ظننت أن العمدة نائم، لكنه كان مستيقظًا.
في اللحظة التي اقتربت فيها من السرير لأتفقد حالته، رفع جفنيه بصعوبة.
“سيدي العمدة، هل أنت بخير؟”
نظر العمدة إلى السقف بلا تركيز وفتح فمه.
“سمعت الأصوات الصاخبة في الخارج، فاتضح أنها أنتِ. ظننت أنك نجوت بالكاد دون أن تموت في القصر الإمبراطوري، والآن أتيت لتموتِ بسبب المرض؟”
“حتى لو كنت تتحدث بقسوة، أعلم أنك تقول ذلك لأنك قلقٌ عليّ.”
“……لا فائدة منك سوى أنك أصبحت أكثر إدراكًا بلا طائل.”
ضحكت بصوت خافت على مزاح العمدة الخفيف.
“أنا لا أمزح. اخرجِ حالًا. واجعل كل من بالخارج يرحلون أيضًا— كحة، كحة……!”
“سيدي العمدة!”
أجبر العمدة نفسه على رفع صوته، لكنه بدأ يسعل بعنف. وبعد فترة، استعاد هدوءه والتقط أنفاسه.
ساعدته على الاستلقاء بشكل مريح، ثم أخرجت من صدري صندوقًا خشبيًا يحتوي على أوراق الإنديل وفتحته أمامه.
“انظر إلى هذا.”
ألقى العمدة نظرة فاترة داخل الصندوق، لكنه سرعان ما فتح عينيه على اتساعهما.
“كيف حصلت على هذا الشيء الثمين……؟”
“العمدة لم يُصب بمرض مجهول. البقع السوداء والحمى الشديدة هما أعراض التسمم بنبتة الإنديل. كيف انتهى بك الأمر إلى تناول الإنديل؟”
“أنا تناولت الإنديل……؟”
اتسعت حدقتا العمدة واهتزتا باضطراب. كانت ملامحه المذهولة دليلًا على أنه لم يتناوله بإرادته.
‘بالطبع، لا يمكن أن يكون العمدة قد تعمد تسميم نفسه وهو يعلم مدى خطورة الأمر.’
صحيح أن بعض جامعي الأعشاب يجربون السموم لبناء مناعة، لكن العمدة كان دائم الحرص على صحته.
منذ أن أصبح أرملًا وتكفل بتربية بايسر، كان يردد دائمًا أنه لا يريد أن يصبح عبئًا على ابنه.
حتى لو تناوله دون قصد، فمن المستبعد أن شخصًا خبيرًا بالأعشاب مثله لم يتعرف على الإنديل.
“سيدي العمدة، هل تناولت أي شيء مريب قبل ظهور الأعراض؟”
“كحة! كحة!”
في اللحظة التي هممت فيها بطرح سؤالي، بدأ العمدة يسعل بعنف وكأنه يتعرض لنوبة.
أصابني الذعر عندما رأيت جسده ينتفض كما لو كان على وشك الاختناق.
كان الأهم الآن هو تجاوز هذه الأزمة أولًا.
“سيدي العمدة، اصمد قليلًا……!”
من دون تردد، التقطت ورقة من الإنديل وركضت بسرعة نحو المطبخ.
***
“هاه……”
بعد أن وقفت طويلًا أمام النار، خرجت من الكوخ أمسح جبيني، وقد احمر وجهي من الحرارة.
“لوسينا!”
بينما كنت ألتقط أنفاسي في الهواء البارد، اندفع سكان القرية الذين كانوا متجمعين أمام الكوخ نحوي.
اقترب مني بائع الفاكهة، الذي كنت أعرفه، وسأل بحذر،
“كان صوت سعال العمدة مرتفعًا. ماذا حدث؟ هل أصبح بخير الآن؟”
“يبدو أنه تجاوز الأزمة. شرب الدواء ونام بوجه هادئ.”
“أحسنتِ، لوسينا! هكذا تردين الجميل!”
ضربة-!
‘أوه……مؤلم.’
ضربني بائع الفاكهة على ظهري بيده الخشنة المليئة بالندوب.
اقترب سكان القرية من نافذة الكوخ، يراقبون حالة العمدة بقلق.
“لا داعي للقلق، لن يكون المرض معديًا، يمكنكم الدخول إن أردتم.”
“إ- إذاً، هل ندخل؟”
بمجرد أن أنهيت كلامي، امتلأ الكوخ بسكان القرية الذين تطوعوا لرعاية العمدة، مما جعله يعج بالحركة.
ابتسمتُ بهدوء، ثم التقت عيناي بعيني بايسر، الذي لم يبدُ مرتاحًا بعد.
“سيتجاوز هذه المرحلة لبعض الوقت، لا تقلق كثيرًا.”
“هذا مريح……”
تنهد بايسر بارتياح، ثم انهارت قواه قليلًا وانحنى مستندًا على ركبتيه.
بعد وفاة والدته، لم يتبقَّ له من العائلة سوى العمدة، لذا كنت أدرك تمامًا كم كان قلقًا طوال الليل.
“شكرًا لكِ، لوسينا. أنا سعيدٌ لأنكِ أتيتِ.”
رفع رأسه لينظر إليّ بابتسامة متألمة، وكأنه على وشك البكاء.
“لكن، بالمناسبة، هل عرفتَ لماذا تناول العمدة الإنديل؟”
“أنا أيضًا كنت أتساءل عن ذلك، ففكرت فيه بينما كنتِ تبذلين جهدكِ، لكنني لم أستطع استيعابه على الإطلاق. الشيء الوحيد الذي بقي في ذاكرتي هو……”
اعتدل بايسر في جلسته وأخذ يدلك جبهته المجعدة بأطراف أصابعه وهو يحاول استرجاع ذكرياته.
“الآن وقد فكرت في الأمر، لقد قال إنه التقى بسائح أثناء جمع الأعشاب في الجبل، وقد أعطاه ذاك السائح كعكة ليسد بها جوعه.”
“التقى به في الجبل؟”
ضيقتُ عينيّ بشك غامض.
فالسفر كان في العادة ثقافة تخص النبلاء ذوي المناصب الرفيعة، ونادرًا ما يصعد نبيل إلى الجبال بقدميه.
خاصةً في منطقة مخصصة لجمع الأعشاب، لا في معلم سياحي بارز.
“كيف كانت هيئة ذلك السائح؟”
“أمم……لا أتذكر جيدًا، لكنني سمعت أنها كانت نبيلة طيبة القلب، وهو أمر نادر……آه.”
“ما الأمر؟”
“قال والدي أن ذراعها تحمل وشم صقر، وهو ما لم يكن ملائمًا لمظهره النبيل. وجدتُ الأمر غريبًا، لذا تذكرته.”
“ماذا……؟”
شعرتُ بقشعريرة تسري من أسفل ظهري حتى مؤخرة عنقي كموجةٍ باردة.
وشم الصقر هو رمز العائلة المالكة لمملكة تيدان.
هذا يعني أن السائح الذي أعطى الكعكة للعمدة لم يكن سوى الساحرة، التي هربت من شبكة تحقيقات العائلة الامبراطورية كجرذ متخفي.
لقد استغلت العمدة لإخراجي من القصر الإمبراطوري.
لا بد أنها أدركت أنني لن أتمكن من البقاء هناك إذا علمتُ أن الشخص الذي أعتبره كوالدي طريح الفراش بمرض خطير.
“هل يعقل هذا حقًا……؟”
متى كنتُ أخشى الساحرة؟ الآن، لم أشعر إلا بالغضب يغلي بداخلي.
أعلم أن توقع الاحترام للحياة من ساحرة تسعى لنهب الأجساد وتدمير العالم هو ضربٌ من الترف، لكن بعد أن تلاعبت بروبلين ثم بالعمدة، لم أستطع كبح غضبي.
ربما كان كاليكس محقاً. و كأنه رأى المستقبل عندما ترك لي ذلك التحذير قبل رحيله.
“هل هذا عقابٌ لعدم استماعي لكاليكس؟”
تمتمتُ بابتسامة باهتة، متجاهلةً الشعور بالندم أو تأنيب الضمير.
لكن الشيء المؤكد الآن هو أن الساحرة تستهدف جسدي، وأنني وسكان القرية لسنا في مأمن.
قبضتُ يدي بقوة وحدّقتُ في الفراغ بعزم.
‘بما أنني قد وقعتُ في الفخ، فالهرب لن يجدي نفعًا وسينتهي بي الأمر بالوقوع في قبضتها. إذاً، عليّ أن أحوّل هذا الفخ إلى فرصة.’
“بايسر.”
التقت عيناي بعينيه المتصلبتين وهو يراقبني.
“ما الأمر؟ لماذا تبدين جادةً هكذا، لوسينا؟”
جاء صوته محملًا بالقلق.
كنتُ أحمل في نظراتي عزماً واضحاً، وقد أدرك بالفعل أن هناك أمرًا غير عادي.
لا أريد أن أسبب له مزيدًا من المتاعب، خاصةً بعد أن كاد يفقد والده بسببي، لكنني بحاجة ماسة إلى مساعدته.
“هل يمكنكَ مساعدتي؟”
توهجت عينا بايسر باضطراب واضح.
***
في مكتب يوكار، تصاعدت طاقة المانا في الأرجاء، وسرعان ما بدأت صورة ظلية تتجلى بهدوء.
بينما كان يوكار يعلق الإطار على الحائط وهو يهمهم بأغنية خفيفة، فزع فجأة وأسقط الإطار.
“كيف، كيف حضرتَ بهذه السرعة؟ ألم تقل أن الرحلة ستستغرق ثلاثة أيام على الأقل؟ كنتَ تقول البارحة فقط إنك ما زلتَ في عملية البحث……”
تنهد كاليكس ببطء، وعبس بينما فك رباط عنقه.
“كان مجهودًا ضائعًا. ذلك المكان كان منطقةً مهجورة تغزوها الحيوانات البرية في جميع الفصول ما عدا الشتاء. وعندما استجوبنا موظفي مكتب التحقيقات، قالوا أنهم تلقوا معلومات غير موثوقة.”
هز كاليكس رأسه بتوتر بينما ضغط لسانه بين أسنانه.
“إذاً، أين لوسينا؟”
نظر ببرود إلى مكتب يوكار.
تجنب يوكار نظراته بسرعة وأخفى الإطار خلف ظهره كما لو كان يحاول إخفاء دليل.
“قالت إنها متعبة وستنام مبكرًا.”
كان كاليكس يحدق بصمت في نافذة يوكار خلفه.
في تلك الظهيرة، كانت أشعة الشمس تتدفق بقوة، مما جعل الغبار على الرفوف يبدو بوضوح.
رفع كاليكس حاجبه قليلاً.
“عذرٌ غير مقنع.”
كان يوكار يبدو متوترًا، فلم يعد عقله يعمل كما كان.
عبر عن استياءه وهو يضم ذراعيه، ثم مال برأسه بشكل مائل.
“ما الذي يحدث هنا؟ ماذا تخفي؟”
“أ……هذا……”
كان يوكار يحك خده محاولًا التحدث، ولكن قبل أن يتمكن من ذلك، بدأ الضجيج يتسرب من وراء باب المكتب.
“يا هذا، بايسر! حتى وإن كنت أنت، يجب عليك اتباع الإجراءات الرسمية لرؤية المستشار! كنت أظن أننا لا زلنا نحتفظ بعلاقة قديمة، لكن أين هو فخرك وكرامتكَ كفارس؟”
“هل تتصرف وكأنكَ جاهل!”
“الحياة أكثر أهمية من الكرامة!”
ثم فُتح الباب فجأة، ودخل بايسر وهو يسحب فرسانًا أوقفوه من ذراعيهم كما لو كانوا كلابًا.
كاليكس الذي لم يستطع حتى أن يضحك من المشهد المذهل. أغمض عينيه بشدة وضغط على رأسه.
“يوكار، اشرح لي الوضع.”
“أنا أيضًا……”
في تلك اللحظة، دفع بايسر الفرسان بعيدًا وتقدم بخطوات واسعةٍ حتى وصل الى كاليكس.
رفع يديه المرتكزتين على ركبتيه و تحدث وهو يضغط على قبضة يده.
“لم يكن هناك خيار آخر في هذا الوضع العاجل. أرجو أن تعذر قلة أدبي، جلالتك.”
“لم أظن أننا على علاقة تسمح لنا بتبادل التحيات بشكل مريح.”
“جلالتك، لوسينا في خطر.”
بدأت العيون الحمراء التي كانت مخفيةً تحت الجفن في الظهور ببطء.
كانت النظرة التي غلب عليها الملل تتلألأ كوحش تحت ضوء الثريا.
“ماذا قلتَ للتو؟”
مع الكلمات التي تلتها، خرج كاليكس من المكتب بسرعة.
***
“هاه.”
تردد تنفسي الخشن في أذني.
“لم أكن أعلم أنني فقدت هذه القدرة على التحمل.”
القصر الإمبراطوري كان يقتصر على مساحة صغيرة، وكان الحركة فيه محدودة. بسبب ذلك، كان مستوى لياقتي البدنية قد تراجع بشكل ملحوظ مقارنةً بالفترة التي كنت أمارس فيها جمع الأعشاب بنشاط.
كنت أشعر بالأسى تجاه لياقتي البدنية المتدهورة، لذلك أسرعت في خطواتي محاولةً الابتعاد عن القرية بأقصى ما أستطيع.
“يبدو أن هذا يكفي.”
وضعتُ شعري المبلل بالعرق خلف أذني وتوقفت لأستريح بجانب الجدول.
استعدتُ أنفاسي في الجدول، ثم نظرتُ إلى الطريق الذي سلكته.
كنت قد اشتريت سحر الانتقال من وكالة سحرية خاصة في ضواحي المدينة، وأرسلتُ بايسر إلى القصر الإمبراطوري. لذلك، لن يمر وقت طويل قبل أن تصل فرقة البحث.
كان من السهل على بايسر، الذي كان حارسًا سابقًا في القصر، أن يلتقي بيوكار.
لكن من المحتمل أن يستغرق وقتًا طويلاً قبل أن يقود يوكار فرقة التحقيق للبحث عني.
كان عليّ أن أكسب بعض الوقت حتى ذلك الحين. وفي تلك اللحظة، لفتت انتباهي الكهف على الجانب الآخر.
كان كهفًا جبليًا محاطًا بأغصان أشجار دائمة الخضرة، وكان هناك حجر ضخم مغطى بنقوش غريبة، يغلق المدخل كما لو كان بابًا.
كنت قد ثبتت عينيّ على الكهف وبدأت في النهوض وكأنني في حالة شبه غيبوبة.
لأن……
‘كيف يمكن أن تنبعث رائحة الإنديل من ذلك الكهف…؟’
حملت الرياح رائحة الإنديل الكثيفة لدرجة جعلتني أشعر بالدوار.
خطوتُ بخفة، مقاومةً التيار الضعيف، وأنا أعبُر الجدول في حالة شبه مسكونة متجهةٍ نحو الكهف.
كانت المشاعل على جانبي الكهف تنير الطريق.
بينما كنت أدخل بحذر وأنا أتكئ على الجدران، نزلتُ على الدرج المنخفض وتوقفت عن التنفس أمام المنظر الذي واجهته.
“ها هنا……هنا……”
كان مشهد الفراشات تطير بين أشجار الإنديل أمرًا غير واقعي.
كنت غارقةً في التحديق حتى قبضت يدي بشدة على البروش الذي كنت أعلقه على صدري، لدرجة أن يدي شحب لونها.
لقد تواصلت مع كاليكس طوال اليومين الماضيين، لذا أصبحت الطريقة مألوفة بالنسبة لي.
و من البروش، توهج ضوء ذهبي خافت.
تنفستُ بعمق وأطلقتُ صوتًا مرتجفًا.
“جلالتك، إنها لوسينا. أنا آسفة……لم أتمكن من الوفاء بوعدي.”
لم يرد كاليكس. و ابتلعتُ مشاعري الملطخة باللوم وأطلقتُ صوتًا مرتجفًا آخر.
“جلالتك، لقد اكتشفتُ مخبأ الساحرة ومنطقة زراعة الإنديل. هنا هو……”
فجأة، برق سيف قاتل وطار خنجر ليشطب خدي ويغرس نفسه في الأرض.
و سقطت بعض خصلات شعري المقطوعة بفعل الخنجر.
__________________________
وش ذا المصايب اي ورا بعض 😭
شكل بايسر يضحك وهو داخل والجنود متمسكين فيه😂 ولا احد طبعاً توقع ان كاليكس بيكون هناك
المهم شكل لوسينا دخلت مكان مب طالعه منه الا بضربه منا ولا منا
كاليكس بدل لاي ينجن عشانه درا انها راحت هينغتون بينجن اذا سمع صوتها من البروش 😘
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 89"