ساد الصمت.
لم يسبق لثيودور أن سمع في حياته سؤالًا يخنقه بهذا الشكل.
كان من المفترض أن يتوقعه، لكنه لم يُعِد جوابًا واحدًا لهذا السؤال.
أغمض عينيه بقوة، ثم فتحهما.
ولأن ثيودور لم يكن قد أعدّ ردًا لطيفًا، فلم يكن لديه ما يقدّمه لابنته سوى الحقيقة فقط.
“لا يوجد.”
قالها وكأنه يمضغ كل كلمة قبل أن يتفوه بها.
“أمك… غير موجودة.”
لم يستطع حتى أن يتخيل كم سيكون الألم الذي ستشعر به إيلودي إن فهمت المعنى الحقيقي لكلماته.
ابتلع ريقه الجاف وأكمل كلامه — كلامًا لطالما أراد أن يقوله لإيلودي.
“أنتِ… ابنتي التي ربيتها بيدي منذ ولادتها لا تشكّي أبدًا في ذلك.”
“فهمت.”
رمش ثيودور بعينيه بدهشة.
ذلك لأن ملامح الحزن أو خيبة الأمل لم تظهر على وجه إيلودي على الإطلاق.
بل بالعكس، بدت وكأنها تشعر بالراحة…
“يعني، لا توجد أم، أليس كذلك؟ لن تظهر فجأة يومًا ما وتقول إنها جاءت لتأخذني معها، أليس كذلك؟”
“…….”
شعر ثيودور بأن أنفاسه تكاد تنقطع من المعنى الخفي وراء تلك الكلمات.
وفي النهاية، لم يستطع النطق بصوت، واكتفى بهزّ رأسه بهدوء.
ويبدو أن ذلك كان كافيًا بالنسبة لإيلودي، إذ ابتسمت ابتسامة عريضة، ثم ركضت نحو آريا دون أن تلتفت إلى الوراء.
رفع ثيودور رأسه لينظر إلى السماء.
كان يظن أن العالم الذي صار رماديًا بعد فقدانه لإيلودي قد استعاد ألوانه، لكنه الآن يشعر بفراغ كبير في صدره.
انتهى النزهة في جو من الدفء والود.
وربما لأنها كانت أكثر متعة بعد أن غادر الدوق في الوقت المناسب.
حتى وأنا أغسل الصحون، لم أستطع إلا أن أهز رأسي وأنا أفكر في تصرفات الدوق الغريبة.
(……مع ذلك، هو حقًا يعامل إيلودي بلطف لا يُصدّق.)
في النهاية، هناك حدود لما أستطيع أن أقدمه لإيلودي.
ربما الآن تكتفي بالأكل اللذيذ والملابس الدافئة، لكنها ستكبر، وقد تحلم بأشياء أكبر.
وحين يأتي ذلك اليوم، فإن ثروة الدوق وسلطته ستشكلان دعمًا قويًا لها.
(يا إلهي، لقد تأخرت كثيرًا.)
أثناء إنهائي للأعمال المنزلية، وجدت أن الليل قد حل سريعًا.
سرت بخطى هادئة نحو غرفة النوم حتى لا أوقظ إيلودي إن كانت قد نامت بالفعل.
“……أتمنى لو كانت أريـا أمي.”
تجمد جسدي في مكاني على الفور.
كانت إيلودي تهمهم بكلمات غير مفهومة وهي نائمة.
“أيتها القديسة، إن كنتِ حقًا موجودة، أرجوكِ حققي أمنيتي. اجعلي آريا أمي… أرجوكِ.”
يُجِلّ سكان هذا البلد القديسة التي ساهمت في تأسيس الأمة.
ليست ديانة رسمية، لذا هناك من لا يؤمن بها، وفي الواقع، لم تتحدث إيلودي عن القديسة من قبل.
لكن صوتها الآن، وهي تصلي بتوسل إلى القديسة، كان أشد إخلاصًا من أي أحد في المعبد.
“سأكون فتاة طيبة جدًا لن أرتكب أي شيء سيئ لذا، من فضلك… اجعلي آريا أمي…”
سحبتُ يدي عن مقبض الباب.
