1
“نائب القائد إيلين سيُسَرَّح تسريحًا مُشِينًا!”
في مطعم كتيبة الفرسان المقدّسين الثالثة بالإمبراطورية، اندفع أحد الفرسان وهو يصرخ بهذه الجملة.
خَيَّم صمتٌ كثيفٌ على المطعم، وكأنّما سُكِبَت عليه المياه الباردة، بعد أن كان يعجُّ بضجيج لا يختلف عن ضوضاء الأسواق.
“ماذا؟ تسريح مُشين؟!”
صاح أحدهم في الحال كأنّه يطلق صرخة.
تَبدّد السكون، وملأَ ضجيجٌ مُدَوِّ ع المطعم.
“ماذا يحدث بحقّ خالق السماء؟”
“تسريح مُشين؟ تلك عقوبةٌ بالغةُ القسوة!”
كان الفرسان في حالة هياجٍ بسبب هذا النبأ المُفاجئ. حينها أشار أحدهم إلى نقطةٍ جوهرية:
“تمهّلوا قليلًا…… إن ذهب نائب القائد إيلين……!”
إيلين باسكال.
كان قنّاصًا صاعدًا ومُجيدًا بين صفوف الكتيبة الثالثة. كان تصويبه لا يُخطئ الهدف أبدًا بمجرّد أن يحمل بندقيته. لم يكن يتمتّع بالكثير من القوة المقدّسة، ولكنه وصل إلى منصب نائب القائد بفضل مهارته المنفردة في إصابة الأهداف.
وهو أيضًا أفضل رماة الكتيبة؛ الذي كان يحصد المركز الأوّل في الرماية كلّ عام في مسابقة الاتّحاد التي تُقام بين كتائب الإمبراطورية، فيرفع بذلك هامة كتيبة الفرسان المقدّسين الثالثة.
“مَن سيجلب لنا كأس بطولة الاتّحاد القادمة إذًا؟”
“يا للأسف!”
“أعلينا أن نكتفي بمشاهدة فرسان الكتيبة الرابعة وهم يتكبّرون الآن؟”
تحوّل المطعم إلى فوضى عارمة إثر هذا الصياح. دخل كاتب الكتيبة الثالثة، وعبّر عن استيائه بإطلاق تنهيدةٍ عابرة، ثم رفع صوته قائلًا بلهجةٍ حازمة:
“لِيَهدأ الجميع! المسألة تتعلّق بعصيان الأوامر!”
“……عصيان الأوامر؟”
“نائب القائد إيلين؟”
عندها، ضَرَبَ أحدهم الطاولة بقوّةٍ وصرخ:
“كنتُ أعلم. كنتُ أعلم أنّه سيتسبّب في ورطةٍ ما يومًا!”
“لا عجب في أنّه كان دائم التذمّر! عرفتُه منذ أن كان يستخدم البشر كأهدافٍ للتمرين!”
“وماذا فعل على وجه التحديد؟ هل وجه لكمةً لقداسة البابا؟”
انطلقت صرخاتٌ تشبه نقيق الديوك المذبوحة مجدّدًا. وفي تلك اللحظة، ظهر وريدٌ بارزٌ على جبين الكاتب.
طاخ!
سُمع صوت ضربةٍ قويّةٍ على أرضيّة المطعم.
صَمَتَ الجميع الذين كانوا يثرثرون فجأةً.
“أيّها القائد إيستا.”
رفع إيستا، قائد كتيبة الفرسان المقدّسين الثالثة، الذي دخل للتوّ خلف الكاتب، رأسه. طاف بوجهه الهادئ والوسيم، الذي يبدو تجسيدًا لكلمة فارسٌ مقدّس، بنظراته على من حوله.
وما إن تأكّد من صمت الجميع، حتّى تكلّم:
“اعتبارًا من هذه الساعة، سُنَسْحَبُ رتبة الفارس من إيلين باسكال. ولن يُسمح له بالخدمة مجدّدًا في كتيبة الفرسان أو أيّ مكانٍ مُشابه.”
“ولكن أيّها القائد!”
انتشر الاضطراب بين أولئك الذين يعلمون مدى براعة إيلين كقنّاص. تكلّم إيستا، وهو يكبح رغبته في التنهّد:
“لقد عصى أمرًا إمبراطوريًّا.”
بمجرّد أن فُرِغَ من تلك الكلمة، انسكب ذهولٌ لا يُمكن السيطرة عليه كحبرٍ أسودٍ مُراق.
