في لحظة واحدة.
تلاقت عيناي وعينا الدوق في الفراغ، وانعقد بيننا اتصال عميق.
وكان هو أول من صرف بصره.
“……حسناً.”
اقترب الدوق مني خطوة واحدة ثم مدّ يده.
“اعتمد عليك ، آنسة فيرتين.”
لكنني لم أمد يدي لمصافحته.
إذ كان هناك أمر آخر لا بدّ من التحقق منه أولاً.
“قبل قليل، قلت إنك كدتَ تؤذي السيدة الدوقة الأم.”
بدا على دوق بانيش تعبير وكأنني أصبتُه في موضع غير متوقع.
“كنت أظن أن محاولتك إيذائي أمر مفهوم، بما أنك اعتقدت أنني خطفت إلودي… لكن، ما الذي حدث حقاً؟”
جاء رد الدوق بطيئاً بعض الشيء
“……في ذلك الحين، لم أكن في وعيي لذلك حتى الذين حاولوا مساعدتي هاجمتهم.”
لم يشرح السبب، لكن لم يكن هناك حاجة لسماع المزيد.
كان واضحاً أنه بسبب آثار السحر الأسود الجانبية.
“مهما حدث، أحتاج إلى ضمان ألا تؤذي صاحبَ السمو إلودي.”
“إيلودي استثناء.”
أدهشني جوابه الفوري، فرفعت بصري إليه.
لم أشعر أنه يكذب.
“منذ أن كانت إيلودي صغيرة جداً، كانت دائماً استثناءً من كل…… عيوبي فلا داعي لأن تقلقي بشأن ذلك.”
تأملتُه مليًا
هل يمكن الوثوق بهذا الرجل؟
وكأنّه يجيب عن تساؤلي، استأنف كلامه من جديد
“إن أصبح وضعي خطيراً، فسأترك إيلودي بين يديك وأختفي.”
“تختفي؟”
ابتسم الدوق ابتسامة مرة.
“نعم ، وإن وصلت إلى ذلك الحد، فسأتخذ كل التدابير كي لا أعود للظهور أمامك أو أمام إيلودي أبداً، فكوني مطمئنة.”
“……يجب أن نأمل ألا يأتي مثل ذلك اليوم.”
لم أزل عاجزة عن نزع الشك تماماً، غير أن كلماته لم تبدُ كاذبة.
حينها صافحت يده التي ما زال يمدّها.
وانتقلت إليّ حرارة واضحة من تلك اليد القوية.
لسبب ما، شعرت بحرارة وجهٍ يتورد، فأسرعت بالدوران متجهة نحو المخزن.
طرقت الباب المغلق مرتين، وما إن فتحته حتى فوجئت إيلودي تحدّق بي بعينين متسعتين.
“هل سنغادر من هنا؟”
“……سمعتِ؟”
سألتها بذهول.
كان الباب مغلقاً بإحكام، كما أننا تبادلنا الحديث بصوت خافت على مسافة بعيدة عن المخزن.
لم يكن من الممكن أن تسمع.
“الريح أخبرتني.”
قالت إيلودي كأنها تشرح أمراً بديهياً، ثم أضافت بصوت عنيد
“لا أريد أن أغادر.”
“إيلودي.”
جلست لأواجه عينيها حيث كانت جاثية على الأرض.
“إن لم نغادر الآن، فستندمين بشدة في المستقبل.”
“……حقاً؟”
“طبعاً.”
ربتُّ على رأسها.
“أنت فقط لا تتذكرين بعد، لكن بيتك الأصلي كان قصر دوق بانيش لذا، لنفكر في الأمر وكأنك عائدة إلى بيتك ما رأيك؟”
“……هل ستأتي آريا معي أيضاً؟ سمعت، لكن أريد أن أسمع منك ستأتين، أليس كذلك؟”
“بالطبع.”
ابتسمتُ بخفة.
“كيف يمكن أن أترك إيلودي وحدها؟”
“……!”
قفزت إيلودي لتحتضنني بشدة.
ورغم المفاجأة، لم يكن الأمر غير متوقع، فبادلتها العناق بطبيعية.
“……أنا خائفة.”
تمتمت وهي في حضني.
“ماذا لو كرهني الجميع؟”
“مستحيل.”
انقبض صدري ألماً.
فقد عاشت إيلودي قبل أن تأتي إليّ وهي تتعرض للنبذ.
من الطبيعي أن تشعر بالقلق.
“لكن إن كرهك أحد أو حاول إيذاءك، فأخبريني عندها سأوبخه بنفسي.”
وفجأة سمعت ضحكة مكتومة.
“إذن لا داعي للقلق آريا بارعة في توبيخ الناس.”
مم، ربما لم يكن قولها بعيداً عن الحقيقة.
ابتسمت وأنا أفك العناق عنها.
على أي حال، لن نرحل إلى إقطاعية الدوق الآن مباشرة.
فسوف يستغرق ترتيب المنزل والمقهى ما لا يقل عن نصف شهر.
حتى ذلك الحين، عزمت على بذل قصارى جهدي في إدارة المقهى.
“سيدتي الدوقة، هل أستطيع أن أعهد إليك برعاية إيلودي لبعض الوقت؟”
“……أي دوقة.”
تمتمت العجوز بضيق.
“ناديني مونيكا فقط.”
“لا أستطيع ذلك.”
“مناداة (الدوقة، بالدوقة) لو سمع أحدهم سيكون الأمر أكثر إزعاجاً أو ناديني كما في الماضي: (السيدة).”
“حسناً، يا سيدتي.”
