على بُعد شبرين تقريبًا مني، انحنى الدوق برأسه انحناءً شديدًا.
فاحت رائحة الدم فجأة.
ومهما كان المرء جريئًا، فلا بد أن يتجمد جسده في مثل هذا الموقف.
فكيف بشخص عادي مثلي؟
دُقّ.
جثا الدوق على ركبتيه بكلتيهما.
فتراجعت إلى الوراء مذعورة.
“سيدي، ما الذي…؟”
عندها رفع الدوق رأسه.
وبريق مخيف لمع في عينَيه الغارقتَين بحمرة داكنة.
(…خطر.)
تبللت راحتاي بعرق بارد.
فتحت فمي لأقول شيئًا، لكنني لم أجد ما يقال، فأطبقته مجددًا.
وفي أثناء ترددي، نطق الدوق من جديد:
“أرجوك… ما من أحد يمكنني أن أرجوه سواك إيلودي… اعتنِ بإيلودي حتى النهاية فأنا… لم أعد أستطيع الاقتراب منها…”
كان صوته المضطرب يتدفق بكلمات متقطعة:
“…لذا، لذا أرجوك… لن أظهر ثانية أمامك أو أمام إيلودي سأمنحك ما تشاءِين، حتى حياتي أقدمها… فقط… احمِ ابنتي حتى النهاية.”
حتى وأنا عاجزة عن استيعاب ما يجري من شدة الرعب، علِق في رأسي خبر واحد:
(لن يستطيع لقاء إيلودي؟)
كان دوق فانيش يحب ابنته إلى حد الجنون.
ومع ذلك، قال إنه لن يعود للظهور أمامها مطلقًا.
(…مستحيل.)
وخنق صدري إدراك مفاجئ.
لم يكن ذلك يشير إلا إلى حقيقة واحدة:
إنه الجنون الذي يشتد كلما استخدم الدوق السحرَ الأسود في الرواية.
الجنون الذي إذا بلغ ذروته، أصيب صاحبه بالهياج.
والدوق أمامي الآن يطابق تمامًا صورة الدوق في الرواية وهو مسعور.
(إنها مضاعفات السحر الأسود.)
حدقت بخوف إلى الدوق الجاثي أمامي.
لقد اكتملت قطع الأحجية.
طبيعي إذن أن الدوق، وقد بلغ جنونه هذا الحد، لن يقترب من ابنته.
فإن أخطأ لحظة واحدة، ربما يؤذيها.
في الرواية، خطط الدوق بعد إنقاذ ابنته للانتحار.
لكن المشكلة…
(لماذا؟)
هذا الاستنتاج المرعب جرّ وراءه سؤالًا حتميًا.
في الرواية، لجأ الدوق إلى السحر الأسود ليحيي إيلودي بعد أن ماتت.
أما في الواقع، فإيلودي حيّة وبصحة جيدة، بل إن علاقتها بوالدها أخذت تتحسن شيئًا فشيئًا.
أي أنه لم يكن هناك سبب لاستخدام السحر الأسود أصلًا.
“س… سيدي.”
ابتلعت ريقي.
هناك فارق حاسم بين الدوق في الرواية، الذي جنّ بسبب السحر الأسود، وبين الدوق الواقف أمامي الآن.
ذاك كان يزهق أرواح الكثيرين من أجل ابنته.
أما هذا…
(فقد قال إنه سيضحي بنفسه.)
شهقت أنفاسي.
ربما ما زال هناك أمل.
لا، بل لا بد أن يكون هناك أمل إيلودي تحتاج إلى أبيها.
ذلك الأب الذي دلّلها منذ ولادتها، وبحث عنها في القارة أربع سنوات كاملة… لا يمكن أن ينهار هكذا.
فجثوت أمام الدوق مثله تمامًا.
“سيدي.”
ناديتُه ببطء.
“هل ثمة ما أستطيع مساعدتك به؟”
رمقني بنظرة حادة أصابت وجهي مباشرة.
