“هاهاها، يا للعجب! يبدو أنكم لا تعرفون أسعار قرية البحر. هذا السعر أكثر من كافٍ، بل إنه كريمٌ منّي.”
كان برِيد يتفجّر ضحكًا وهو يمرر يده على لحيته الخشنة، نبرةُ صوته تحمل استهتارًا خفيًّا.
“سيرينا، من هذا النبيل الوسيم؟ هل تعرفينه؟”
تلك اللهجة العفويةُ المألوفة التي اعتادت عليها من برِيد جعلت توتّر سيرينا يخفّ، وشعرت للحظة أن الأمر ليس بتلك الخطورة.
“إنه قريبٌ لي… يقيم عندنا الآن للراحة والعلاج.”
قالت سيرينا بابتسامةٍ مرتبكةٍ، وهي تمسك بذراع سيون بخفة، غير أنّه لم يبدُ راضيًا؛ نظر إليها بوجهٍ معقودِ الحاجبين، وكأنّ العالم ينهار أمام عينيه.
“أكنتِ تبيعين اللؤلؤ بهذا السعر دائمًا؟”
“……نعم.”
زفر سيون ضحكةً مُرّةً قصيرة، ثم تنهد طويلًا، كأنه لا يصدق ما يسمع.
“هاه….”
بعد لحظةٍ قال برِيد بنبرةٍ واثقةٍ، “أيها السيد الغريب، السوق يعج بالأسماك والمحار. وأنا، وقد قضيت ثلاثين عامًا في هذه المهنة، أفهم الأسعار أكثر من أي وافدٍ حديثٍ مثلك.”
لكن سيون لم يتراجع. عيناه اشتعلتا ببرودةٍ مميتةٍ وهو يرد:
“إذن، معنى كلامك أن أحدًا آخر لن يشتريه بأكثر من هذا الثمن؟”
وقبل أن يُكمل برِيد دفاعه، كان سيون قد خطف كيس اللؤلؤات من يده بخطوةٍ سريعةٍ صارمة، ثم انطلق به إلى متجرٍ آخر من دون أن يلتفت.
شعرت سيرينا بالذعر يسري في أوصالها، فسارعت خلفه. أما برِيد فقد شحبَ وجههُ كالأشل، واندفع يركض خلفهما وهو يصرخ: “ما، ما الذي تفعله أيها المجنون!”
لكن الأوان كان قد فات، إذ كان سيون قد وصل بالفعل إلى تاجرٍ آخر، ورفع الكيس أمامه.
“انظر إلى هذه اللآلئ. كبيرة، ناصعة، مدوّرة. قيمتها لا تقل عن ألف رات على الأقل.”
شهق التاجر الآخر بدهشةٍ بالغة، لكن برِيد ركض ليلحق بهما وهو يصيح مرتجفًا: “شش! اخفض صوتك!”
مدّ يده ليوقفه، غير أن سيون قبض على ياقة سترته بقبضةٍ فولاذيةٍ فحبسه مكانه. التفت التاجر الآخر بدهشةٍ أكبر وقال:
“ها أنتَ إذًا يا برِيد! هذه لآلئ سيرنا؟ يا فتاة، أين وجدتِ محارًا بهذه الجودة؟”
لكن سيرينا لم تستطع الإجابة. كانت عيناها تهتزّان وشفاهها ترتجف بلا صوت، بينما قلبها يتقلب بين الخوف والخذلان.
قال سيون بصوتٍ حادٍّ يسمع صداه السوق كلّه: “هذا الوغد قد عرض مقابلها مئة رات فقط. حتى لو اقتطعنا عمولةً، فذلك رقمٌ مُخجل.”
صرخ التاجر الآخر بذهول: “ماذا؟! غير معقول!”
أما برِيد فقد حاول أن يفلت من قبضة سيون، يهتف بتوسلٍ: “لا! هذا سوءُ فهم! مجرد سوء فهم!”
غير أن السوق قد بدأ يغلي. الناس تجمّعوا كالسيل، عيونهم متسمّرة في المشهد. وجود سيون المهيب ووسامته جعلت الأمر أشبه بمحاكمةٍ علنية، وارتفعت رؤوس الباعة من كل الدكاكين.
“كم سنةً ظللتَ تسرقها؟” صوته كان كحدّ السيف وهو يجلجل في وجه برِيد.
“هاها! سرقة؟ لا تبالغ يا رجل، قد يُسيء الناس فهمك!” قال برِيد محاولًا التظاهر بالمرح، لكن العيون من حوله صارت سهامًا تقتلع أقنعته.
أعاد سيون الكيس إلى سيرنا وقال بصرامة: “أخبِريني، كم بعتِ له من اللؤلؤ طوال تلك السنوات؟”
ارتجفت أطرافها كلها وهي تفهم الحقيقة البشعة، لم تستطع الكلام. عندها تدخل أحد المتفرجين:
“سيرينا تبيع في السوق منذ خمس سنوات على الأقل.”
