ضاقت عيناي تلقائياً عند سماع صوته الذي لم يحمل أدنى نبرة ندم.
لن يكون هناك أحمق، بما في ذلك الكونت جاكوب يصدق هذا الاعتذار.
“سيدتي آريا، هذا الصديق إيريك ليس بارعاً في التعبير بالكلام لكنه في الحقيقة يشعر بندمٍ شديد…”
“أعرف تماماً لماذا تتصرفان هكذا تجاهي.”
قاطعته بحدة.
“بسبب إيلودي، أليس كذلك؟ لكن مهما قلتما، فلن أعود طالما لم أغادر حدود الدوقية، أليس من حق إيلودي أن تختار بنفسها أين ومع من، وكيف تعيش؟”
في تلك اللحظة، تقدّمت إيلودي خطوة إلى الأمام.
“سأبقى مع آريا أكرهكما كلاكما، يا عمّاي.”
اضطررت لأن أبذل جهداً كي لا أبتسم أمام صوتها الصافي الحازم.
رغم أن الموقف صعب على طفلة مثلها لتفهمه، إلا أنها أدركت بسرعة ما يجري ووقفت إلى جانبي.
“آنسة إيلودي!”
تشنّج وجه إيريك وهو ينحني نحوها.
“ألا تذكرينني؟”
“لا أذكر شيئاً على الإطلاق.”
هزّت إيلودي رأسها بقوة، ثم أمسكت بيدي بإحكام.
“سيدة آريا.”
ناداني الكونت جاكوب بصوت يائس.
“أتفهم مشاعرك تماماً لو كنت في موقفك وتعرّضت لمعاملة مماثلة، لغضبتُ بشدة لكن منزل الدوق هو أفضل بيئة لابنة الدوق.”
“ليس إطلاقاً.”
أخذت نفساً عميقاً قبل أن أتابع.
لن يفهم جاكوب مشاعري أبداً.
فهو، الذي عاش عمره كله كنبيل، كيف يمكنه أن يتفهم شعور من سُلبت منه مكانتها التي ضمنها لها الدوق، وطُردت فعلياً من حياته؟
“البيئة الأفضل لإيلودي هي المكان الذي تكون فيه أكثر سعادة هل تظن أن منزل الدوق هو كذلك حقاً، يا كونت؟”
تجنّب جاكوب النظر في عيني.
“……كانت سعيدة جداً قبل أن تختفي.”
“إيلودي التي كانت آنذاك ليست هي إيلودي اليوم.”
انطلقت كلماتي بسرعة من فرط الإحباط.
هل يجهلون حقاً؟
لقد عانت إيلودي طويلاً من الإهمال والعنف، وسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تتعافى من تلك الظلال التي أثقلت قلبها.
والمكان الذي لا يُرحَّب فيه بي، أنا الوحيدة التي تثق بي وتعتمد علي، هو بمثابة سمٍّ لها.
“على أية حال، لن أعود وإن كان الدوق يودّ رؤيتها، فأخبروه أن يأتي هو بنفسه إلى هنا.”
“أعتذر!”
فجأةً، ركع كبير الخدم على إحدى ركبتيه.
رمشتُ بدهشة.
ما الذي يفعله بحق السماء…؟
“أقدّم اعتذاري الصادق، سيدتي آريا كنت متغطرساً وأحمق أرجوكِ سامحيني.”
تنهدت ببطء.
“سأغفر لك فالغفران لا يكلّف شيئاً.”
تلألأت عينا الكونت جاكوب بأمل.
“إذن، ستعودين معنا؟”
“كلا.”
أجبت ببرود.
“ما زلت أعتقد أن هذا المكان هو الأفضل لإيلودي.”
أعترف… في الحقيقة، لم يكن قراري هذا من أجل إيلودي وحدها.
لكن، هل عليّ أن أعيش متحملة نظرات الاحتقار، وكأنني مجرد مرضعة؟
“غير أنني…”
نظرتُ نحو كبير الخدم، إيريك.