لم أستطع أن أدخل الغرفة في تلك اللحظة.
وما زاد من ثقل الخطى هو التفكير في الجرح الذي قد يصيب قلب إيلودي.
(لا أستطيع أن أحقق لها ما تريده.)
بطبيعة الحال، كنت أريد أن أحقق رغبتها.
أن أقدّم أوراق التبني رسميًا، وأن أطلب منها أن تناديني “أمي”، وأن أعرّفها أمام الجميع على أنها ابنتي…
على أي حال، لم أكن أفكر في الزواج أصلًا.
وكانت فكرة تربية طفلة أحبها أفضل من قضاء العمر وحيدة.
لكن التبني ليس بالأمر السهل كما يبدو.
ربما لو كانت إيلودي يتيمة حقيقية، لكان الوضع مختلفًا.
على الأقل سيكون كل شيء ممكنًا بمجرد أن أكون مستعدة نفسيًا.
لكن إيلودي…
(هي ابنة دوق بانيشي.)
أغمضتُ عينيّ.
ابنة ثيودور بانيشي، لا أحد سواه.
الفتاة التي أحبها ثيودور في الرواية إلى درجة أنه كان على وشك أن يبيد مدينة كاملة لينقذها.
الفتاة التي ستكون يومًا ما وريثة لعائلة بانيشي.
(…….)
بعيدًا عن مشاعري الشخصية تجاه ثيودور، لم يكن خافيًا علي أنه قد قدّم لنا الكثير من الدعم.
لو أراد، لأخذ إيلودي مني بالقوة.
ولم يكن ليحتاج حتى إلى استخدام القوة.
بمجرد أن يرفع دعوى نسب، ستنتقل إيلودي فورًا إلى كنف عائلة الدوق.
فكلاهما متشابهان إلى حد لا يُمكن إنكاره.
والسبب الوحيد لعدم لجوء دوق بانيشي إلى ذلك، هو:
أن إيلودي تحبني كثيرًا، ولو انفصلنا، فستكون حزينة للغاية.
وبينما كنت أستغرق في التفكير، ساد الهدوء التام ولم أعد أسمع سوى أنفاس إيلودي المنتظمة.
دخلت الغرفة بهدوء.
ولحسن الحظ، كانت نائمة بعمق لدرجة أنها لم تشعر حتى بدخولي.
“ممم… لذيذ…”
بل وحتى تتكلم في نومها.
وحين سمعت صوتها وهي تلعق شفتيها، خمّنت أنها كانت تأكل شيئًا لذيذًا في الحلم.
نظرت إلى وجهها البريء تحت ضوء القمر.
كان هناك صراع قديم يدور في قلبي، عاد ليهزّ كياني من جديد.
ما هو الأفضل حقًا لإيلودي؟
رغبتها كانت واضحة وبسيطة.
أن يختفي ثيودور بانيشي تمامًا، وأن تبقى معي فقط، لنعيش معًا بسعادة.
(لكن هذا مستحيل.)
ابتسمتُ بسخرية.
بعيدًا عن كونه دوقًا، هو والدها الحقيقي ويحبها بإخلاص.
ومع مرور الوقت، لا بد أن إيلودي ستفهم مشاعره يومًا ما.
وربما في المستقبل، ستحتاج إليه أكثر مما تحتاج إليّ.
(حتى يحين ذلك الوقت فقط…)
تمدّدت إلى جانبها، وبدأت أُربّت برفق على شعرها الفضي.
صار ناعمًا جدًا، بالكاد أذكر كيف كان خشنًا في الماضي.
(أعدكِ، إيلودي…)
نظرت إليها وأنا أعاهد نفسي:
(سأجعلكِ سعيدة، مهما كلّف الأمر.)
***
في اليوم التالي،
انقضت الإجازة الشهرية التي تأتي مرة واحدة وكأنها ثلج في يوم صيف، وطلع فجر يوم جديد من العمل.
