لم يكن في المثل القائل «الزمن دواء» أدنى خطأ.
فحتى الضجة الكبرى التي أثارها قدوم الكونت ياكوب خمدت شيئاً فشيئاً مع توغل الشتاء.
ولم يبقَ سوى الأسف الخفيف على انقطاع زبائنٍ كانوا قد زادوا من مبيعات المقهى بعدما أصبحو معجبين بدوق فانيش.
وتقول الشائعات إن بعضهم ما زال يلازم أمام قصر الدوق ليل نهار.
لكن الأمر لم يكن كله سيئاً.
“آه، كم أنا سعيدة لأنني أستطيع أخيراً شرب القهوة هنا! كنت طوال الوقت أعود بها إلى البيت وأتساءل: ما الذي أفعله بنفسي؟”
تذمّرت السيدة الشابة التي كانت فيما مضى زبونة دائمة، تأتي يوماً بعد يومي قبل أن يبدأ الدوق بجذب المعجبين خلفه.
“إمّا أن نأتي منذ الصباح لنحجز مقعداً، وإلّا فليس لنا سوى أن نأخذها مغلّفة! أهذا معقول؟”
وساعدتها أختها التي كانت برفقتها قائلة:
“صحيح أنّ الأمر أفاد الآنسة بيرتين، لكننا كنا نشعر بظلم كبير فهذا المقهى كنا نحن من نحبه منذ البداية!”
ابتسمتُ ابتسامة باهتة.
صحيح أن المبيعات انخفضت كثيراً، وذلك أمر يحزنني، لكنه لم يكن كله شراً.
فها هم الزبائن القدامى قد عادوا إليّ من جديد.
دَلَرنغ، دَلَرنغ.
رنّ الجرس المعلّق على الباب.
رفعت رأسي فإذا بالعجوز تدخل، كما في كل مرة، بوقار وهيئة مستقيمة.
“مرحباً بكم.”
قلتُ مبتسمة ابتسامة مشرقة.
“هل أقدّم لكِ ما اعتدتِ طلبه؟”
“نعم.”
أومأت ببرود وجلسَت، ثم اتجهت إلى حيث كانت إيلودي غارقة في الرسم.
“كيف حالكِ يا صغيرتي؟”
“بخير!”
تألقت عينا إيلودي فرحاً.
مسكينة…
تنهدت في داخلي.
فما إن خمدت ضجّة العامة حتى عدتُ لآخذ إيلودي معي إلى المقهى كما في السابق.
صحيح أن وجودها أثقل على السيدة ديباكا والعجوز، لكنّ فراقها كل صباح كان يحزنها أشد الحزن، فلم أستطع أن أتركها تبكي وحدها.
“أحضرتُ معي لغزاً صغيراً اليوم، لنلعب به سوياً.”
أخرجت العجوز من حقيبتها صندوق أحجية من مئة قطعة، ملائم تماماً لساعات الصباح التي اعتادت قضاؤها هنا.
إنها حقاً إنسانة كريمة.
ابتسمتُ شاكرة.
فلم يعد هناك أحد يجهل هوية إيلودي.
الجميع كانوا يتمنون رؤيتها عن قرب، لكن ما إن يقتربوا حتى يلقّبوها “الآنسة الصغيرة” ويخاطبونها بكل تودد واحترام.
حتى السيدة ديباكا أمرت ابنها بول أن يخاطبها بلفظ الاحترام.
كنت أرجو في داخلي أن يصبح بول صديقاً لإيلودي بلا حواجز، لكنني لم أمنعه لأنني أدرك تماماً دوافعهم.
فالدوق بانيش … سمعته بالغة السوء.
لقد مرّت أربع سنوات منذ أن فقد ابنته وأصابه مسّ من الجنون.
ومنذ ذلك الحين تفاقمت سمعته إلى حدٍّ لا يُصلَح.
وبالنسبة لي، وقد كنتُ قريبة من أن يقتلني، لم أستطع أن أزعم أنّ تلك السمعة باطلة.
فمن الطبيعي أن يتردد الناس في معاملة ابنة “شيطانٍ لا يرحم” بلا تحفظ.
غير أن العجوز، وهي تنثر قطع الأحجية أمام إيلودي، بدت كأنها تتعامل مع طفلة عادية من الجوار.
ينبغي أن أقدّم لها شيئاً بالمقابل.
فبدأت أضع بعض البسكويت في صينية من تلقاء نفسي.
وحين وضعتها أمامهما فتحت العجوز عينيها دهشة، وكان منظرها يشبه ما تصنعه إيلودي حين تفاجأ، فضحكت خفية.
“ما هذا كله… لم أطلب شيئاً، أعيديه.”
“أعددتُه لك ولإيلودي ستركّزان على الأحجية فتشعران بالجوع.”
أمالت رأسها إيماءة صغيرة، إشارة القبول الخاصة بها.
واستمرت ساعات الظهيرة على نفس المنوال، سوى أنّ إيلودي أحسّت بالوحدة مجدداً بعد انصراف العجوز.