“إن قبلتَ طلبي، فقد أغيّر رأيي قليلاً.”
“سأفعل أي شيء!”
أجاب بسرعة مفرطة.
“فقط قولي ما تريدين.”
ربما كان متسرعاً أكثر مما ينبغي ارتسمت ابتسامة على شفتيّ دون قصد.
فقد خطرت لي فكرة، كفيلة بجعلني أردّ له الصاع صاعين… بل وأكثر.
***
<مقهى آريا>
رغم أن الموقع والحجم قد تغيّرا تماماً، إلا أن وتيرة العمل لم تختلف كثيراً عمّا كانت عليه حين كان المقهى صغيراً في إحدى القرى.
أستيقظ في الصباح، وأتناول مع إيلودي فطوراً خفيفاً، ثم نبدأ بالتنظيف وتهوية المكان.
الفرق الوحيد هو أنّ المقهى قد أُعيد افتتاحه حديثاً، وبالتالي لا يمكننا توقّع زيارة أي زبائن دائمين بعد.
(يبدو أن هذه المنطقة لا تلائم أسلوب الترويج الصاخب).
حين افتتحت المقهى أول مرة، كنت قد جُلت أنحاء القرية موزعة منشوراتٍ تقول: اشترِ فنجاناً من القهوة، وخذ الآخر مجاناً.”
كانت تلك وسيلة لإنقاذ المقهى الذي كان في موقع سيئ، وبمظهرٍ عادي تماماً من الخارج.
لكنّ هذا المقهى مختلف.
فهو يقع في قلب منطقة مزدحمة، وتصميمه الخارجي يخطف الأنظار من أول وهلة، أما ديكورُه الداخلي، الذي يبدو أن الدوق أولاه اهتماماً خاصاً، فكان فخماً بلا شك.
(حسناً، ربما عليّ الانتظار قليلاً في اليوم الأول).
وما إن دقّت الساعة التاسعة صباحاً حتى رنّ جرس الباب ودخل رجل إلى المقهى.
لم يكن الزبون الذي كنت أترقّبه، لكن…
“لم تتأخر.”
“…….”
كان وجه إيريك أشبه بمن يبتلع دواءً مُرّاً، لكنه اقترب من المنضدة دون كلمة.
“أخبريني بما عليّ فعله.”
نعم، كان هذا هو الشرط.
فقد وضعتُ على الطاولة شرطاً واحداً قبل التفكير بالعودة إلى منزل الدوق
أن يعمل إيريك في المقهى ثلاث ساعاتٍ كل صباح.
بطبيعة الحال، رفض بشدة في البداية، لكن الكونت جاكوب أرسل له نظراتٍ حادّة جعلته يقبل بالأمر على مضض.
[استفق! ماذا تظن أن الدوق سيقول حين يعود ويعرف ما حدث؟ أهو وقتك الآن لتتدلّل على الماء الساخن أو البارد؟]
تذكّرت ذلك فانعقد حاجباي تلقائياً.
لا شكّ أن الدوق فانيش سيغضب بشدّة عندما يعلم بما حدث.
وإن لم يدخل في نوبة غضب جنونية هذه المرة، فسيكون ذلك حظاً حسناً.
لكن غضبه لن يكون موجهاً إليّ، ولم تكن لديّ أي نية لحماية من أساء إليّ يوماً.
بل في الحقيقة… شعرت بشيء من الارتياح لهذا الوضع.
(طبعاً، إن كان سيؤدي عمله بإتقان، فقد أغيّر رأيي).
نظرت إليه مباشرة.
“أريدك أن تتولى خدمة الزبائن.”
“خدمة الزبائن؟!”
بدت ملامحه متفاجئة.
مددت يدي مشيرةً إلى أرجاء المقهى الفخم.
الديكورات المذهبة والثريات اللامعة أوضحت تماماً أن الدوق قد طلب أن يكون المكان فاخراً قدر الإمكان.
ديكورٌ لا يقلّ عن رقيّ قصر الدوق نفسه.
