أضاء وجه الكونت جاكوب إشراقًا كما لو أُشعلت أمامه عشرات الشموع.
“جلالتك!”
كان صوته يفيض إجلالًا واحترامًا، كما لو كان ينادي بمخلّص ما.
تابع الدوق حديثه بوجهٍ قاتم:
“ثلاثة أيام ستكون كافية، أليس كذلك؟ خلال تلك الفترة سأقوم بإنهاء جميع القضايا العاجلة، لذا إذا احتجت إليَّ لاحقًا، فأرسل شخصًا إلى هنا لا تفكر بالمجيء بنفسك.”
بدت ملامح الكونت جاكوب شديدة الأسى والظلم، لكنه اكتفى بهزّ رأسه موافقًا.
كان يبدو أنه قرر أن يرضى بمجرد وعد الدوق بالذهاب إلى قصره.
“من الأفضل أن ننطلق الآن وأيضًا……”
اتجه الدوق نحوي ونحو إيلودي بخطوات بطيئة.
لم يستطع أن يزيح نظره عن إيلودي، وكأنه إن غابت عن عينيه للحظة فستختفي إلى الأبد.
جثا على ركبتيه أمام إيلودي.
وبحسب صوت الكونت جاكوب الذي شهق، فالواضح أن هذه لم تكن مجرد حركة من بالغ يودّ مجاراة مستوى نظر الطفل كما يبدو في أعراف النبلاء.
جثا مجددًا على ركبتيه، وانحنى كما لو كان على وشك أن يضمّ إيلودي، مُنصتًا بتركيز إلى كلماتها.
خرج صوت صغير من فم إيلودي، بعدما ترددت طويلًا.
كان صوتًا يفيض بالرجاء والأمل.
“……هل… كنتَ تبحث عني طوال الوقت؟”
✦✦✦
تجمد ثيودور فانيش في مكانه، لا قادرًا على معانقة إيلودي، ولا قادرًا على تركها.
صعد شيء ساخن من أعماق حلقه.
كان عليه أن يجيب.
كان عليه أن يبدد قلق إيلودي على الفور…
لكن الكلمات التي غلت داخله كانت كثيرة جدًّا، فلم يخرج أي منها بسهولة.
“……نعم.”
ما إن نطق بالكلمة الأولى بصعوبة، حتى انفتحت السدود وتدفقت الكلمات:
“منذ اللحظة التي فقدتُك فيها، لم أنم ليلة واحدة نومًا هنيئًا بحثت عنك في أرجاء الإمبراطورية كلها، بل وفي الممالك والدوقيات المجاورة أيضًا.”
أغمض ثيودور عينيه ثم فتحهما.
كان يعتقد حينها أنه سيعثر على إيلودي سريعًا.
فهو يمتلك الثروة، والسلطة، بل وحتى السحر.
آه، يا له من اعتقادٍ أحمق…
“بعد مرور عام، قال الجميع إنه عليَّ أن أستسلم، لكنني لم أنسَكِ أبدًا، ولو لثانية واحدة، يا ابنتي.”
لم تقل إيلودي شيئًا.
كل ما فعلته هو التحديق فيه بصمت بعينيها الكبيرتين.
“حتى وإن كانت ابنتي قد نسيتني……”
حرّك ثيودور حنجرته التي اختنقت بالعاطفة.
“فلا بأس كل شيء على ما يرام يكفيني أن تعيشي بصحة وسعادة.”
“……أمّا أنا…”
فتحت إيلودي فمها ببطء.
أخذ ثيودور نفسًا عميقًا.
فهو كان خائفًا مما قد تتفوه به الطفلة التي لم تفعل سوى رفضه حتى الآن.
“الجميع… قالوا إن والديّ تخلوا عني قالوا إنني لا أملك أمًا ولا أبًا، لذا يجب ألا يقترب أحد مني……”
“……”
أغمض ثيودور عينيه.
لو استمر في النظر إلى عيني إيلودي التي تحمل من المشاعر ما يفوق براءة الطفولة، لانفجر بالبكاء.
كان يتمنى أن يعانقها بقوة من أعماق قلبه.
وكان يود أن يعرف بالتفصيل ما الذي جرى لها قبل أن تلتقي بآريا.
