ابتلعت إيلودي كلامها وأمضت تحدق في الخارج عبر النافذة.
لم أضطر لإزعاجها بالكلام، فحتى للأطفال يحتاجون إلى وقت للتفكير.
***
كان قصر دوقية فانيش، الذي أزوره للمرة الثانية، لا يزال ضخماً وباذخاً كما كان من قبل.
بل بدا لي أكثر فخامة مما كان عليه سابقاً.
يبدو أنّ دوق فانيش لم يدّخر جهداً هذه المرة.
ابتسمت بهدوء.
رغم أن هناك الكثير من الأمور المريبة بشأن الدوق، إلا أن مشاعره تجاه إيلودي كانت صادقة حقاً.
وكان من المؤسف أنه لم يتمكن من استقبالها بنفسه لانشغاله بتفقد المقاطعة.
تجاوزنا هذه المرة البوّابة الذي لم يكلّف نفسه حتى عناء التحقق من من في العربة، وبعد أن عبرنا الحديقة الطويلة توقفت العربة أمام مدخل القصر مباشرة.
نزلنا منها وقلوبنا مفعمة بالتوتر والترقب.
“……؟”
رمشت بعينيّ للحظة، مذهولة بما أراه أمامي.
ويبدو أنّ إيلودي أيضاً قد فوجئت، إذ لم تفعل سوى التحديق بخواء إلى الأمام.
فقد كان الخدم والخادمات مصطفّين في صفّين متقابلين، بملابس أنيقة نظيفة من الرأس حتى أخمص القدمين، يستقبلوننا.
أما الرجل ذو الشعر الرمادي الذي بدا كأنه كبير الخدم
“يا إلهي، آنستي الصغيرة…… كم مرّ من الوقت منذ آخر مرة رأيتك فيها.”
كان على وشك البكاء تقريباً.
لكن لحسن الحظ، سرعان ما استعاد رباطة جأشه.
“آه، أين عقلي… تفضلا بالدخول، لقد أعددنا غرفة الآنسة سلفاً.”
حاولت أن أدخل خلف إيلودي، لكنّه سرعان ما وقف في طريقي.
كانت عيناه، التي كانت قبل قليل دامعة بالعاطفة، قد بردت الآن وتصلّبت.
“أيّتها المربية، قومي أولاً بترتيب الأمتعة ثم ادخلي.”
هذا الوغد……؟
هل كان الإنسان حقاً مخلوقاً يسهل عليه الغضب إلى هذا الحد؟
لقد بلغت من الدهشة حداً جعلني أكاد أفقد الوعي.
تمكنت بصعوبة من التكلّم
“……لستُ أفهم ما الذي تعنيه.”
والسبب الوحيد الذي منعني من الصراخ في وجهه كان بسيطاً
من أجل إيلودي، كان من الأفضل أن أتعامل مع الموقف بهدوء.
لكن يبدو أن الرجل لم يدرك ذلك.
“أقول هذا لمصلحتك، فأنصتي جيداً قد تكونين تعاملتِ مع الآنسة بغير تحفظ حتى الآن، لكن من الآن فصاعداً عليك أن تتعلمي ما يليق باسم عائلة فانيش من آداب وأسلوب ويبدو أنّ عليك أن تبدئي بتعلّم موقعك أولاً.”
همم.
ربما كان الصراخ الخيار الأفضل بعد كل شيء.
رمقته بنظرة كنت أحتفظ بها عادة لأسوأ الزبائن الذين لا يفهمون الكلام.
وقد كان لذلك أثر فوري، إذ اتسعت عيناه بدهشة.
قلت بصوت بارد لا يقلّ عن نبرة الموظف الذي يقول: “عذراً، ولكن عليك المغادرة لأنك تزعج الزبائن الآخرين.”
“لستُ مربية، بل جئتُ إلى هنا بصفتي الوصيّ الرسمي على الآنسة إيلودي إن كنتَ تظنني مجرد مربية، فإذن لا حاجة لأن أبقى في هذا القصر أصلاً.”
“آريا!”
صرخت إيلودي وهي تندفع نحوي.
“لا أريد البقاء هنا! أريد أن أبقى مع آريا!”
“ليس عليكِ أن تأتي معي.”
تحدثتُ ببطء، بنبرة هادئة.
“هؤلاء الناس جميعاً يحبونك ويقدّرونك كثيراً.”
“لكنهم ليسوا آريا أريد أن أكون مع آريا!”
“حقاً؟”
ارتسمت ابتسامة بطيئة على شفتيّ.
“حسناً إذن، فلنذهب معاً.”
“يُسمح لكِ بالخروج إن أردتِ، لكن لا يمكنك أخذ الآنسة إيلودي معك!”
صرخ كبير الخدم بسرعة، لكني لم أحرك حاجباً واحداً.
“يمكنني ذلك في الواقع لقد صدّق الدوق بنفسه على وثيقة رسمية تعترف بي كوصية لإيلودي.”
“هذا مستحيل……!”
“إن كانت لديك اعتراضات، فالأفضل أن ترفعها إلى الدوق نفسه هيا يا إيلودي، إن مشينا فسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً للوصول إلى البوابة.”
“إلى أين تذهبان؟ سمعتُ أنكما بععتما بيت العائلة القديم.”
بدأ صوت كبير الخدم يرتجف.
كان من المضحك أن أراه يتصنع الاحترام بعدما أدرك أنني لست خصماً سهلاً.
“آه، يبدو أنك لم تسمع بعد لقد أنشأ لي الدوق مكاناً جديداً لأمارس فيه عملي إنه مقهى، صحيح أنّ الإقامة فيه ليست مريحة كثيراً، لكن سيكون لدينا مكان نحتمي فيه على الأقل.”
ابتسمت له ابتسامة مشرقة بينما كان وجهه يبدو وكأنه تلقّى ضربة مفاجئة.
“ولأنني أعلم أنك قد تتساءل، فهو في شارع ساترن.”
“……!”
استمتعت بتعبيره المصدوم بكل فخر.
فشارع ساترن هو قلب الدوقية النابض بالحياة.
بضع سنوات من الإهمال لم تكن كافية لتدمير المقاطعة المزدهرة.
فما زال شارع ساترن أحد أكثر الشوارع ازدهاراً في الإمبراطورية.
أما امتلاك متجر مستقل هناك، فليس بالأمر الذي يمكن لأي أحد أن يفعله.
ثم إنّ الشرط الذي يتعيّن على إيلودي، وريثة الدوقية، أن تلتزم به هو أن تقيم داخل حدود الدوقية
سواء أقامت في القصر أو في المقهى الذي أملكه في شارع ساترن، فالنتيجة واحدة.
“إذا زرتنا يوماً، فسأقدّم لك كوب قهوة مجاناً هيا بنا يا إيلودي.”
صعدت إلى العربة مجدداً وأنا أبذل جهدي لأُخفي الابتسامة التي كانت تتراقص على شفتيّ.
وفي اللحظة التي أمسكت فيها بيد إيلودي وأدرت ظهري، رأيت على وجه كبير الخدم تعبيراً مضحكاً إلى حدّ أنني شعرت أنه من المؤسف ألا يراه أحد سواي.
التعليقات لهذا الفصل " 31"