لم تُفاجأ كارينا، فقد توقعت أن يتصرف على هذا النحو.
لم يكن لويد وحده من ضاق ذرعًا بتصرفات آيدان الطائشة، فمعظم من في القصر الإمبراطوري شعروا بالأمر نفسه، وكانوا في الوقت ذاته يستغربون ذهابها لزيارته رغم كل ما حدث.
استغراب هو الوصف اللطيف فقط — أما في الحقيقة، فقد كانت تسمع همساتهم تتساءل إن كانت قد تخلّت عن كرامتها تمامًا.
أما القلائل الذين حاولوا تبرير موقفها والوقوف إلى جانب آيدان، فقد مدحوها على سعة صدرها وتفهّمها.
لكنها لم تكن تحتمل ولا تتفهم شيئًا من ذلك في الواقع، ولم تكن تنوي إظهار ما في قلبها أمام لويد على الإطلاق.
“يبدو أن هناك سوء فهم.”
رفع لويد حاجبه ساخرًا
“سوء فهم؟”
كانت ملامحه تقول بوضوح إنه لا يصدق كلمة واحدة مما سمع.
“صحيح أن صاحب السمو آيدان التقى الآنسة كيت سبنسر في ذلك اليوم، لكن سبب اللقاء لم يكن كما يشيع الناس.”
قهقه لويد بخفة ساخرًا
“ليس كما يشيع الناس؟”
“لقد ذهب صاحب السمو ليبلغ الآنسة كيت سبنسر بأنه لن يلتقيها على نحو شخصي بعد الآن.”
كانت تلك كذبة صريحة.
ولم يكن ممكنًا أن لويد يجهل الحقيقة.
وبالفعل، أطلق ضحكة قصيرة خالية من الإيمان بما قالت.
“أفهم… لا بد أنكِ تريدين تصديق ذلك بشدة لا بد أنكِ في موقف لا يُحسد عليه.”
لكن كارينا لم تزعزعها كلماته، وظلت ملامحها هادئة تمامًا.
“بل صاحب السمو هو من يرى ما يريد أن يراه ويسمع ما يريد أن يسمعه لو كانت لك أذنان بحق، لعلمت ما الذي حدث عندما جاءت الآنسة كيت سبنسر إلى صاحب السمو بالأمس.”
اختفت الابتسامة عن وجه لويد.
وبدا أنه لم يسمع شيئًا عمّا حدث في اليوم السابق، فالتفت نحو تابعه الواقف خلفه، لكن الأخير أومأ برأسه نافيًا علمه بالأمر.
“إن كنت فضوليًّا، فيمكنك أن تتحقق من الأمر بنفسك الآن.”
لحسن الحظ، بدا أنه لا يوجد جواسيس للّويد بين الحراس المكلّفين بحراسة مدخل غرفة آيدان.
ومع ذلك، لم يكن هناك شك في أن بين العاملين في قصر آيدان من يعمل سرًّا لصالح لويد.
فمن المؤكد أن أحدهم سرّب خبر ذهاب آيدان لمقابلة كيت سبنسر بعد الزفاف مباشرة، واستغلّوا تلك اللحظة لتنفيذ الهجوم عليه.
قالت كارينا بنبرة هادئة، لكنها تحمل في طيّاتها معنى آخر
“ألن تذهبوا لزيارة صاحب السمو للاطمئنان عليه؟”
كانت تعلم تمامًا أن لويد لن يذهب لزيارته، فالعلاقة بينهما كانت باردة منذ زمن، حتى لو لم يكن هو من دبّر الهجوم.
لكنها أرادت أن ترى كيف سيردّ — فهو، في النهاية، أخوه رسميًّا، وكان من الطبيعي أن يقوم بزيارة قصيرة على الأقل.
ارتسمت على وجه لويد علامة ضيق واضحة
“إن إصابته ليست بالغة إلى حدّ يستوجب الزيارة، أليس كذلك؟”
هل كان ذلك نغمة أسف لأنه لم يُصب بجروح أخطر؟ ربما كانت مبالغة في التفسير، لكنها لم تستبعدها.