ساد هذا الحبر الأسود الداكن المكان، والتصق بأفواه الناس كالقار، ممّا شَلَّ ألسنتهم عن النطق.
‘أمرٌ إمبراطوري……؟’
‘عصيان أمر الإمبراطور بالذات؟’
تكلّم إيستا مجدّدًا، وهو يقطّب حاجبيه:
“إيلين باسكال……”
***
“……إذًا فقد عصى الأمر بتسليم أميرات العدو الأسيرات إلى الدوق سايلنس، وأطلق سراحهنّ بدلًا من ذلك؟”
“يا إلهي.”
أخذت السيّدات المُجتمعات للثرثرة يلهثنَ، وهُنَّ يُلوِّحْنَ بالمراوح بِيَدٍ مُرتعشة. لم تستطع إحدى السيّدات إخفاء تعابير وجهها الشديدة الحماس، وهمست:
“هذا الدوق ليس مجرّد دوق عادي، أليس كذلك؟”
“الدوق سايلنس، هل هو…… ذلك الدوق الوحش المشهور……؟”
“قيل إنّه يحمل دماء التنانين أو الشياطين؟”
“ربّما دماء التنانين.”
“أليس الأمر سيّان؟ لقد كانت التنانين شياطين في العصور القديمة.”
أضافت سيّدةٌ، كانت الأجرأ بين مَن يتبادَلْنَ النظرات، قائلةً:
“بسبب القوّة السحريّة التي تجري في دمه، يُقال إنّ أيّ امرأةٍ تحمل منه تموت فور ولادتها للطفل.”
“صحيح. ولهذا السبب لم يتزوّج حتّى الآن.”
“ويُقال إنّ لقاءاته الزوجية وحشيّة للغاية وشبيهة بالحيوانات!”
“يا للفزع!”
كان دوق سايلنس في موقعٍ غريبٍ داخل الإمبراطورية. كانت المخلوقات الشيطانية تخشى سلالة سايلنس التي تجري في عروقها دماء التنانين.
ونتيجةً لذلك، أصبحت عائلة الدوق تمتلك أرض سان فورتو الشاسعة والقاحلة، والمشهورة بوفرة الوحوش، وذلك بذريعة استخدام قدرتهم على إبعاد المخلوقات الشيطانية لحماية الجبهة الأمامية.
ولأنّ هذه القدرة تنتقل وراثيًّا، كان الزواج ضروريًّا، ومع ذلك……
في نهاية المطاف، لم يكن لديه سوى إقطاعية قاحلة بدلًا من الكنوز والأموال. وإضافةً إلى ذلك، لم يكن هناك أيّ نبيلٍ يرضى بتزويج ابنته لرجلٍ تُفارِقُ النساءُ الحياةَ بسببه.
لذا، دأب الأباطرة المتعاقبون على إرسال السيّدات أو أميرات الدول المُحتلّة إلى سايلنس.
وهذه القاعدة غير المكتوبة هي التي كُسِرَت هذه المرّة. وبفضل نجل عائلة باسكال، وهي إحدى أرقى العائلات العسكرية في الإمبراطورية.
وقف وزراء الإمبراطورية صفًّا واحدًا ليُدينوا عائلة باسكال وإيلين باسكال الذي خرق التقليد.
ومع ذلك، لم تكن ردود فعل السيّدات عدوانية مثل ردود فعل الوزراء.
“لقد هَرَّبَ أميرات دولةٍ مُعادية من موقفٍ كهذا.”
“ذلك حقًّا……”
احمرّ وجه السيّدة التي بدأت الحديث. ساد الصمت للحظات بين السيّدات.
‘يا له من تصرّفٍ رومانسيّ ونبيل.’
فتحت إحداهنّ فمها بنظرةٍ مُغْرَوْرِقَة:
“إيلين باسكال، أليس هو أصغر أبناء الماركيز باسكال؟ ذلك الشابّ الوسيم وقصير القامة……”
“هل كان يمتلك مثل هذه الشجاعة؟”
“شجاعة! بل هو طيشٌ وجنون!”
لكن لم تكن كلّ السيّدات تفكّر بهذه الطريقة. رأت البعض أنّ قرار إيلين كان غرورًا.
“لقد غضب الإمبراطور غضبًا شديدًا بسببه! هذا لا يختلف عن التمرّد!”