فصاح آخر بعد حسابٍ سريع: “إذن سرق منك ما لا يقل عن خمسين ألف رات!”
اشتعل الحشدُ ضجّة، وصيحات الذهول ترددت في الأرجاء.
“لا! لم يكن الأمر هكذا دائمًا! في البداية لم تجلب سيرنا لآلئ كثيرة! في الشتاء لم تأتِ إطلاقًا!” كان برِيد يحاول تبرير نفسه بيأس، لكن العيون لم ترحمه.
‘لقد انكشف أمري… إن أدركوا أنّ الأمر متعمّد فسأُسحق!‘ كان يلعن نفسه سرًا، يمسح العرق المنهمر من جبينه.
حاول أن يتدارك، فأخرج من محفظته المرتجفة أوراقًا ماليةً وقال وهو يمدّها نحو سيرنا: “سيرينا، صغيرتي… سامحيني. هذا ألف رات! أقسم أنني لم أكن أعلم بسعر السوق. صدقيني!”
لكنها لم ترَ أمامها سوى خيانةٍ مُركّزةٍ في وجهه. ابتسمت بسخريةٍ يائسةٍ، وقالت بمرارةٍ تجرح: “ثلاثون عامًا من الخبرة في هذه السوق، وتقول إنك لا تعرف سعر اللؤلؤ؟!”
أطلق الجمع شهقاتٍ مستنكرة، فيما ارتمت الكلمات كسياطٍ على وجهه.
“كيف استطعت أن تخدعني؟ كنتُ أظنك عمي… كنتُ أصدقك حين قلتَ إنك ستعطيني أفضل الأسعار مقابل أن أتعامل معك وحدك!”
ارتبك، عجز عن الردّ، وصوته يتهدّج: “أنا… أنا لم أقصد…”
لكن سيون قطع تردده بصرخةٍ لاذعة:
“لقد التهمت عرقها باسم الاتفاق! كنتَ تعلم أنّها لا تعرف الأسعار، فاستغليت جهلها. هذا ليس اتفاقًا بل سرقة.”
حاول برِيد أن يتمسك بآخر خيطٍ من كبريائه، يهتف: “لا! كنتُ أشتري منها باتفاقٍ صريح، وإذا وافقتْ على السعر فلا يحق لها أن تعترض بعد الآن!”
لحظةً من الصمتِ ترددت في الحشد. لم يجِد أحدٌ ردًّا، فاكتفوا بزمّ الشفاه والتأفف.
ظنّ برِيد أنّه ربح الجولة، فارتسمت ابتسامةٌ صغيرةٌ على وجهه المبلّل بالعرق.
لكن صوت سيون ارتفع فجأةً، باردًا كالقدر، قاطعًا الهواء كالبرق:
“حجةٌ تافهة. أهذا ما اعتدتَ عليه؟ الاحتيال المتكرر على السوق بأسرها؟ يبدو أنّ الوقت قد حان لتفتيشٍ شامل.”
تفوَّه سيون بنبرةٍ باردةٍ، والتقت عيناه الحادَّتان بعيني تاجرِ النبيذ الذي كان يتفرَّج من بعيد.
وما إن انتشرت منه تلك الهالةُ الجليديَّة حتى بدا أنّ الهواء من حوله قد انخفضت حرارته دفعةً واحدة. فبعضُ التجار الأذكياء التقطوا الأمر سريعًا، وأدركوا أنّ هوية هذا الرجل ليست بالهيِّنة.
صحيحٌ أنّه تنكَّر في هيئةٍ متواضعةٍ وثيابٍ وضيعة، غير أنّ الشموخَ الكامن في حديثه، والفخامةَ المنبعثة من سلوكه، والهيبةَ التي تكسو أجواءه، لم يكن في مقدور أي شيءٍ أن يُخفيها.
فماذا لو أنّه فكَّر في رفع شكوى إلى الحاكم الإداري؟
سوف يُقلبُ السوق بأسره رأسًا على عقب، وذلك أمرٌ لم يكن أيٌّ من التجار يرغب فيه. فمن كانت في تجارته ثغرات، بل وحتى من كان يتصرَّف بشرفٍ وصدق، أيقن أنّ الشرارة ستصيب الجميع لا محالة، فشحذوا حواسَّهم وأخذوا الحيطة.
وبين غمضة عينٍ وأخرى، اتّحدت قلوبهم في شعورٍ واحدٍ، متقدةٍ بلهيب العدالة.
“بريد! أما تخجل؟! أليس فيك ذرّة من خُلق السوق؟!”
“نعم! أهذا ما يليق برجلٍ بلغتَ من العمر ما بلغت؟! لسنواتٍ وأنتَ تسلب رزق هذه الفتاة المسكينة؟!”
“أيُّ وقاحةٍ وجرأةٍ تلك؟! ما أشدَّ دناءتك!”