“ومن الذي قال لك ذلك؟”
تجمّدت شفتا لويد في خط مستقيم، ومرّ على وجهه ظلّ من الارتباك للحظة وجيزة.
لو كان قد سمع من الطبيب المعالج، لما ظنّ أن إصابة آيدان طفيفة.
إذن من الذي أخبره؟ أحد خدم آيدان؟ أحد فرسان الحرس؟ أم ربما الشخص الذي وجّه الطعنة بنفسه؟
كان آيدان يبدو سليمًا ظاهريًا، فلم يُظهر أمامها أي ملامح ألم، حتى حين تحدثا وجهًا لوجه.
لم يحدث إلا مرة واحدة — عندما انحنى لالتقاط لوحة كانت على الأرض، فخرج منه تأوّه خافت لم يستطع كبحه.
لهذا، ربما نقل أحد الذين يدخلون ويخرجون من غرفته انطباعًا بأنه بخير.
قالت كارينا وكأنها تحدّث نفسها، دون أن تنظر إليه مباشرة
“يبدو أنك لم تقابل الطبيب بعد… فكيف علمت بحالة صاحب السمو آيدان إذًا؟”
لم يكن سؤالًا موجّهًا له صراحة، لكنها قالتها بذكاء كأنها تثرثر مع نفسها.
فإن كان في كلامها ما يطاله، فستظهر عليه العلامات فورًا.
وكما توقعت، ارتجفت شفتا لويد قليلًا، وانحرفت نظراته عنها إلى جانب آخر.
“لحسن الحظ، وكما قلتَ، حالته ليست حرجة.”
عندها تحرّكت حاجبا لويد بشكل طفيف، وكأن في كلامها ما أزعجه.
لم يعجبه أنها أكدت أن آيدان بخير.
لطالما كان لويد، مقارنة بالإمبراطورة، أقل قدرة على إخفاء مشاعره.
كان من الواضح من حال آيدان أنه ليس بخير كما يبدو، فمجرد رؤيته طريح الفراش دون حراك كانت كافية لتدلّ على ذلك.
ومع هذا، لم تكن كارينا تنوي أن تمنح لويد تلك الحقيقة بوضوح.
“هذا جيد إذن.”
ابتسم لويد ابتسامة متكلّفة
“سمعتُ أن جلالة الإمبراطورة تعتزم إقامة حفل احتفال بزواجكما قريبًا.”
ما إن سمعت كارينا كلمة حفل حتى ارتجف جسدها خفيفًا دون وعي.
بما أنه حفل للاحتفال بزواجهما، فحضورها واجب لا مفرّ منه — ومع الحضور، سيُطلب منهما حتمًا أن يرقصا أمام الجميع.
لكن كيف يمكن أن يُطلب من رجل لا يستطيع حتى النهوض من السرير أن يرقص؟
وفوق ذلك… الشخص القابع الآن في جسد آيدان لم يكن آيدان الحقيقي أصلًا.
هل يمكن أن يتعلّم الرقص في الوقت المتاح؟
لم تكن تعلم متى سيُقام الحفل، لكن فكرة أنها ستضطر لتعليم رجل غريب كيف يرقص جعلت رأسها ينبض بالألم.
قال لويد بابتسامة ظاهرها الودّ وباطنها السخرية
“سأكون في غاية الترقب لرؤيتكما.”
لكن كارينا، رغم اضطرابها الداخلي، أجابته بوجه هادئ وابتسامة مهذبة تخفي كل ما في داخلها
“سنسعد بحضورك ، صاحب السمو.”
“إن أذنت لي، فسأنصرف الآن.”
لم ترغب في تبادل المزيد من الكلمات معه، فاستدارت لتغادر.
غير أن عقلها بدأ يغلي بالتفكير — من أين تبدأ بتعليم آيدان؟ وهل سيتمكن من مجاراتها حقًّا؟
وفجأة، سمعت صوتًا حادًّا خلفها
“انتظري!”