تنهدت.
فمهما أخفينا هويتنا، لم يكن يليق أن أدعو والدة الدوق باسمها مباشرة.
ضيقت العجوز عينيها.
“وإياك أن تنطقي حتى بحرف (با) من بانيش لم أعد أريد أي علاقة بهم.”
“سأكون حذرة.” أجبتها بسرعة
يبدو أن أموراً جسيمة قد حدثت بين الدوقة السابقة وعائلة دوق بانيش
رغبت في معرفة التفاصيل، لكنني أدركت أنها لن تجيب، فغيّرت الموضوع.
“بالمناسبة، حديثي مع سمو الدوق في الخارج…… هل سمعتِ شيئاً منه؟”
“لم أسمع شيئاً.”
عبست العجوز.
“لكن إيلودي بدت وكأنها تستمع لشيء ما طوال الوقت هل هي تسمع جيداً لصغر سنها؟”
“قلتُ لك إن الريح أخبرتني!”
أجابت إيلودي بضيق
“آه، الريح أخبرتك؟ جميل حقاً.”
ابتسمت لها.
لم أشأ أن أجرح خيال طفلة بهذه البراءة.
“صحيح! وقد شكرتُ الريح أيضاً!”
وقبل أن أجيبها، دوّى صوت جرس يعلن دخول زبون.
“مرحباً بكم!”
حييت تلقائياً وأنا أتحرك نحو الطاولة.
فقد حان الوقت لأن أعيش بصدق ما تبقى لي من أيام عادية ثمينة.
** *
“آريا، لقد وصلت العربة!”
“وما في ذلك؟”
كنتُ أُجري تفقدًا أخيرًا للمنزل، أتحقق إن كنتُ قد نسيت شيئًا، حين رفعت رأسي بلا مبالاة لأنظر إلى الطفلة.
كانت إيلودي تضع قُبَّعة عريضة، وترتدي معطفاً مزيناً بكرات من صوف ناعم، في هيئة لطيفة لدرجة أن المرء يكاد يرغب في عضّها من شدة الجمال.
“هل نخرج الآن؟ سنخرج حقاً؟”
“تمهلي قليلاً.”
ما زال هناك بعض الأماكن التي يجب أن أتأكد منها.
لنرَ… الحُلي كلها أخذتها هنا وهناك لا يوجد شيء مهم آه، صحيح!
لقد نسيت الدرج الذي وضعت فيه عقد الإيجار الخاص بالمقهى وبعض الوثائق المهمة.
الدرج ملكٌ لمالك البيت ويجب أن أتركه، أما العقود والوثائق فالأمر مختلف.
ما لا أحتاجه يجب أن أتخلص منه.
بدأت أراجع الأوراق واحدة تلو الأخرى منذ سبع سنوات.
كان بينها ما انتهت صلاحيته وأصبح عديم الفائدة، ومنها ما ينبغي الاحتفاظ به.
هذا هو…
توقفت يدي عند عقد مكتوب على ورق فاخر.
صحيح… يومها كتبت شيئاً كهذا مع الدوق.
كان عقداً من أجل رعاية إيلودي.
بل وفيه بند مبالغ فيه يقول: إن أُخِلَّ به، تُسلَّم ملكية قصر دوق بانيش!
لكن لم يعد له فائدة الآن.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، ثم وضعت العقد في كومة الأوراق المخصصة للحرق.
فما دمنا سننتقل إلى قصر الدوق نفسه، فلن يكون قابلاً للتطبيق، ولن يستطيع أحد استخدامه حتى لو وقع بين يديه.
ولم يكن هناك داعٍ لاصطحابه بعناية.
“أطلتُ عليكِ الانتظار؟”
“نعم.”
أجابت إيلودي بسرعة بوجه متحمس.
“انتظرت كثيراً حتى شعرت أن أصابعي أصابها الملل!”
حتى وقت قريب، لو كنت سألتها، لكانت ردّت بحذر: “قليلاً فقط.”
لكن صراحتها الآن أبهجتني من غير قصد.
“يا للأسف، أعتذر كان هناك بعض الأماكن الأخيرة عليّ أن أتأكد منها… هيا بنا بسرعة.”
يبدو أن إيلودي كانت في قمة حماسها، فقد أمسكت يدي بقوة وذهبت تقفز بخفة.
وقبل أن أغادر البيت نهائياً، ألقيت عليه نظرة أخيرة.
منزل بإيجار معقول، لا مرتفع ولا منخفض.
لم يكن الزمن الذي قضيته فيه طويلاً، لكن كل ذكرياتي مع إيلودي كانت هنا.
لكن لم يكن هناك وقت طويل لأغرق في الذكريات.
“جدتي!”
نادَت إيلودي بصوت يغمره الحماس.
فالتفتُّ، فإذا بالعجوز تقترب منا بابتسامة هادئة.
نظرت إيلودي إلى الجدة بعينين مملوءتين بالتوقع والرجاء.
“هل ستأتين معنا أيضًا، جدّتي؟”
“لا.”
هزّت العجوز رأسها.
“آسفة يا صغيرتي العيش هنا يناسبني أكثر.”
“……لكن إيلودي تريد أن تأتي جدتي أيضاً.”
لم يكن من عادة إيلودي أن تتدلل، لكن بدا أن وجود جدتها مهم للغاية بالنسبة إليها.
“سأشتاق إليكِ في كل يوم، يا جدّتي.”
“وهذه الجدّة أيضًا، ستشتاق إلى صغيرتها الغالية.”
واحمرّت عينا العجوز
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 30"