخطط له من هراء لكن كلما فكّرت بالأمر أكثر، وجدت نفسها تبتسم بخفّة كان الأمر عبثياً وفريداً في آنٍ واحد ومع ذلك، لم يكن خاطئاً تماماً بالنسبة لآيدان الحالي فبعد الهجوم، اختفت شخصية آيدان الأصلية، واحتلّ ذلك الرجل الغريب جسده، لذا، بطريقة ما، كانت فكرة إقامة جنازة مناسبة فعلاً.
“أزيلي كل هذا وأحضري شيئاً آخر.”
ارتبكت الخيّاطة من أمر كارينا المفاجئ فقد كانت قد اختارت الفساتين التي اعتبرتها الأبهى والأفخم، لكن الأميرة زوجة الأمير أمرت بإزالتها جميعاً، ما جعلها في حيرة حول ما يمكن أن يكون أفخم مما أحضرته.
“إن أمكن، أريد فستاناً هادئاً وبسيطاً.”
اتّسعت عينا الخيّاطة من الدهشة عند سماع هذه الكلمات غير المتوقعة.
“هـ-هل قلتِ بسيطاً، يا صاحبة السمو؟”
تساءلت الخيّاطة مرة أخرى وهي غير مصدّقة أذنيها كان يمكن تفهّم الرغبة في تصميم هادئ باعتبارها مسألة ذوق، لكن أن تطلب شيئاً بسيطاً لحضور مأدبة تُقام تكريماً لزوجة الأمير نفسها؟ ذلك بدا غير معقول على الإطلاق.
“لا حاجة للزخارف المعقدة، لذا لا تضيفي شيئاً غير ضروري.”
عندما قالت ذلك بوضوح، ارتسمت على وجه الخيّاطة علامات الارتباك.
“آه، وسأختار أيضاً الزي الرسمي الخاص بسموّ الأمير، لذا أحضري تلك الملابس أيضاً.”
وبما أنهم يعرفون مقاساته مسبقاً، لم تكن هناك حاجة لأخذها من جديد وعندما طلبت كارينا إحضار ملابس آيدان، ترددت الخيّاطة قليلاً متسائلة إن كان ذلك مناسباً.
“سموّه هو من طلب مني ذلك وإن لم تكوني واثقة، يمكنكِ التأكد بنفسك.”
عندها فقط أومأت الخيّاطة قائلة إنها فهمت، ثم انسحبت من المكان.
“هل تنوين فعلاً ارتداء شيء بسيط إلى هذا الحد؟ إنها أول مأدبة لكِ منذ دخولك القصر الإمبراطوري، ألن يكون ذلك غير لائق؟”
سألتها بيرنيس، التي كانت تراقب من الخلف، بنظرة متحيّرة بعد خروج الخيّاطة.
ورغم أن الأمر قد يبدو تافهاً، إلا أن فساتين سيدات النبلاء كانت تعكس مكانتهنّ ونفوذهنّ فكلّما علا المقام، ازدادت الفخامة، وكان الحرص دائماً على ألّا تتفوّق أيّ سيدة على الإمبراطورة نفسها في زينتها.
أما كارينا، فكانت أول زوجة أميرية في القصر الإمبراطوري، أي إنها بعد الإمبراطورة مباشرة في المكانة، ولا يحقّ لأحدٍ من نساء الإمبراطورية انتقادها حتى لو كان فستانها فاخراً بمقدار فستان الإمبراطورة ذاتها.
لذا كان طبيعياً أن تصاب كلٌّ من الخيّاطة وبيرنيس بالحيرة، إذ طلبت امرأة بمكانتها فستاناً بسيطاً بدلاً من فستانٍ مبهرٍ يليق بمقامها.
لأنها وإن كانت مأدبةً بالنسبة للإمبراطورة، فهي بالنسبة لآيدان جنازة.
ابتلعت إجابةً كانت على وشك الخروج من بين شفتيها لم يكن المعنى مجازياً فحسب، بل حقيقياً أيضاً فإذا لم تعد روح آيدان الأصلية أبداً، فهذا يعني أن آيدان الحقيقي قد مات، وأن هذا الآيدان الحالي هو من سيستمر في العيش.