مدّ لويد يده فجأة وأمسك بذراعها، جذبها بقوة جعلتها تتوقف في مكانها.
وكانت المفاجأة أكبر لدى الخدم المرافقين لكلٍّ منهما، الذين تجمّدوا في أماكنهم من الدهشة.
“جلالة الأمير…”
ناداه تابعه بصوت مرتجف، لكنه لم يجرؤ على إكمال كلامه.
انخفضت نظرات كارينا نحو ذراعها التي أمسكت بها يده بإحكام.
“أزل يدك عني.”
لكن لويد لم يبدُ وكأنه ينوي إطاعتها، بل شدّ قبضته أكثر حتى شعرت بالألم في موضع الإمساك.
فأخذت ملامح وجهها تنكمش بانزعاجٍ واضح، بينما واصل هو حديثه كأن شيئًا لم يحدث.
“قد لا يكون الأوان قد فات بعد.”
كان كلامه غامضًا أربك الجميع من حولهما، حتى عبست كارينا وقد تجعد جبينها محاولة فهم مقصده.
“لم تمضِ ليلتكما الأولى بعد، أليس كذلك؟”
ثم شدّ ذراعها فجأة نحوه، فاقتربت منه المسافة في لحظة حتى شعرت بأنفاسه تكاد تلامس وجهها.
قال لويد بصوت خافت عند أذنها، بحيث لا يسمعه الخدم الواقفون خلفهما
“اختاريني الآن… وسأتكفّل أنا بالتخلّص من كل شيء بعد ذلك.”
قالها هامسًا، وكأن عرضه المسموم لا ينبغي أن يسمعه أحد سواها.
“لا أفهم ما الذي تعنيه بكلامك.”
ثم نزعت ذراعها من قبضته بقوة وتراجعت خطوة إلى الخلف.
ورغم الموقف، ظلّ وجهها هادئًا إلى حدٍّ مرعب.
لقد تعلمت عبر حياتها السابقة أن أي انفعال يظهر على وجهها لا يجلب سوى مزيدٍ من استفزاز لويد، لذا أتقنت إخفاء مشاعرها تمامًا.
“سأراك قريبًا في الحفل، برفقة صاحب السمو آيدان.”
ثم انحنت له بتهذيب تام قبل أن تستدير وتغادر.
شعرت بنظراته الحارقة تخترق ظهرها، لكنها تجاهلتها وكأنها لم تلاحظ شيئًا.
تذكّرت فجأة ما قالته الإمبراطورة في الماضي
*لقد جاءنا اقتراح زواج من الأمير لويد أيضًا.*
كان ذلك في الوقت الذي كانت فيه ترتّب زواجها من آيدان.
لكن الاقتراح لم يكن قد نال موافقة الإمبراطور بعد، ولهذا رفضت أسرة دوق هيويت العرض بلطف، مستندين إلى ذلك السبب.
إلا أن لويد لم يتراجع.
**آيدان لا يحبك أصلًا، أليس كذلك؟ انظري إليه الآن… منشغل باللعب مع نساءٍ أخريات، وأنتِ تمضين لياليك وحيدة الكل في هذا القصر يعرف ذلك لذا، حتى لو جئتِ إليّ، فلن يجرؤ أحد على لومك.**
هكذا كان يقول، مكرّرًا كلماته المسمومة بلا خجل.
كان لويد مهووسًا بها بشكلٍ غير طبيعي.
في البداية، ظنّت أن ما يدفعه لذلك هو مجرد كراهيته لأخيه آيدان أو طمعه في نفوذ عائلة دوق هيويت.
لكن بمرور الوقت، تحوّل ذلك الفضول إلى هوسٍ خطير لا يعرف حدودًا.
لم يأبه لكونها زوجة أخيه غير الشقيق، ولم يخجل عن إظهار اهتمامه بها علنًا.
