“سيكون الأمر مزعجاً إن تصرفتِ ببراءةٍ مفرطة.”
تمتم آيدن وهو يفتح لفافة أخرى وكأن شيئاً لم يحدث عقدت حاجبيها في حيرة، غير قادرة على فهم ما الذي يقصده،
“حتى لو لم تكن هناك أفكار من قبل، فإن هذا يجعلني أرغب في لمسكٍ.”
ترددت الكلمات الأخيرة بوضوح في أذنها التفتت نحوه غريزياً لتتأكد إن كانت قد سمعت جيداً، ثم توقفت في مكانها كان آيدان يحدّق بها بتركيز، ولم تعلم منذ متى بدأ يفعل ذلك، لكن أعينهما التقت مباشرة.
“حين ترى لوحةً بيضاء خالية، ألا ترغب في أن تضع عليها نقطة واحدة على الأقل؟”
قفز حديثه إلى معنى غير مفهوم شدّت شفتيها مع المحافظة على اتصال عينيها بعينيه، متسائلة عمّا يحاول قوله بالضبط.
“وحين ترى ماءً صافياً، ألا ترغب في أن تغمس قدميك فيه؟”
“……”
“لذا، إن تصرفتِ ببراءةٍ مفرطة، فإن ذلك يجعلني أرغب في مداعبتك أكثر، تفهمين؟”
انحنت زاويتا عيني آيدان بابتسامةٍ لطيفة وبينما كانت مأخوذة بتلك الابتسامة غير المتوقعة، أدركت معنى كلماته متأخرةً بلحظة.
أن تسمع من فم آيدان نفسه كلماتٍ عن رغبته في مداعبة كارينا هيويت! إنه أمر لا يمكن رؤيته إلا بعد أن يعيش المرء طويلاً… أو لعلّه بعد أن يُبعث مجدداً.
فهذا هو الشخص نفسه الذي كان يتفادى نظراتها على الدوام وكأنها تؤذيه لمجرد النظر إليها
“يبدو أن لديك وقت فراغٍ كبير ليتك تستغله في حفظ وجهٍ آخر بدلاً من هذه الأفكار عديمة الجدوى.”
كادت تنهيده بضيقٍ أن تفلت منها كان من الواضح أنه لا يدرك تماماً الموقف الذي هو فيه، وإلا لما بدا بهذه الطمأنينة وهو يطلق مثل هذه الدعابات غير الضرورية.
“لقد حفظتهم جميعاً بالفعل.”
اتّسعت عينا كارينا ثم ضاقتا كان ادعاءه سخيفاً لم يمضِ وقتٌ طويل، وخلال تلك المدة، لم يفعل آيدان سوى إلقاء نظراتٍ عابرة على الرسوم التي فُتحت أمامه.
“لا تصدقينني.”
ضحك آيدان وهو يراقب تعبير وجهها، ثم أشار إلى إحدى الصور المبعثرة على السرير.
“دوق ريتشموند.”
نظرت إلى الصورة التي أشار إليها بإجابته الواثقة، فكانت بالفعل صورة دوق ريتشموند هل كان ذلك محض صدفة؟ أم لعلّه تذكّرها لأنه رآها للتو؟
التقطت إحدى الصور التي كانت موضوعة في الأسفل وقد نُظر إليها من قبل، ورفعتها أمام آيدان.
“من هذا الشخص؟”
“الماركيز بيلمونت.”
جاء الجواب من دون ترددٍ لحظة واحدة وكانت الإجابة صحيحة مجدداً عرضت عليه كارينا صورة أخرى.
“لويد غريفيث من اسمه يبدو أنه الطفل الذي أنجبه الإمبراطور من علاقةٍ غير شرعية الأمير الأول أو شيء من هذا القبيل.”
ابتسم آيدان ابتسامة غامضة وهو ينظر إلى صورة لويد، وعيناه تلمعان ببريقٍ غريب.
“إنه عدوي هذا الشخص.”
بمجرد سماع اسم لويد، عرّفه بدقة بأنه عدو، ليضيف بذلك إلى ما سمعه حتى الآن.