وأخيرًا، كان يرغب في تتبع كل من جعلها تشعر بهذا الشكل، ليُمزقهم إربًا من الرأس حتى القدمين.
لكن تيودور لم يستطع حتى تحريك إصبعه.
فهو لم يرد أن يعانق طفلة لا تزال تتجنبه قسرًا.
ولم يرد أن ينبش في ذكريات الطفلة المؤلمة.
كل ما استطاع قوله… كان اعتذارًا.
“……أنا آسف كان عليَّ أن أجدك في وقت أبكر لا، ما كان يجب أن أضيعك من الأساس ما كان يجب أن أسمح لك بالابتعاد عن ناظري……”
هزّت إيلودي رأسها نافية.
“لا بأس.”
ثم التفتت برأسها قليلًا نحو آريا.
“لأنني… التقيت بآريا… الآن كل شيء على ما يرام.”
“……أفهم.”
سخنت أطراف عينيه لا إراديًا.
أقرّ ثيودور بالحقيقة.
الطفلة التي كانت تهمهم في حضنه، والتي نطقت أولى كلماتها بلفظة “أبي”، والتي كانت تضحك من القلب في لعبة “كوكو”… لم تعد موجودة.
إنها الآن تعيش فقط في ذاكرته.
أما إيلودي التي أمامه… فقد عانت كثيرًا بسببه، ولم تعد بحاجة إليه.
لكن، رغم كل ذلك…
ثيودور فانيش… لا يزال بحاجة إلى إيلودي.
فمجرد انقطاع العلاقة معها جعله يشعر أن العالم لم يعد يستحق أن يُعاش فيه.
ومع ذلك، لم يستطع ثيودور أن يعانق الطفلة حتى النهاية.
واكتفى بأن مدّ يده، وربّت بلطف شديد على رأسها.
ولحسن الحظ، لم تبدُ إيلودي منزعجة أو خائفة.
بل حدّقت به بعينين واسعتين مندهشتين، كأرنب صغير تفاجأ فجأة.
نهض ثيودور من مكانه.
لقد حان وقت الرحيل فعلًا.
“اعتني بنفسكِ، إيلودي.”
ثم أضاف، بعد تردد:
“……عيد ميلاد سعيد.”
آملًا أن تدرك إيلودي كم كانت كلماته نابعة من أعماقه.
✦✦✦
طوال الطريق المؤدي إلى قصر الدوق، لم يفتح ثيودور فمه تقريبًا.
وكان الكونت جاكوب صامتًا أيضًا، إذ شعر بأن مزاج ثيودور لا يسمح بالكلام.
سأل مرة واحدة فقط، عن كيفية عثور ثيودور على إيلودي.
لكن ثيودور لمّا رمقه بنظرة حادة، أغلق فمه على الفور.
ولهذا، عندما بادر ثيودور بالسؤال فجأة، بدا أن جاكوب قد فوجئ…
“كيف… عثرت عليّ؟ كنت أعتقد أنني نجحت في التملص طوال الوقت.”
“لقد كنا نبحث بالفعل طوال الوقت لكن جلالتك لم تكن تمكث في مكان واحد أكثر من ثلاثة أيام، لذا كنا نتأخر في اللحاق بكم فقط أما هذه المرة، فقد مكثتم في قرية واحدة لأكثر من شهر…”
خفض جاكوب صوته عند نهاية حديثه.
وكان وجهه يوحي بأنه أدرك للتو لماذا كان ثيودور يتنقل كثيرًا في العادة، ولماذا بقي هذه المرة طويلًا.
أطلق ثيودور ضحكة قصيرة فارغة.
لم يكن من السهل وصف الكونت جاكوب بأنه شرير بحد ذاته.
صحيح أنه تفجر غيظًا في المقهى، لكنه كان أحد القلائل من أتباع الدوق الذين ساعدوا في البحث عن إيلودي.
إلا أنه كان بليدًا بعض الشيء، وبطيئًا دائمًا بخطوة، وكانت هذه إحدى تلك اللحظات.
لو كان ثيودور ما قبل العثور على إيلودي، لكان طرده منذ زمن، أو كسر ساقيه حتى لا يستطيع اللحاق به مجددًا.
