ما إن نطق الدوق “بانيش” بتلك الكلمات، حتى بدأ الزبائن في مختلف الطاولات يطلبون الوافل الواحد تلو الآخر.
رسمتُ ابتسامة مشرقة على وجهي، ثم بدأت بتحضير نفس الوافل الذي التهمه المحتال تمامًا، وقدّمته لهم.
كان رد الفعل إيجابيًا للغاية، وهذا طبيعي، فمن يأكل الوافل الدافئ بعد تناول المثلجات في أواخر الخريف لا بد أن يشعر بالرضا.
أما الدوق “بانيش”، الذي أصبح فجأة بمثابة لوحة إعلانية حية، فلم يُعر الأمر اهتمامًا، واكتفى بالتحديق بصمت في “إيلودي”.
مرت فترة من الزمن.
وأخيرًا، سمعتُ الصوت الذي كنتُ أنتظره بفارغ الصبر.
وقع حوافر الخيل.
أسرعتُ إلى خارج المقهى ولوّحتُ بذراعيّ بقوة.
“سيدي قائد الحرس!”
توقفت حوافر الخيول.
نظر إليّ قائد الحرس “إيان” بوجه متفاجئ من فوق جواده.
“ما الأمر، آنسة آريا؟”
فتحتُ فمي بحذر وقلت:
“كنتُ أود تقديم كوب قهوة لكم على تعبكم، لكن…”
“أقدّر لطفكِ، لكن لا يمكنني قبول شيء أثناء أدائي لواجبي.”
كان في صوته نبرة أسف واضحة.
وهذا طبيعي، فقهوتي المقطرة مشهورة بمذاقها الفريد.
“أعلم ذلك. لكن لديّ أمر يستوجب معالجتكم.”
“ما هو؟”
اتخذ وجه “إيان” تعبيرًا جادًا على الفور.
قفز من على حصانه ودخل المقهى معي.
ما إن رآه المحتال حتى شحب وجهه تمامًا كقطعة ورق.
يبدو أنه يعرف من يكون.
“هل هذا هو الشخص المعني؟” سأل “إيان” بصوت خفيض.
“نعم هل تعرفه؟”
”…وصلتنا أوصاف عن متشرد يثير الشغب في القرية المجاورة، وهو يشبهه إلى حدٍّ ما.”
“لكنكم لستم متأكدين؟”
“لا، لا يوجد دليل قاطع.”
غرقتُ في التفكير للحظة.
كان بإمكانه اعتقاله بناءً على الشبه في الأوصاف، لكن إن اتضح لاحقًا أنه ليس الشخص المطلوب، فسيشعر هذا المحتال بمزيد من الجرأة لمواصلة خداعه.
كما أن ذلك لن يكون جيدًا لـ”إيان” نفسه.
“لقد نشأ بيني وبين هذا الرجل خلاف، وأودّ منكم أن تتدخلوا لحله.”
“ما طبيعة هذا الخلاف تحديدًا؟”
“الأمر هو…”
شرحتُ لـ”إيان” كل ما حدث.
استمع إليّ بتركيز، وهز رأسه بجدية وهو يستوعب كلامي.
وبعد لحظات، التفت إلى المحتال.
“هل توافق على ما قالته الآنسة آريا؟”
”…هذه الفتاة تكذب! كل ما قالته محض افتراء!”
يا له من وقح.
حتى أمام قائد الحرس الذي يحافظ على أمن البلدة بأكملها، لم يتردد في إطلاق الأكاذيب بكل جرأة.
“لقد خدعتني هذه المرأة وقدّمت لي طعامًا مختلفًا تمامًا عمّا هو مُدرج في قائمة الطعام ولحسن الحظ، وصلتَ في الوقت المناسب، سيدي القائد! ينبغي عليك القبض عليها ومعاقبتها!”
“هل تقصد… الوافل؟” تساءل “إيان” وهو يميل رأسه جانبًا باستغراب.
“نعم! إنه ثاني أغلى طبق في القائمة! كيف لها أن تغش في إعداده؟ أليس هذا أمرًا شائنًا؟”
لم أستطع تحمل ذلك أكثر، فقاطعته فورًا.
“أليس من الأفضل أن نسأل الزبائن الذين طلبوه اليوم؟ لقد بعتُ منه أكثر من عشر قطع.”
لكن “إيان” لم يحتج حتى إلى سؤال أحد.
فقد كان الزبائن، الذين على ما يبدو ضاقوا ذرعًا بهذا المحتال منذ فترة، متحمسين لإبداء رأيهم.
“سيدي القائد، رجاءً أطردْ هذا النصّاب بسرعة! إنه يُفسد علينا مزاجنا كيف يمكننا الاستمتاع بمشاهدة—أقصد، تذوق طعامنا بينما علينا الاستماع إلى ثرثرته السخيفة؟!”
“الوافل لذيذ للغاية! لا حاجة لأي تغيير، أرجوكِ حافظي عليه كما هو غدًا أيضًا!”
“يا له من وقح! كيف لا يزال متشبثًا بمقعده؟!”
تقلّبت ألوان وجه المحتال بين الأحمر القاني والأزرق الباهت عدة مرات.
وفي النهاية، لجأ إلى الخيار الذي كان يجب أن يتخذه منذ البداية.
أراد الهرب، بصمت، دون التفوّه بكلمة أخرى.
لكن الوقت كان قد فات.
ما إن همّ بالفرار حتى همستُ لـ”إيان” عن مسألة تناوله الطعام دون دفع ثمنه.
وعلى الفور، شدّ “إيان” على مؤخرة عنقه، بينما بدأ العرق يتصبب من المحتال.
وضعتُ يدي على خصري ونظرتُ إليه بابتسامة راضية.
“حسنًا، عليكَ دفع ثمن ما أكلته.”
“أ-أنا آسف! أرجوك سامحني!”
راقبتُه وهو يفرّ هاربًا، بينما سمعتُ صوت القطع النقدية التي دفعها مقابل الوافل ترن في يدي.
في الحقيقة، لم يكن هناك داعٍ لإضاعة كل هذا الوقت لطرده.
لكنني لم أكن أريد الاستمرار في إعداد المثلجات مع اقتراب الشتاء.
والآن، بفضل ذلك المحتال، بات بإمكاني استبدال الطبق الرئيسي في المقهى من المثلجات إلى الوافل.
كان عليّ أن أشكره بدلًا من طرده، تقريبًا.
لكن الشخص الذي وجب عليّ شكره حقًا كان شخصًا آخر.
“أشكرك على مساعدتك.”
نظرتُ إلى “إيان” لأعبر له عن امتناني.
كنتُ أعلم أنه لم يكن مضطرًا للتدخل، لكنه فعل.
“هذا واجبي.”
قالها وهو يحاول إخفاء إحراجه، لكن احمرار أذنيه فضحه.
“ليس بالأمر الكبير لا تترددي في استدعائي إن حدث شيء كهذا مرة أخرى، آنسة آريا.”
هززتُ رأسي نافية.
“لقد انتشرت شائعة في البلدة بأكملها عن مزاجي السيئ لذا، بالكاد يجرؤ أمثال هؤلاء على الاقتراب من مقهاي.”
لم يكن هذا مجرد تفاخر.
لقد مرّت أكثر من أربع سنوات منذ أن فتحتُ “مقهى آريا”.
وخلال تلك الفترة، حاول العديد من المحتالين افتعال المشاكل، لكنني تعاملت معهم بحزم، لذا لم يعد أحد يجرؤ على مضايقتي بعد الآن.
أما ذلك النصّاب، فمن الواضح أنه لم يكن من هنا.
ربما كان بالفعل ذلك المتشرد الذي يثير الفوضى في القرى المجاورة.
لكن “إيان” لم يكن يبدو مقتنعًا بكلامي.
“مزاجكِ سيئ؟ لا أوافق على ذلك أبدًا بل أعتقد أنكِ…”
توقّف فجأة عن الكلام، ثم احمرّت أذناه بلون قريب من لون شعره الأحمر القاتم.
وبدا أن عينيه الزرقاوين تبحثان في الفراغ عن شيء يلهيه.
طرفتُ بعينيّ.
يبدو أن تعاملي الهادئ مع المحتال قد بدا له… جذابًا.
لكن، بما أنه قائد الحرس، لا بد أن الإقرار بأن صاحبة مقهى عادية بدت له رائعة سيكون أمرًا محرجًا.
لذا، فضّلتُ التظاهر بعدم سماعه.
“آه، همم.”
تنحنح “إيان”، محاولًا استعادة رباطة جأشه.
“حتى في ذلك الوقت، تمكنا من القضاء على عصابة الاتجار بالبشر بفضل الممر الذي دللتنا عليه، آنسة آريا.”
“هل قُبض عليهم جميعًا؟”
مايلِت بجسدي قليلًا نحو “إيان”، وارتفعت حرارة صوتي دون أن أشعر.
“نعم. وقد أُرسل تقرير يفيد بأنكِ قدمتِ لنا المساعدة، لذا كان من المفترض أن يتم تسليم مكافأتك الآن، لكنها تتأخر أكثر مما توقعت.”
“المكافأة، هاه…”
غرقتُ في التفكير للحظة.
“لا بد أن أحدهم استولى عليها في مكان ما.”
لم يكن ذلك بالأمر المفاجئ.
فالتمويل القادم من الدوائر الحكومية المركزية عادةً ما يتم اختلاسه من قبل البعض في الطريق، وعندما يصل إلى هذه المدن الصغيرة، يكون قد تحوّل إلى شيء تافه لا قيمة له.
لكن ذلك لم يكن مهمًا بالنسبة لي.
كنتُ أجني ما يكفي من المال بالفعل، كما أنني حصلتُ على كنز ثمين بدلًا من تلك المكافأة… “إيلودي”.
نظرتُ إلى “إيلودي” بعينين مليئتين بالمحبة.
حتى لو عرضوا عليّ كنوز الدنيا، فلن أفكر أبدًا في استبدالها بها.
”…؟”
فجأة، تجمد جسدي.
كانت “إيلودي” قد خفضت رأسها قليلًا، مما جعل وجهها غير واضح تمامًا، لكن كتفيها الصغيرتين كانتا ترتجفان بخفة.
لم يكن هناك شك… كانت تبكي.
“إيلودي.”
انحنيتُ بسرعة إلى مستوى نظرها، أتأملها بقلق.
لكنها كانت تهز رأسها بعناد، محاولةً إخفاء وجهها عني.
“إيلودي.”
ناديتها بنبرة صارمة، ثم أمسكتُ بخديها الصغيرين بكلتا يديّ.
”…”
عضضتُ شفتيّ.
كما توقعتُ، كانت الدموع تنهمر على وجنتيها.
شعرتُ بخيبة أمل تجاه نفسي، لأنني لم أدرك ذلك في وقت أبكر.
بدأتُ أربت على ظهرها بلطف.
حتى السؤال عن سبب بكائها بدا لي تصرفًا قاسيًا.
كان من الواضح أنها خافت بسبب الحديث عن عصابة الاتجار بالبشر.
وفجأة، رفعت “إيلودي” رأسها.
“آريا…”
“مم؟”
حاولتُ جاهدًا تهدئتها، لكن يبدو أن محاولتي لم تنجح كثيرًا.
كان صوتها لا يزال يرتجف كما لو أنها ورقة شجر ترتعش بفعل الرياح.
“يجب… يجب ألا تثيري غضب الآخرين.”
طرفتُ بعينيّ للحظة، غير قادرة على فهم ما كانت تحاول قوله.
“إذا أغضبتِهم، سيأتون… سيأتون لإيذائكِ يا آريا.”
في تلك اللحظة…
غمرتني قشعريرة باردة، كما لو أن دلوًا من الماء المثلج سُكب على رأسي.
آه.
لم تكن “إيلودي” خائفة من المحتال فحسب.
بل كانت…
قلقة عليّ.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
في مشكلة حالياً في الموقع تتعلق بأرشفة الفصول الجديدة بعد نشرها، وراح يتم حلها قريباً إن شاء الله.
وكإجراء احتياطي نرجو منكم الاحتفاظ بنسخة من الفصل بعد نشره على الأقل لمدة يومين أو ثلاثة أيام، لو صار أي خلل مفاجئ.
كما نوصي بمراجعة الفصل المنشور خلال هذه الفترة للتأكد من ظهوره بشكل سليم، ومن عدم حدوث أي خلل تقني أو أرشفة خاطئة.
نعتذر عن الإزعاج، وشكراً على صبركم وتعاونكم الدائم
— إدارة الموقع Hizo Manga
التعليقات لهذا الفصل " 12"