“هل حقاً حفظت كل هذا؟”
بعيداً عن حكمه بشأن لويد، كان من المدهش أنه حفظ بالفعل عشرات الصور بهذه السرعة فقد لمّح إليها لمحاتٍ قصيرة فقط، بل إنه ألقى بتلك الدعابات السخيفة في الوقت نفسه لم يكن يبدو مركزاً إطلاقاً، فكيف تمكن من حفظها جميعاً بهذه السرعة؟
“لطالما كانت ذاكرتي جيدة وأنا بارع أيضاً في تمييز وجوه الناس.”
أجاب آيدان ببساطة وكأن الأمر لا يستحق الذكر.
“على أي حال، ماذا عن الكتاب الذي طلبته؟”
أبعد الصور جانباً كما لو أنه لم يعد مهتماً بها، وذكر الكتاب الذي تحدّث عنه بالأمس.
“ستجلبه بيرنيس قريباً.”
“بيرنيس؟”
“بيرنيس راسل، وصيفتي إنها الابنة الكبرى لفيكونت راسل.”
“يبدو أنكِ قريبه منها إلى حدٍّ ما لا بد أنه أمرٌ جميل بالنسبة لها أن ترافقك حتى القصر الإمبراطوري.”
عند سماعها كلماته الخالية من المعنى، شدّت كارينا قبضتها لا إراديًا.
بالنسبة لها، كانت بيرنيس بمثابة صديقة وعائلة في آنٍ واحد.
فعندما بدأت ثروة عائلة راسل في التدهور، كانت عائلة هيويت الدوقية قد تكفّلت برعاية بيرنيس وإخوتها ليتلقّوا تعليماً لائقاً كأبناء نبلاء.
ومن بينهم، كانت بيرنيس، لكونها في سنٍّ مقاربٍ لكارينا، قد أقامت في قصر الدوق هيويت بصفتها رفيقتها، وحين تمّ تقرير زواج كارينا من آيدان ، جاءت إلى القصر الإمبراطوري دون أي تردّد.
لقد كان بسبب آيدان… وبسبب الطفل الذي أنجبه من علاقة غير شرعية، أنّها طُعنت حتى الموت بسيف لويد أمام عينيها مباشرة.
كان ذلك مشهداً لا ترغب أبداً في أن تعيشه مجدداً.
لو لم تصطحبها إلى القصر الإمبراطوري، لربما لم تمت بيرنيس.
لا، لو أنها لم تتزوج من آيدان أصلاً… لكنها، وقد رأت أنه ليس من الصواب أن تُحمّل الرجل الواقف أمامها اللوم، كتمت الغضب الذي كاد أن يفور في صدرها وأطلقت نفساً طويلاً.
وعند سماع ذلك الصوت، التفت آيدان نحوها.
“من فضلك، وقّع على هذا.”
مدّت كارينا نحوه ظرفاً كانت قد أعدّته مسبقاً.
نظر آيدان بين الظرف الذي في يدها ووجهها بتعبيرٍ بدا وكأنه يتساءل عمّا يحتويه.
“إنه اتفاقٌ مكتوب، ينصّ على أنّ سموّك سيلتزم بالوعد الذي قطعته بالموافقة على الطلاق بعد مرور نصف عام.”
فكلمات الناس يمكن أن تتغيّر في أي وقت، لذا وجب أن يُدوَّن الأمر بوضوح.
“هاه!”
أطلق آيدان ضحكة قصيرة، ثم فتح الظرف وأخرج الورقة التي بداخله.
وبعد أن ألقى نظرة سريعة عليها، ابتسم مرة أخرى.
“إنني حقاً معجب بك.”
عند كلماته الغامضة تلك، عقدت كارينا حاجبيها وهي تحدّق فيه.
التقط هو قلماً من على الطاولة المجاورة للفراش، ووقّع في أسفل الورقة، ثم أعادها إلى الظرف وسلّمها إلى كارينا.
“من فضلك، اختمه بختمك أيضاً.”
“ختم؟”
“لا بدّ أن لديكِ ختماً تستخدمه في جميع المراسلات الرسمية.”
“لا أعرف أين هو.”
كان يفترض أن يكون في غرفة الدراسة أو غرفة النوم، لكن آيدان بدا حقاً وكأنه لا يعلم مكانه.
“حين تجده لاحقاً، من فضلك اختم به الورقة.”
فالاتفاق الذي يخلو من ختمٍ قد لا يعد رسمياً، وهي لم ترغب في ترك أي احتمال، مهما كان ضئيلاً.
“حسناً.”
بعد سماع ردّه، استدارت كارينا وقد أنهت ما جاءت من أجله.
أما آيدان فظلّ يراقبها وهي تغادر غرفة النوم دون أدنى تردّد، ثم ابتسم ابتسامة عريضة بعد أن أُغلق الباب خلفها.
“كلما رأيتها، وجدتها أكثر سحراً.”
وبينما كان يتمتم لنفسه، وقعت عيناه على صور الإمبراطور والإمبراطورة ولويد. .
وببطء، تلاشت الابتسامة عن وجهه، وغاصت عيناه البنيتان القاتمتان، اللتان كانتا تحدّقان في اللوحات، في برودٍ قاتم.
***
كان هناك حديقة صغيرة على الطريق الممتد من قصر آيدان إلى قصر كارينا.
كانت الأزهار وأوراق الأشجار التي غمرتها أشعة الشمس الدافئة أكثر إشراقًا وحيويةً في ألوانها من المعتاد.
وربما لأن مشاعرها كانت في اضطرابٍ عاصفٍ خلال الأيام القليلة الماضية، فقد تباطأت خطوات كارينا دون وعيٍ عندما رأت المنظر الهادئ لتلك الحديقة.
وقفت ساكنة تتأمل المكان، وكل ما حدث خلال الأيام الماضية بدا لها وكأنه حلم.
كم كان سيكون جميلًا لو أنه حقًا كان حلمًا.
ففي هذا القصر الذي يبدو مسالمًا، لا يزال هناك من يستهدف أرواح الآخرين طمعًا في السلطة.
وحقيقة أن آيدان قد تعرّض لهجومٍ في اليوم الأول من زفافهما كان دليلًا على ذلك.
في حياتها السابقة، كانت كارينا قد تغاضت عن هذه الحقيقة بسهولة، وقد جُرح كبرياؤها بخيانة آيدان، رغم أنها كانت تعلم بالأمر.
لكن هذه المرة…
انقطعت أفكارها فجأة عندما رأت رجلًا يسير نحوها.
لويد غريفيث.
ما إن تردّد اسمه في ذهنها حتى تصلّب وجهها لا إراديًّا.
عاد إليها بوضوح ذلك الإحساس البارد الذي شعرت به عندما لامس سيفه عنقها، واشتعل قلبها غضبًا.
ومع ذلك، ذكّرت نفسها بأنه في هذا الوقت تحديدًا، لم يكن بينهما سوى القليل من التواصل.
فحتى قبل الزواج، كان عدد المرات التي التقت فيها بالويد يمكن عدّه على أصابع اليد الواحدة، ولم تتبادل معه سوى بضع كلمات.
لقد كان يتجه نحوها بوضوح، ولم يكن مجرد عابر سبيل.
وحين لم يتبقَّ بينهما سوى ثلاث خطوات تقريبًا، انحنت كارينا قليلًا برأسها تحيةً له، فردّ لويد التحية بإيماءة خفيفة وتوقّف أمامها.
ثم حوّل نظره إلى الاتجاه الذي جاءت منه كارينا، أي خلفها.
“هل يُعقل أنكِ كنتِ عائدة من عند صاحب السمو آيدان؟”
هل يُعقل…؟
هل كانت تتوهم، أم أنه شدّد فعلًا على تلك الكلمة؟ لا، لم تكن تتوهم.
فقد كان لويد ينظر إليها بوجه واضح التعبير عن عدم التصديق
“بلى، أنا عائدة من زيارة سموّ آيدان.”
أجابت بصوتٍ واضحٍ ومتعمد.
فتجهّم وجه لويد على الفور.
“ذلك الرجل الذي استمتع بلقاءٍ سريّ مع امرأةٍ أخرى بعد مراسم زفافه مباشرة؟”
لم يكن هذا مفاجئًا، فقد كانت تتوقع أن يردّ بهذا الشكل.
فليس لويد وحده، بل أغلب من في القصر الإمبراطوري كانوا يمقتون ما فعله آيدان، وقد استغربوا كونها لا تزال تزوره رغم ذلك.
كانت كارينا تدرك تمامًا أن من يقولون إنهم منذهلون، إنما يتهامسون في الواقع عمّا إذا كانت تفتقر إلى الكرامة.
أما القلّة التي حاولت الوقوف في صفّ آيدان وتبرير أفعاله، فقد كانت ة تمدح تسامح كارينا وتفهّمها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"