…
رفعت بصري نحو الباب وتجمّدت لحظة.
إذ أدركت أنّني كنت، من غير وعي، أرجو أن يدخل الدوق بانيش من هناك.
تماسكي يا أريا بيرتين.
وبّخت نفسي بشدّة.
كان قد مضى شهر منذ آخر مرة ظهر فيها، ولم يكن حاله يومها مطمئناً البتة.
وربما لن يستعيد عافيته أبداً.
وإن كان كذلك، فحسب الوعد، لن يُسمح له بالاقتراب من إلودي، بل سيرسل رسائل فحسب.
لكن… لم يرسل حتى رسالة واحدة.
بلعت ريقي جافة.
كنت قد تمنيت أن أجد بطاقة تهنئة في رأس السنة، لكن صندوق البريد كان فارغاً.
ترى هل غرق في جنون أشد حتى لم يعد قادراً على الكتابة؟
عاد إلى ذاكرتي مظهره المريع ذاك اليوم… مظهر رجل فقد رشده كلياً، لكنه مع ذلك لم يبتغِ سوى خير ابنته.
لأجلها وحدها أنزل كبرياءه، وركع أمامي حتى صافحني في النهاية… أغمضت عيني بشدة ثم فتحتهما.
التفكير به لن يغيّر شيئاً.
فما أعرفه عن السحر الأسود لا يتجاوز ما يرد في روايات عن الأشرار.
لذلك فإن مشكلته عليه أن يحلها بنفسه.
ومضت الساعات حتى حلّ المساء، وغادرتُ مع إلودي إلى البيت.
“ماذا أصنع لك الليلة؟”
كان أبرز ما يميز حياتي الجديدة مع إيلودي هو تحضير الطعام.
فلا يمكن أن أقدّم لها وجبات مرتجلة كما كنت أفعل وأنا وحدي.
لم أكن أستطيع إعداد ثلاث وجبات متوازنة كما يفعل خبراء التغذية، لكنني كنت أحرص على أن أطبخ لها أطباقاً متنوعة لا تشعر بالملل منها.
ومع ذلك، كانت هناك أيام أعجز فيها عن التفكير بما أعدّ للعشاء، مثل اليوم.
“أي شيء!”
قالت إيلودي بمرح.
هززت رأسي متنهّدة
“أي شيء هو أصعب طلب يا إيلودي…”
“لا بأس فكل ما تطبخينه لذيذ حقاً، أيّاً كان.”
ربتُّ على رأسها بصمت.
كلماتها البريئة ملأتني سروراً وحزناً في الوقت ذاته، لكنني لم أُبدِ ذلك.
وبعد قليل بلغنا الزقاق حيث بيتنا.
…!
اتسعت عيناي دهشة.
فقد كان هناك رجل أسود الثياب مسنداً ظهره إلى الجدار.
غطّى وجهه بقبعة عريضة وياقة معطف عالية فلم يظهر منه سوى أنف وفك.
لكن أنفاً وفكاً بتلك الوسامة لا يمكن أن يخفيا حتى على بُعد عشرات الأمتار.
“سيدي الدوق، ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
لساني سبقني إلى الصراحة قبل أن أحييه.
“آه…”
تمتم مرتبكاً.
“كنتُ أظن أنني متخفٍ بما يكفي.”
“لكن أنفك وفكك بارزان من الطبيعي أن أعرفك.”
“بهذا القدر فقط؟”
ترددت لحظة هل أقولها له أم لا؟
لكن إن استمر يظن أن هذا تنكّر فقد يُوقع نفسه في مشكلة، فلا بد أن أخبره.
“أنفك وفكك وسيمان جداً على نحو نادر إن أردت التخفّي فضع قناعاً يغطي وجهك كله، لا نصفه فقط.”
عندها خلع الدوق قبعته.
تأملت وجهه، وارتحت.
فعيناه القرمزيتان كانتا هادئتين، وبشرته لم تعد بلون من يحتضر.
وارتسمت على شفتيه ابتسامة طفيفة.
“حتى الوسامة قد تصبح عائقاً.”
… ماذا؟
كدت لا أصدق أذني.
لكنّه كان يعني حقاً ما قال، مديحاً صريحاً لنفسه بلغ حدَّ الإحراج.
“واو… حقاً…”
كدت أقول له إنه مغرور لكنني تماسكت.
“إن ثقتك بنفسك عالية جداً.”
“ثقة بالنفس؟”
ابتسم أكثر.
“إنما قلت الحقيقة.”
لم أجد ما أرد به، فآثرت الانتقال إلى صلب الموضوع.
“إذاً… ما الذي جاء بك ؟”
تغيّر وجهه قليلاً وتيبّست ملامحه.
“…أردت أن أقول آسف.”
“آسف؟”
رمشتُ في دهشة.
لم يكن قد فعل بي ما يستدعي اعتذاراً، فارتبكت.
ترى هل ارتكب شيئاً لم أعلمه؟
قال بصوت متردد
“في ذلك اليوم… أخفتك.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 25"