“…لا فقط… فقط اعتنِ بإيلودي.”
أومأت برأسي.
كان علي أن أطمئنه أولًا، هو الرجل الذي لم يفكر إلا في ابنته حتى وسط نوبة جنونه.
“أعدك سأحمي إيلودي وإن لم أستطع أن أقدم حياتي مثلك… فسأحميها وأرعاها بكل جهدي.”
“…”
أضفت بنبرة أخفّ ما استطعت، رغم أن المعنى لم يكن هيّنًا:
“ولي شرط: حتى إن لم تلتقِ بها، فلتكتب لها رسائل يجب أن تعلم إيلودي أن والدها لا يزال يحبها ويهتم بها.”
أيمكن أن يكون وهماً؟
شعرت أن الهالة المظلمة المخيفة التي غلّفت الدوق قد خفت قليلًا.
“…شكرًا لك.”
“لا شكر على واجب.”
“والآن… هل ستبقى هنا؟ إذن فلتنهض ركبتيك ستتضرران.”
أرضية المقهى كانت من الخشب الصلب.
وطالما ظل جاثيًا هكذا فلن يسلم من الألم.
“…لا عليّ أن أذهب.”
اشتعل بريق جديد في عينيه.
“هناك ما يجب أن أنجزه ولكنني… لم أطق الاحتمال كنت ضعيفًا… فجئت إليك.”
رمشت في ذهول.
وما شأني أنا بضعفه؟
لكن لحسن الحظ، لم يبدُ أنه سيهذي أكثر، فقد وقف على الفور.
(صحيح، حتى في السابق كان هكذا ثم استعاد وعيه لم يكن الأمر خطيرًا إلى هذا الحد، لكن…)
تذكرت أنه حين حاول قتلي أيضًا كان تحت وطأة مضاعفات السحر الأسود.
ومن الغريب أنني لم أنتبه لذلك إلا الآن.
على أية حال، إن كان قد أفاق من قبل بعد نوبة جنون، فلا بد أن يفيق الآن أيضًا بمرور الوقت.
بل يجب أن يحدث ذلك.
إذ سيكون مؤلمًا للغاية أن يفقد الدوق عقله إلى الأبد.
مشى بخطوات ثابتة نحو الباب دون أن يودع.
لم أستطع أنا ولا إيان أن نوقفه، حتى ونحن غير قادرين على صرف أنظارنا عن ظهره.
“آنسة بيرتين.”
توقف فجأة وناداني باسمي.
رمشتُ في دهشة.
أتُراه يريد أن يكرر وصيته الأخيرة بشأن إيلودي؟
“…هل لي أن أطلب مصافحة أخيرة؟”
“لا يجوز، آنسة آريا!”
“…”
ترددت لحظة.
الخوف كان طبيعيًا.
فلم يكن مستبعدًا أن تُنتزع ذراعي في لحظة إذا لامست يده الملوثة بالسحر الأسود.
لكنني، وكأنني مسحورة، تقدمت نحوه.
لعل السبب هو أن صوته بدا أشدّ رجاءً من حين استأمنني على ابنته.
أو ربما لأنني لمحت في عينيه الدامعتين، وسط دوامة المشاعر، بصيص أمل لم يكن موجودًا منذ قليل.
أطبقت على يده اليمنى بقوة، ومنحته أصدق مصافحة في حياتي.
“…شكرًا لك.”
ارتسمت ابتسامة باهتة على فمه.
حدقت في وجهه مذهولة.
هل كان مجرد وهم أن الجنون الذي كان يلفّه كالضباب قد انقشع قليلًا؟
دوّي.
لم أدرك أنه غادر المقهى تمامًا إلا حين سمعت صدى الباب يُغلق خلفه.
“آنسة آريا، هل أنتِ بخير؟”
أسرع إيان إليّ في فزع.
لكنني لم أنطق بحرف.
إذ لم أستطع أن أقول إنني بخير… ولا أنني لست بخير.