منذ أن ذهبت إلى العمل في المقهى برفقة إيلودي، بدأت يومي كالمعتاد.
في الصباح، أتعامل مع الزبائن الذين يأتون تباعًا بدءًا بالسيدة العجوز، ثم في فترة بعد الظهر أتعامل مع الزبائن الذين يتوافدون بدءًا بدوق بانيشي.
والأمر الوحيد الذي لم يكن كالمعتاد في ذلك اليوم، هو أنني أثناء تقديمي للوافل للدوق، وضعت ورقة صغيرة معه.
والنتيجة؟ حين عدت إلى المنزل برفقة إيلودي بعد انتهاء الدوام، كان الدوق بانتظارنا هناك.
“ما الأمر؟ هل تحتاجين إلى مساعدتي؟ فقط قولي لي وسـ…”
“لنتحدث داخل البيت.”
قاطعت كلام الدوق.
ففي الحقيقة، ليل أواخر الخريف بعد غروب الشمس كان باردًا للغاية.
حضّرت كوبًا من الكاكاو الساخن لإيلودي، وكوبين من الشاي الدافئ لي وللدوق، ثم بدأت الحديث.
“ليس لأنني أحتاج شيئًا… بل لأن لدي أمرًا أود الحديث عنه إيلودي، أنتِ أيضًا عليكِ سماعه.”
“مـ… ما هو؟”
رفعت إيلودي عينيها إليّ بقلق ظاهر.
حتى أنا، بدا أنني متوترة قليلًا، إذ جفّ حلقي تمامًا.
أشعر أن ما سأقوله لن يُعجب إيلودي كثيرًا.
نظرت مباشرة إلى دوق بانيشي.
“سيادتك، ترغب في لقاء إيلودي، أليس كذلك؟ ليس فقط من بعيد، بل لقاء يجمعكما كأب وابنته.”
صمت الدوق قليلًا.
“…لا أظن أن لي الحق في طلب شيء كهذا.”
لم أستطع إخفاء دهشتي.
كنت أظن أنه سيوافق فورًا دون تردد، لكنه قال ما يشبه الرفض.
“سواء أعجبك ذلك أم لا، وسواء أعجبني أنا أو إيلودي، فأنت والدها ما لم تكن تنوي قطع علاقتك بها نهائيًا…”
توقفت عن الكلام فجأة.
رغم أن الدوق لم يقل شيئًا، شعرت من تغير طفيف في جلسته بهالة قاتمة تنبعث منه.
ولأنني لم أرغب في تكرار تجربة تهديده لي من قبل، لوّحت بيدي بسرعة.
“فقط… كنت أضرب مثالًا لا أكثر لا تأخذ الأمر بجدية… على أي حال، طالما أنك تعترف بإيلودي كابنتك، فأنا أيضًا أؤمن بأنها بحاجة إليك.”
“ما الذي تحاولين قوله؟”
سألني دوق بانيشي بصوت بارد كالجليد.
أخذت نفسًا عميقًا.
لم يكن الوقت المناسب لطرح مثل هذا الاقتراح، خصوصًا في ظل مزاج الدوق السيئ، لكنني شعرت أن الفرصة لن تأتي ثانية.
“أرغب في أن تخصص وقتًا تقضيه مع إيلودي مرة في الأسبوع وطبعًا، بشرط أن أكون حاضرة أيضًا.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
في مشكلة حالياً في الموقع تتعلق بأرشفة الفصول الجديدة بعد نشرها، وراح يتم حلها قريباً إن شاء الله.
وكإجراء احتياطي نرجو منكم الاحتفاظ بنسخة من الفصل بعد نشره على الأقل لمدة يومين أو ثلاثة أيام، لو صار أي خلل مفاجئ.
كما نوصي بمراجعة الفصل المنشور خلال هذه الفترة للتأكد من ظهوره بشكل سليم، ومن عدم حدوث أي خلل تقني أو أرشفة خاطئة.
نعتذر عن الإزعاج، وشكراً على صبركم وتعاونكم الدائم
— إدارة الموقع Hizo Manga
التعليقات لهذا الفصل " 18"