وحتى الآن، لم يكن ذلك بالأمر المستحيل.
(… كفى.)
تنهد ثيودور بعمق.
يبدو أنه أصبح أكثر لينًا منذ أن وجد إيلودي.
وإلا، لما كان ليقلق من ردة فعل آريا بيرتين إذا عاد إليها فارغ اليدين بعدما كسر ساقي الكونت جاكوب.
استطاعوا قطع مسافة تستغرق عادةً ثلاثة أيام في يومين فقط.
وذلك بفضل تبديل الخيول عدة مرات في الطريق.
دخل ثيودور قصر الدوق بخطوات بطيئة، للمرة الأولى منذ عدة سنوات.
شعر أن الخدم الذين تعرفوا عليه بدءًا من الحارس أصيبوا بنوبة فزع جزئية عند رؤيته.
وبينما كان يسير في الممر الطويل، ألقى بكلمة عابرة:
“يبدو أن المكان أُدير بشكل جيد أكثر مما توقعت من هو المسؤول؟”
“ذاك… في الحقيقة…”
تلعثم الكونت جاكوب ولم يستطع أن يجيب بشكل واضح.
ضاقت عينا ثيودور.
“…عليك أن ترا بنفسك ، يا جلالتك.”
تسارعت خطواته لا إراديًّا.
فبعد أن فقد إيلودي مباشرة، كان خارج وعيه تمامًا، وحين بدأ يستعيد وعيه، لم يحتمل من كانوا يصرخون في وجهه طالبين منه أن يتخلى عن الطفل، فقطع الاتصال بالجميع.
وفي الحقيقة، حتى لو أراد التواصل، فمعظم الأحيان لم يكن بوسعه ذلك.
لأنه كان يجوب البقاع الخطرة في القارة باحثًا عن المكان الذي اختفت فيه إيلودي.
أو لأنه لم يكن يبدو كإنسان حي بسبب آثار السحر الأسود.
لكن كل ذلك لم يتعدَّ أربع سنوات.
ومع أن هذا الزمن كافٍ لزعزعة أسس عائلة الدوق، إلا أنه لم يكن كافيًا للوصول بها إلى حافة الفناء، لذا ظن أن ما قاله الكونت جاكوب كان محض تهويل ليعيده إلى القصر.
وصل ثيودور أخيرًا إلى المكتب، وفتح الباب بعنف.
(……)
أغمض تيودور عينيه.
فبمجرد فتح الباب، تدفقت الذكريات عليه كالسيل، وأثارت بداخله مشاعر مؤلمة.
حين كان يربي إيلودي، كانت الألعاب مبعثرة في كل ركن من أركان المكتب.
أحيانًا كانت تجلس على ركبتيه بينما ينجز أعماله، لكنها لم تكن تهدأ أبدًا، ما اضطره لإدخال المربية إلى المكتب.
وكانت إيلودي، كما يليق بطفلة نشطة، تلعب بسعادة، ثم فجأة تنفجر في البكاء دون سبب واضح.
لكنه لم ينزعج يومًا.
لأنها كانت ابنته العزيزة، التي لا تؤلمه حتى لو وضعها في عينيه.
(تماسك…)
أخذ ثيودور نفسًا عميقًا.
كان هناك مجلد أوراق على المكتب.
(كما توقعت.)
فتح ثيودور المجلد، وهز رأسه مباشرة.
التقارير التي كان من المفترض أن تكون مرتبة وواضحة كانت فوضوية تمامًا.
ومن نظرة واحدة فقط، كان واضحًا أنها من صنع الكونت جاكوب نفسه.
“هل استقال السير شايلوا؟”
سأل ثيودور عن الرجل الذي كان في الماضي يمينه اليمنى، لكنه حُطّ من رتبته إلى فارس عادي بعد أن تجرأ على طلبه بالتخلي عن إيلودي.
فلو كان هو المسؤول، لكان التقرير أفضل بكثير.
“فلتقرأ بنفسك، يا جلالتك.”
أجاب الكونت جاكوب بوجه متجمد.
بدأ ثيودور يتصفح المجلد بسرعة.
رغم أن المعلومات كانت فوضى عارمة، إلا أنها كلها كانت تشير إلى نتيجة واحدة.
وهي…
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 22"