ولا شكّ أن الزبائن الذين سيأتون إلى مكان كهذا…
(سيكونون من ذوي الثراء على الأقل).
كما أن أسعار القهوة مرتفعة للغاية، فهل سيرضى من يدفع هذا المبلغ بخدمةٍ عادية؟
(رغم أن الأمر يضايقني، فإن التعامل اللبق مع أصحاب المكانة العالية متأصل في طبع إيريك، لذا من الأفضل أن يتولى هو أمر الخدمة).
شرحت له فكرتي بهدوء
“هل فهمت؟ أريد أن تكون الخدمة خالية من أي خلل، وأن يشعر الزبون بأنه يُكرَّم حقاً.”
“……حسناً.”
أومأ إيريك برأسه بتعبير متجهم.
فأجبت بإيماءة خفيفة
“يسعدني أنك قد فهمت ثم إن من الأفضل أن تُخفي ذلك التعبير عن وجهك الآن.”
ازداد وجه إيريك انقباضًا.
“ما الذي تعيبينه على وجهي؟!”
“طبعًا، إن لم تكن إيلودي راغبة في الذهاب إلى قصر الدوق، فبإمكانك أن تبقى بذلك الوجه كما تشاء.”
ابتسمت بخفة.
آه، كم هذا ممتع.
ربما أكون حقاً ذات طبعٍ سيئ أكثر مما كنت أظن.
“على أية حال، لست في موضعٍ يسمح لي بإجبار أحد القرار لك، فماذا ستختار؟”
***
مرّ ما يقارب الأسبوع منذ أن أعيد افتتاح <مقهى آريا> من جديد.
وعلى الرغم من أننا لم نقم بأي دعاية خاصة، إلا أن تلك المدة كانت كافية لانتشار سمعته عبر الأحاديث الشفهية.
حتى عندما كنت أخرج للتنزه في الشوارع مع إيلودي بعد إغلاق المقهى، كنت أحيانًا أسمع الناس يتحدثون عنه.
تمامًا كما يحدث الآن.
“هل زرتِ المقهى الجديد الذي افتُتح في شارع ساتورن؟”
كنت أتفقد مع إيلودي بعض ثياب الربيع حين التقطت أذناي ذلك السؤال.
ارتفع في المحل صوت فتاتين تبدوان في أواخر سن المراهقة، تتحدثان بحيوية.
“آه، ذلك المكان! المقهى الفخم جدًا؟”
“نعم، فيه قائمة غريبة ومبتكرة، ووتصميم الداخلي مذهل الجمال ثم إن ذهبتِ في الصباح، فالنادل هناك…”
توقفت الفتاة التي كانت تتحدث للحظة، فأظهرت صديقتها نفاد صبرها وسألتها بإلحاح
“النادل ماذا به؟”
“إنه… إنه راقٍ جدًا.”
“أوسيم المظهر؟”
“لا أدري إنه مجرد رجل في منتصف العمر، لكنه يصب الشاي بطريقة أنيقة جدًا يجب أن تستيقظي باكرًا الصباح لنذهب معًا.”
استعدتُ ذاكرتي للحظة.
بالفعل، كان سلوك إيريك وأخلاقه يتناسبان عكسيًا مع مهارته.
فعندما استمع إلى تحذيري وابتسم ابتسامته الهادئة المعتادة، وتحدث بنبرة مهذبة مع الزبائن، كانت ردود فعل الجميع، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، إيجابية جدًا.
“جيد إذًا.”
تمتمتُ بنغمة خفيفة وأنا أتابع تفقد الملابس التي قد تناسب إيلودي.
“بفضله، استقر العمل أسرع مما توقعت.”
وربما… سار الأمر على نحوٍ جيد أكثر مما ينبغي.
فقد بلغت شهرة مقهى صغير افتُتح حديثًا آذانَ ثيودور فانيش، الذي كان في جولة تفقدية في منطقة نائية.
التعليقات لهذا الفصل " 33"