***
خرج تيودور فانيش بسرعة من مقهى آريا، مستندًا إلى جدار زقاق مظلم، يلهث بشدة.
كان جسده يغمره العرق البارد.
لقد تجاوز مقاومة الحاشية الذين اعتقدوا أنهم قد استحوذوا على منزل الدوق بالكامل كل التوقعات.
وقد اضطر ثيودور لمواجهة الجنود الذين كانوا في خدمته ذات يوم، حتى بعض الفرسان الذين ربّاهم وأحسن تدريبهم، بالسيف.
أما الخائن الذي كان يومًا يده اليمنى، فقد استخدم عليه فقط أساليب قتالية تجعله يختنق.
ومهما كان ثيودور فانيش قويًا، لم يكن له مفر من الوقوع في الورطة.
بالطبع، استخدم السحر الأسود.
كثيرًا، ومرات متكررة، وبشكل أكثر طبيعية من مجرد التنفس.
لم يكن أمامه خيار آخر، فالسحر الأسود كان الحل الوحيد للوضع الراهن.
كان يعلم ثمن ذلك جيدًا.
فالسحر الأسود يمكن أن يُستخدم بتقديم نوعين من القرابين:
الأول: مقدم السحر نفسه.
والثاني: شخص آخر يُقدَّم كقربان.
شدّ ثيودور على أسنانه.
فحتى لو وقع في الهاوية، فقد تعهّد ألا يجلب أي إنسان آخر إلى السحر الأسود.
الوحيد المتبقي هو هو نفسه.
ولم يكن في ذلك مشكلة كبيرة.
عادةً، مع مرور الوقت، يتراجع الجنون ويقتصر الضرر على فقدان الحواس أو الآلام الجسدية الشديدة.
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا.
ربما بسبب أن السحر الأسود قد أخذ أرواح عدد كبير من الناس، لم يهدأ حتى في فترة الراحة، ولم يتركه لحظة واحدة.
في النهاية، خطرت له فكرة واحدة: إيلودي كان عليه أن يهتم بإيلودي.
وبفكرة واحدة فقط، توجه إلى آريا بيرتين.
رغم أنه لم يكن واثقًا من أنه يستطيع قول كلمات مناسبة عند اللقاء.
ثم…
(…لقد كنت أشك وأشك…)
كلما اقترب من آريا بيرتين، شعر بالحرية من ضغط السحر الأسود الذي كان يبتلعه.
وبفضل ذلك، استطاع أن يقول لها أن تهتم بإيلودي جيدًا.
ورغم أنه لم يكن متأكدًا من مدى وضوح كلماته، إلا أن آريا بيرتين بدا أنها فهمت المعنى وواسته، مما جعله يطمئن.
وبمجرد هذه الحقيقة، قبل أن يغادر المقهى، انتابه شعور لا يمكن تفسيره.
رغبة شديدة في الإمساك بـآريا بيرتين، واحتضانها… لكن لم ينفّذ أي شيء، وطلب مصافحة فقط، آخِر ما تبقى من ضبط نفسه.
ونتيجة لذلك…
(لا أصدق…)
أغمض ثيودور عينيه كانت يد آريا دافئة وحنونة، كأشعة الربيع.
وركّز على ذلك الدفء، فبدأ جنونه يخف تدريجيًا.
وعلى الرغم من أنه خرج متسرعًا حينها، إلا أنه الآن بعد أن هدأ، أدرك الحقيقة.
ما حدث قبل قليل لم يكن صدفة، واستعادة حواسه لم يكن بسبب مهارة الطهي الفريدة لآريا بيرتين فقط.
مرّ الوقت.
وعلى الرغم من أنه كان يعلم أنه يجب أن يغادر، لم يتمكن من تحرك خطوة واحدة حتى يتأكد من كل شيء.
كم مرّ من الوقت؟
في منتصف الليل القاتم بلا قمر، توصل ثيودور إلى استنتاجه النهائي:
آريا بيرتين كانت آخر خيط خلاص له.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 24"