وحين بدأت الشائعات تنتشر بين النبلاء عن سلوكه المريب، تدخلت الإمبراطورة بنفسها وأجبرته على الزواج من ابنة أحد الدوقات لتضع حدًّا لتصرفاته.
لكن حتى زواجه لم يُطفئ ناره.
*لا بأس لو كنتِ عشيقتي، ما المشكلة؟ آيدان في حالٍ يُرثى لها، وليس عليك أن تبقي مخلصة له.*
هكذا قالها مرة بلا أدنى خجل.
لكن الآن، حين تذكّرت تلك النظرات التي كان يرمقها بها، أدركت أن ذلك الهوس القديم لم يخمد قط.
وربما… ربما كان ذلك الهوس ذاته هو السبب الذي جعل الإمبراطورة تتهمها وأسرة هيويت بالخيانة.
بمجرد أن خطر لها هذا الاحتمال، شعرت بأن نظرات لويد التي تتبعها حتى الآن كانت أكثر فظاعة من أي تهديد آخر.
كان القصر الإمبراطوري مكانًا يبدو واسعًا، لكنه في الحقيقة ضيّق إلى حدٍّ خانق، ولا شيء ينتشر فيه أسرع من الأحاديث والهمسات.
فقد شاع في أرجائه خلال وقتٍ قصير أن كيت سبنسر جاءت لزيارة آيدان المريض لكنها طُردت من أمام بابه، بينما كانت كارينا تدخل وتخرج من جناحه كل يوم.
عندما انتشرت الشائعة الأولى عن زيارة كيت غير اللائقة، ساد الاعتقاد بأن علاقة الأمير وزوجته على وشك الانهيار.
فما فعلته كيت كان تصرّفًا لا يمكن تفسيره بالعقل أو المنطق، لذلك كان القلق في مكانه.
لكن الأحداث أخذت منحى غير متوقع بفضل تصرّفات كارينا التي قلبت الأمور رأسًا على عقب.
فقد بدأ الناس يتحدثون بأن الأمير آيدان استعاد رشده أخيرًا، بل وبدأ يبتعد عن كيت سبنسر بعد أن أنهى علاقته بها — وهي الجملة التي نُقلت على لسان كارينا نفسها عندما التقت بالويد.
حتى إن بعضهم ذهب يتكهّن بأن الأمير وجد أخيرًا المرأة التي تمكّنت من تهذيب قلبه الجامح.
ومثل كل الشائعات في القصر، وصل هذا الحديث سريعًا إلى أذن الإمبراطورة.
“صاحبة الجلالة، الأمير لويد يطلب مقابلتك.”
لكن الإمبراطورة لم تُبدِ أي اهتمام، كانت تجلس على مقعدها متكئة بظهرها إلى الخلف، وملامحها مشدودة بغضب واضح.
دخل لويد القاعة، وانحنى احترامًا، فأشارت له الإمبراطورة بعينيها إلى المقعد المقابل لها.
قالت وهي ترفع فنجان الشاي إلى شفتيها بنبرةٍ باردة
“يُقال إن حالة آيدان أفضل مما توقعنا، بل ويبدو أن علاقته بزوجته قد ازدادت دفئًا أيضًا.”
لم يُجب لويد، بل أطلق أنينًا خافتًا كأنه يتحاشى الردّ.
تمتمت الإمبراطورة ببرود وهي تضع الفنجان من يدها
“يا له من أحمق.”
وفجأة، طار الفنجان من يدها نحو وجهه، فاصطدم بالأرض وتحطّم بصوتٍ حادٍّ مدوٍّ.
صرخت بنبرة جليدية
“لو كنتَ ستتعامل مع الأمور بهذا القدر من السطحية، فكان من الأفضل ألا تبدأ بشيءٍ من الأساس.”
حدّق فيها لويد بوجه متوتر يغشاه الغضب والظلم، وقال بصوتٍ متهدّج
“أنا لم أفعل شيئًا كهذا!”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"