تطوَّر الأمر كالنار في الهشيم؛ بدأ بتطويق التجار لبريد وإغراقه بالاتهامات، ثم ما لبثت النقابة التجاريّة أن تدخلت لتضع حدًّا للفضيحة.
فما كان من بريد إلّا أن أخرج كلَّ ما يملك من مال، ودفعه تعويضًا لسيرينا قبل أن يلوذ بالفرار من السوق. غير أنّ القانون لم يستطع أن يطالَه؛ إذ لم يكن هناك عقدٌ مكتوبٌ أو وثيقةٌ تثبت الغش، بل كان الأمر قائمًا على اتفاقٍ شفهي.
لكن في قريةٍ صغيرةٍ كهذه، سرعان ما تنتشر الأخبار كاللهب، ولن يكون لبريد مكانٌ يعود إليه بتجارةٍ نزيهةٍ مرّة أخرى. وهذا كان عزاءً باهتًا لسيرينا.
“سيرينا… أأنتِ بخير؟”
“إن احتجتِ إلى عونٍ، فلا تترددي أن تُخبِرينا.”
هكذا حاول بعض التجار مواساتها بعد أن طردوا بريد، لكنهم في الوقت ذاته كانوا يرمقون سيون بحذرٍ ووجل، ثم انصرفوا متفرّقين.
رغم أنّ الفوضى قد هدأت، بقيت سيرينا عاجزةً عن رفع رأسها. كانت قبضتُها تمسك أوَّل مرةٍ بكيسٍ ممتلئٍ بالذهب، غير أنّ شفتيها لم تفعل سوى العضِّ على نفسها كابتسارٍ للغصَّة.
كان غضبها من بريد قد خفَّ قليلًا لأنّ أهل القرية ثاروا لأجلها، لكن الخزي لم يبرح صدرها. كم كانت حمقاء حين قَبِلت لسنواتٍ طويلةٍ ثمنًا بخسًا! كم بدت مغفّلة وهي تبتسم راضية بما هو في الحقيقة غدرٌ صريح!
سنواتٌ وهي لا تشكُّ ولا تراجع نفسها. أليس هذا قمة البلادة؟ ولو أنّها فقط أمعنت النظر قليلًا، لكانت رأت الحقيقة.
وحين امتدَّ تفكيرها إلى جدتها ومي، انفجر صدرها بالمرارة.
لو أنّها باعت اللآلئ بثمنها العادل طَوال خمس سنوات، لما اضطرت جدتها العجوز أن تُرهق جسدها المريض بالعمل، ولكان باستطاعتها أن تُوفِّر المال لإرسال ماي إلى الأكاديمية منذ زمن بعيد.
‘ماذا سأقول لجدتي الآن؟’
وهكذا، كانت كلُّ خطوةٍ في طريق عودتها تحمل وطأةَ الأغلال الثقيلة، كأنّ قدميها مكبّلتان بالحديد.
“سيرينا… أتَبكين؟”
سألها سيون بهدوء، وهو يسير خلفها متأمّلًا كتفيها المرتجفتين ورأسها المنحني، كأنّ خصلات شعرها أُسدِلَت ستارًا لتُخفي وجهها.
“……أنا لا أبكي.”
لكنها كانت تعلم أنّها أكثر ما تكون خزيًا، لأنّ الذي أعاد إليها حقَّها وانتصر لها هو سيون نفسُه.
إنّه أمرٌ يستحق الشكر والامتنان، ومع ذلك لم تستطع.
كم ستبدو حمقاءً أمامه؟ كم سيبدو منظرها مثيرًا للشفقة؟
لقد كان من المفترض أن يكون هذا اليوم يومًا مختلفًا؛ يومًا تبيع فيه اللآلئ، وتشتري مؤونةً وفيرة، وتُطعم سيون وجبةً عامرة. فكيف انقلب إلى هذه الفضيحة المهينة؟
كلَّما ازدادت دموعها غشاوة، ازداد قلبها اضطرابًا.
“ارفعي رأسكِ.”
“……لا أريد.”
فجأةً، قبض سيون على معصمها وأوقفها في مكانها.
وحين التقت عيناها بعينيه، انحلّت القيود التي كبَحت دموعها، فجرت مدرارًا على وجنتيها. حاولت أن تمسحها بساعدها بعنف، فإذا بالكيس واللآلئ تتناثر أرضًا بصوتٍ مدوٍّ.
انتفضت مبتعدةً عنه، كأنّها تفرُّ من قبضته، لا تريد أن يرى ملامحها المشوَّهة بالدموع.
عندها انحنى سيون على ركبته، وجمع المال واللآلئ المتدحرجة بيديه، ثم رفع رأسه إليها.
وفي عينيه اشتعل بريقٌ لم ترَه من قبل قط… وهجٌ أزرقٌ حادٌّ، كالسيف حين يلمع تحت ضوء البرق.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات