1
دوّي صوتٌ عالٍ – بانغ! – وانفتح الباب بعنف، واقتحم الفرسان ذوو الزيّ الأحمر الغرفة. وفي مقدّمتهم وقف وليّ عهد الإمبراطورية، الأمير الأول لويد غريفيث.
“سموك!”
صرخت إحدى الخادمات وقد شحب وجهها خوفاً، ومدّت ذراعيها محاولةً حماية كارينا غير أنّها أُزيحت بسهولة تحت قوة دفع لويد ثم اندفع فارسٌ آخر إلى الداخل، وطعن الخادمة في بطنها دون تردّد وعندما سُحب السيف الملطّخ بالدماء من جسدها، تقيّأت دماً أحمرَ قاتماً وانهارت في مكانها.
حاولت كارينا الاندفاع نحوها، لكن لويد اعترض طريقها ابتلعت الغضب الذي كان يغلي في صدرها، وأدارت رأسها نحوه محدّقة فيه بعيون مشتعلة.
“كارينا.”
نطق لويد باسمها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ملتوية.
“لو أنكِ اخترتِني منذ البداية، لما وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.”
كانت كلماته مزيجاً من الندم والسخرية، وهو يجرّ سيفه ويوجّهه إلى عنقها.
“كارينا، زوجة الأمير الثاني آيدان غريفيث لقد أصدر الإمبراطور مرسوماً بإعدامك بتهمة الخيانة.”
لامس طرف السيف بشرتها البيضاء، فشعرت بوخزه حادّة وبقطرات دمٍ دافئة تسيل على عنقها تقدم لويد، وهو يراقبها بعينين باردتين، وأمسك بذراعها بعنف وجذبها نحوه.
“ما زال الأوان لم يفت بعد إن وافقتِ أن تصبحي عشيقتي الآن، فقد أتمكّن من إنقاذ حياتك.”
همس في أذنها لكن سخافة عرضه لم تستحق حتى ضحكةً منها فمهما كان بينهما من دمٍ مشترك، فهي زوجة شقيقه آيدان، ومع ذلك، ها هو ذا يوجه إليها سيفه ويعرض عليها النجاة مقابل خيانتها.
“اقتُلني فقط.”
ارتجف لويد للحظة أمام ردّها الهادئ الصلب وعندما تراجع خطوة إلى الوراء، بدا وجهه واضحاً، مفعمًا بالإهانة والغضب لكونه رُفض حتى النهاية.
“غروركِ هو ما جلب عليكِ هذا المصير.”
تفوه بها ببرود وهو يرفع سيفه.
غرور؟ لم تستطع إنكار ذلك فعلى الرغم من علمهم بأن القوة الحقيقية في العائلة الإمبراطورية كانت بيد الإمبراطورة، فإن دوقية هيويت اختارت دعم آيدان غريفيث – ابن الإمبراطورة الراحلة منذ أكثر من عقد – بدلاً من لويد ابن الإمبراطورة الحالية، وأرسلت كارينا لتكون زوجته ، مؤيدةً له بثبات.
وكانت النتيجة ما تراه الآن.
لو أنّ آيدان كان أذكى قليلاً، أو أكثر كفاءةً، هل كانت الأمور ستختلف؟
لو لم يكن غبياً وضعيفاً وعديم الحيلة، لو لم يُنجب طفلاً من امرأةٍ أخرى، لعلّ هذا لم يكن ليحدث.
لقد كان خطأ دوقية هيويت أنّها أغفلت حقيقة أنّ آيدان، تحت ضغط الإمبراطورة ولويد، كان أكثر ضعفاً وانطواءً مما توقعوا، وكان يميل بشدة إلى الخيانة بطبعه
“آيدان، والدوق والدوقة من آل هيويت، سيلحقون بكِ إلى الموت، فلن تكوني وحيدة في رحلتك إلى العالم الآخر.”
ابتسم لويد ابتسامة خبيثة، ثم هوى بسيفه.
رأت كارينا شفرة السيف تقترب من عنقها، فأغمضت عينيها بإحكام.
وفي اللحظة التالية، غمرها الظلام.
***
“…، يا… يا سموّك!”
ارتجفت حين سمعت صوتاً مألوفاً، واستعادت وعيها لتجد خادمةً واقفة أمامها، تنظر إليها بوجهٍ يملؤه القلق.
ما… ما الذي يحدث؟ لقد رأيتها تُطعن أمامي حتى الموت بوضوح…
انخفض بصرها تلقائياً نحو بطن الخادمة الفستان الذي كان غارقاً بالدماء قبل لحظات، بدا الآن نظيفاً ومرتباً كما كان دائماً.
“بيرنيس؟”
حين نادت اسمها، ابتسمت بيرنيس بلطف
“نعم، سموّك.”
لقد كانت بيرنيس حيّة حقاً.
“آه…”
الصدمة من فقدانها لم تتلاشَ بعد — تلك التي نشأت معها منذ الطفولة، وتبعتها إلى القصر دون تردد عندما أصبحت كارينا قرينةً للأمير — ومع ذلك، ها هي تقف أمامها الآن، تتحدث إليها وكأن شيئاً لم يحدث…
هل هذا حلم؟ وأيّ جزء منه هو الحلم؟
“هل سموّك بخير؟ لم تُصب بأذى، أليس كذلك؟”
سألت بيرنيس بحذر.
هزّت كارينا رأسها لتشير إلى أنها بخير، لكن ذهنها ظلّ غارقاً في الضباب كان ما رأته حقيقياً إلى درجة لا يمكن أن يكون حلماً لا تزال تشعر بوضوح ببرودة نصل السيف على عنقها.
رفعت يدها بلا وعي إلى عنقها، ولمست بشرتها الناعمة الخالية من أي ندبة.
كيف لا تزال حيّة؟ ولماذا تقف بيرنيس أمامها وكأن شيئاً لم يحدث؟ ألم تمت مطعونة أمامها؟
شعرت بثقل في رأسها، إذ تدفقت الصور في ذهنها لكنها لم تستطع ترتيبها أو فهمها.
“آنستي، لا، أقصد… سموّك ما زلت غير معتادة على اللقب، فأستمر في مناداتك بالآنسة.”
قالت بيرنيس بتلعثمٍ خفيف.
تشنّجت كارينا عند سماع كلمة الآنسة.
بيرنيس كانت شديدة الحرص، فهل يُعقل أن تخطئ في مثل هذا؟ لا شكّ أن هناك خطباً ما.
” لسموك كل الحق في الغضب، فهذا حقاً كثير في ليلة الزفاف الأولى، تُتركين وحدكِ بينما يقضي هو وقته مع امرأة أخرى ثم تتعرضين للهجوم… يا له من إذلال لا تتخيلين كم الناس يتحدثون من وراء ظهرك.”
ليلة الزفاف الأولى؟ هل قالت الليلة الأولى؟
“بيرنيس… ما اليوم؟”
مالت بيرنيس برأسها باستغراب من السؤال.
“أنسيتِ تاريخ اليوم؟ لقد تزوّجتِ البارحة فقط.”
يا إلهي…
كان جواب بيرنيس كضربة مطرقة ثقيلة على رأسها.
لقد تزوجت من آيدان قبل ثلاث سنوات.
قبل ثلاث سنوات…؟ ثلاث سنوات مضت؟
“ما هذا الهراء…”
تمتمت بعدم تصديق، ثم توقفت فجأة.
على الطاولة أمامها، رأت التاج والطرحة اللذين استُخدما في حفل زفافها وعندما تجوّلت بنظرها حول الغرفة، لاحظت نظراتٍ غريبة على وجوه الخدم الواقفين خلف بيرنيس؛ كانوا يتبادلون النظرات وكأنهم يتساءلون إن كان بها خطب ما، أو إن كانت قد فقدت صوابها.
هل هذا حقيقي؟
هل عدتُ حقاً ثلاث سنوات إلى الماضي، كما قالت بيرنيس؟
كانت أفكارها مضطربة كانت متأكدة من أنها ماتت على يد لويد، فكيف عادت إلى الماضي؟ ولماذا تحديداً إلى هذا التوقيت، بعد زواجها من آيدان مباشرة؟
لو أنها عادت بالزمن إلى ما قبل الزواج، لكانت وفّرت على نفسها الزواج من ذلك الأحمق.
قبل ثلاث سنوات، كانت تؤمن بأنها قادرة على تغييره، وواثقة من أنّه، بدعمها ودعم دوقية هيويت، سيتمكّن آيدان غريفيث من الفوز في الصراع على العرش لكنها لم تدرك حينها أن ذلك لم يكن سوى وهمٍ نابعٍ من غرورها.
فعلى الرغم من أنها كانت دائماً تُخفي أخطاءه وتتحمّل مسؤولياته وتقوم بواجباته بدلاً منه، إلا أنّ آيدان لم يتغيّر قط، وظلّ كما هو — ضعيفاً، عاجزاً، ولا يرى أبعد من رغباته الخاصة.
بل إنه، رغم مرور ثلاث سنوات دون أن يقترب منها كزوج، أنجب طفلاً من عشيقته، فلطّخ كرامتها بالعار وفي النهاية، حاول اغتيال الإمبراطور ليجعل من ذلك الطفل عضواً في العائلة الإمبراطورية، فكانت النتيجة إعدامه لها ولأسرة هيويت بأكملها.
شعرت بفراغٍ عميق وحسرةٍ لاذعة على كل ما بذلته سدىً.
وكلما استحضرت السنوات الثلاث الماضية، ازداد الألم في عنقها، في الموضع ذاته الذي لامسه سيف لويد لقد عاد إليها بوضوح إحساس النصل وهو يشقّ بشرتها.
لم تعد قادرة على الاحتمال أكثر.
لم تَعُد تريد اختلاق الأعذار لآيدان، ولا التضحية بنفسها من أجله، فقط لتُقتل في النهاية بسبب طفلٍ وُلد من خيانته.
لم تَعُد تريد تكرار تلك المأساة لقد سئمت من آيدان ومن العائلة الإمبراطورية كلها نفد صبرها الذي كانت تبرّر به كل شيء تحت ذريعة واجبي أن أجعله إمبراطوراً
وإن كانت قد عادت حقاً ثلاث سنوات إلى الماضي، فذلك في الحقيقة نعمة.
لقد عقدت العزم على أن تطلب الطلاق.
صحيح أنّ والدها، دوق هيويت، سيغضب غضباً عارماً إن أقدمت على إبطال زواجٍ قد تم بالفعل، لكن ذلك أهون بكثير من أن تُذبح معه بعد ثلاث سنوات.
“إلى أين تذهبين؟”
سألت بيرنيس بسرعة عندما نهضت كارينا فجأة، ولحقت بها بخطواتٍ متوترة.
“إلى سموّه.”
توسّعت عينا بيرنيس دهشةً.
“سموكِ… ستذهبين إليه أولاً؟”
كانت مضطربة؛ فحتى وإن كان آيدان عاجزاً عن الحركة بسبب الهجوم، فكيف سيبدو الأمر إن ذهبت إليه زوجته أولاً، وهي التي تُركت وحيدة في ليلة زفافها؟
نصحتها بيرنيس بأن تحافظ على كرامتها.
لكن كارينا أجابت بحزم
“الكرامة لا تهمّ الآن.”
قبل ثلاث سنوات، كانت قد تجاهلت خيانة آيدان حفاظاً على كرامتها أمّا الآن، فلم يكن هذا وقت الكِبرياء كان عليها أن تخرج من هذا المستنقع بأسرع ما يمكن.
قد يكون آيدان قد جلب موته بيده، لكن لا هي ولا دوقية هيويت يجب أن يُسحبا معه إلى هلاكٍ بلا معنى مرة أخرى.
لقد عقدت العزم على أن تطلّق آيدان، وتقطع كل صِلتها بتلك العائلة الإمبراطورية البائسة، لتعيش حياة هادئة في أراضي دوقية هيويت.
وآيدان، الذي كان يرى زواجه منها عبئاً منذ البداية، ربّما سيرحّب بفكرة الطلاق بكل سرور.
بل إنّ لديه ذريعة مثالية — فقد خانها في ليلة زفافهما الأولى — وحتى لو عارض الطلاق، فقد قررت كارينا أن تُتمّه مهما كلّف الأمر.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 1"