وبالنسبة إلى كارينا، كان لهذا معنى خاص أيضاً فحياتها هذه ستكون مختلفة تماماً عن حياتها السابقة التي تتذكرها لأن من يتخذ القرارات ويقوم بالأفعال قد تغيّر.
إن كانت تلك التغييرات ستؤول إلى خيرٍ أم إلى شرّ، لم يكن معروفاً بعد، لكنها كانت وداعاً مثالياً لحياتها الماضية.
بمعنىٍ آخر، كانت جنازةً لكارينا القديمة أيضاً.
وخاصةً، كانت عزاءً لذاتها السابقة التي عاشت وماتت في حياتها الماضية.
“قال سموّه إنه سيرتدي زياً أسود بسيطاً، فسيبدو سخيفاً إن كنتُ أنا الوحيدة التي تبالغ في الظهور.”
حاولت أن تُخفي الأمر مستخدمة آيدان كعذر عندها أظهرت بيرنيس تعبيراً مليئاً بالأسف.
“ولماذا؟”
سألتها كارينا وهي لا تفهم سبب الأسف، فرفعت بيرنيس الصندوق الخشبي الذي كانت قد وضعته على الطاولة وفتحت غطاءه لتُريها ما بداخله.
كان في داخله عقد مرصّع بجواهر كبيرة صافية، مع زوج من الأقراط التي بدت كأنها جزء من الطقم نفسه.
“الدوق أعدّ هذا من أجلكِ يا صاحبة السمو قال إنه سيكون من الجيّد أن تُظهري به هيبتك في هذه المأدبة.”
“آه…”
تنهّدت كارينا أنيناً خافتاً عند رؤية هدية والدها غير المتوقعة.
وعندما فكّرت بالأمر، أدركت أن دوق هيويت كان يرسل لها في كل مرة تحضر فيها مأدبةً مجوهراتٍ كهذه كهدية.
ورغم أنها تزوجت ودخلت القصر الإمبراطوري الذي لا ينقصه شيء، فإن دوقية هيويت لم تكن أقلّ ثراءً من العائلة الإمبراطورية نفسها، لذا بدا للآخرين وكأن والدها يفيض حباً لابنته الوحيدة.
غير أن وراء ذلك الحبّ كانت تختبئ رغبةٌ أخرى — أن لا تُظلَّل كارينا أبداً تحت بريق الإمبراطورة.
كان دوق هيويت يحمل كراهيةً شديدة للإمبراطورة، إذ كان يعتقد أنّ قريبته، الإمبراطورة السابقة، قد قُتلت على يد الإمبراطورة الحالية.
ولذلك كان يأمل دوماً ألا تتراجع كارينا أمامها قيد أنملة.
“في المرة القادمة.”
قالت كارينا وهي تغلق غطاء الصندوق الذي تمسكه بيرنيس.
كان في الأمر شيء من الأسف، لكنها أدركت أنها لن تستطيع تلبية رغبة والدها هذه المرة.
فطالما كان آيدان في السابق ضعيفاً ومتحفّظاً أمام الإمبراطورة، كانت كارينا هي من تقف شامخةً ومتلألئة في مواجهتها لتعويض ضعفه.
لكنّ نهاية ذلك الطريق لم تكن حسنة.
بعد أن عادت بالزمن ثلاث سنوات إلى الوراء، كان كل ما فكّرت فيه هو كيفية الهروب من هذا القصر الإمبراطوري.
أما الآن، وقد قررت البقاء فيه نصف عامٍ آخر، فعليها أن تستعدّ جيداً أكثر من أي وقت مضى لمواجهة الإمبراطورة المتكرّرة.
ولحسن الحظ، لم تكن حياتها السابقة التي انتهت بالموت بلا فائدة تماماً.
ففي نظر الآخرين، كارينا هيويت لم تكد تبدأ حياتها في القصر الإمبراطوري، لكن كارينا الحالية قد عاشت فيه ثلاث سنوات بالفعل، وأصبحت تعرف جيداً من هم أتباع الإمبراطورة، ومن أولئك الذين يقتربون منها بوجوهٍ باسمة لإخفاء نواياهم الخادعة.
***
في وقتٍ متأخر من الليل، جاء الماركيز بيلمون لزيارة لويد.
“مرحباً بك، ماركيز بيلمون.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"