“هذا صحيح……”
“هل هذا كلّ شيء؟ لقد أمر الماركيز باسكال بتزويج إحدى سيّدات عائلة باسكال للدوق بدلًا من الأميرات!”
“انتظروا. الآنسة باسكال، هل تعنون……”
تذكّر الجميع الشخص ذاته في أذهانهم.
‘راينا باسكال؟’
وردة المجتمع في العصر الحالي. زهرةٌ نبتت في عائلةٍ اعتادت على إنجاب ضبّاطٍ ذكور أقوياء عبر الأجيال.
حتّى بين السيّدات الحاضرات في هذا المجلس، كان هناك عددٌ لا بأس به من المعجبات بها. والأدهى أنّها كانت مخطوبةً بالفعل.
“يا للعجب. مثل هذه الآنسة……”
“بيان. إيلين باسكال باع أخته!”
“صحيح! هو لن يتزوّج مكانها!”
توجّهت نظرات إحدى السيّدات الغاضبات إلى قصر الماركيز باسكال الضخم من مسافةٍ بعيدة.
في هذه الأثناء، كانت الفوضى تعمّ غرفة الاستقبال داخل ذلك القصر.
“أتريدين أن تعرفي لِمَ؟ إنه أمرٌ مؤسفٌ حقًّا أن يُجبرن على الزواج وهنّ أسيراتٌ بسبب غزو بلادهنّ.”
“……”
“عصيان أمرٍ إمبراطوريّ والتعرّض لتسريحٍ مُشين! هذا عارٌ على عائلةٍ عسكرية!”
كان ماركيز باسكال يضرب الأرض مرارًا وتكرارًا بعصاه، وهو يُطلق غضبه.
أمّا الطرف المعنيّ، إيلين باسكال، الجالس على المقعد المقابل، فكان يحرّك إصبعه كأنّه ينظّف أذنه، بملامح تنمّ عن الملل.
“لماذا؟ الأمر واضح. من المؤسف أن يتمّ إجبارُهنَّ على الزواج، وهنّ أساسًا أسيراتٌ لغزو بلادهنّ.”
“ألا تُشفق على أختك؟”
ألقى الماركيز بعصاه أخيرًا، وأخذ يضرب صدره بقوّة. اكتفى إيلين بالنظر ببرودٍ إلى الخارج بدلًا من الاهتمام به.
تحت شعره البنّي القصير، كانت عيناه الخضراوان الفاتحتان ترمشان ببراءةٍ مُطلقة. بدا هادئًا بشكلٍ مُريبٍ بالنسبة لشخصٍ باع أخته للدوق الغول.
“……إيلين.”
نادته راينا، الواقفة بجانب الماركيز، بصوتٍ مُتعَب. كانت راينا جميلةً حتّى في هذه اللحظة، حتّى أنّ الحزن الذي يكتنف وجهها الرقيق زاد من تألّقها.
نظر الماركيز باسكال إلى ابنته الجميلة وشَدَّ على رأسه، وهو يصرخ بغضب:
“بسبب إطلاقك سراح تلك الأميرات، أصبحت أختك على وشك الزواج من دوق غول! ألا تشعر بالأسف تجاه أختك……”
“لِمَ قد أبيعُ أختي؟”
ساد الصمت غرفة الاستقبال إثر تلك الكلمات.
“……”
استدارت راينا ببطءٍ شديد نحو إيلين، وكأنّها تشعر بصوت صرير في حركتها.
“إيلين، هل أنت جادّ.”
“انتظر. هل أنت……!”
رفع إيلين يده نحو شعره دون أيّ اكتراث.
سوووش!
سقط الباروكة البنّية القصيرة من بين أصابعه بسهولةٍ تامّة.
ثمّ انْسَدَلَ شعرٌ طويلٌ وناعمٌ على زِيِّ الفرسان الرسميّ الذي كان يرتديه في غير مبالاة.
“لماذا قد أبيعُ أختي؟”
“……إيلين!”
“لماذا تبقي الابنة الصغرى المخفية هنا؟”
“أأنتِ بكامل قواكِ……!”
“حسنًا، هذا جيّد. على أيّ حال، لم أعد أستطيع أن أكون فارسةً أو حتّى مُجرّد جندية.”
دفعت إيلين خُصْلة شعرها البنّي المنسدل خلف أذنها بتبرّم، ورسمت ابتسامةً مُنعشة.
“سأتزوّج أنا.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"