في صباح اليوم التالي، لم يتخلَّ سيون عن عزيمته، بل تبِع سيرينا من جديد نحو البحر، كأنّ البحر قد أصبح قدرًا يجمعهما.
“ألم يقل الطبيب إنّ عليك أن تخلُد إلى الراحة؟ أليس الأجدر بك أن تبقى مستلقيًا اليوم؟”
ابتسم سيون ابتسامةً خفيفة، وأرخى قُبَّعته القشّية التي اشترتها له. كان يحمل على كتفه حصيرًا، كأنّه خرج في نُزهة هادئة لا في رحلة نقاهة.
“الراحة؟… كنتُ أنوي أن أستلقي على الشاطئ.”
أطرقت سيرينا برهةً ثم تمتمت متردّدة:
“إن كانت ماي ستُزعجك، يمكنني أن أُقفل باب الغرفة عليك، فتنعَم بالسكينة.”
لكنّه قاطعها بنبرةٍ حاسمة لا تحتمل النقاش:
“هَيّا بنا.”
لم يُعر كلماتها اهتمامًا، بل دفعها دفعًا خفيًّا إلى المضيّ أمامه. فتساءلت في داخلها: أحقًّا ينوي أن يلازمها كل يومٍ على شاطئ البحر؟ شعورٌ غريب أخذ يتفتّح في صدرها ببطء، كزهرٍ يشرق مع فجر الربيع.
سارت حيث نصبت فخاخ الأمس، بينما ظلّ سيون يتبعها بخطواتٍ وادعة، يحافظ دائمًا على مسافةٍ ثابتة لا تقلّ عن ثلاث خطوات. حتى حين أبطأت كي تسايره وتفتح معه حديثًا، كان يجيبها ببرودٍ مقتضب، ثم يعود فيترك المسافة كما كانت. ذلك الحذر… كان أشبه بقطٍّ شاردٍ لا يعرف الأمان. ولعلّها طبيعة من فقد ذاكرته. ومع ذلك، لم تستطع أن تمنع شعور الوحشة من التسرّب إلى قلبها.
وفجأة أيقظها صوته من شرودها:
“إلى أين؟ لقد وصلنا.”
رفعت رأسها، فإذا بهما أمام الصخرة ذاتها حيث وُضع الفخّ. وكان داخله مفاجأة:
“أوه… أخطبوطان!”
أحدهما كبير مكتنز، وإلى جانبه صغير يلتصق به كظلّه.
تقدّم سيون، شَمّر عن سرواله، ونزل إلى الماء يتأمّل الفخّ بعينٍ فضولية.
“لم أرَ أخطبوطًا حيًّا من قبل.”
رفعت سيرينا حاجبها بدهشة:
“وكيف عرفت أنّك لم تره من قبل؟”
توقّف لحظة، ثم قال بصوتٍ خافتٍ متردّد:
“منذ فقدتُ ذاكرتي… أعني.”
ابتسمت برفق، كأنّها تُسامحه على زلّة لسانه:
“إذًا، بهذا المنطق… كلّ ما تراه الآن هو الأوّل لك، أليس كذلك؟”
التقطت الأخطبوط الصغير بحذر، وأعادته إلى البحر.
“لِمَ تركتِه؟”
“لأنّه صغير بعد، يكفينا الكبير وحده.”
لكن كلماته التالية جعلتها تتجمّد في مكانها:
“ربّما كانا أمًّا وصغيرها.”
شهقت وهي تحدّق في الماء بارتباك:
“آه… لم يخطر لي ذلك… هل كنتُ قاسية إذ فرّقت بينهما؟”
ضحك بخفّة، مُبدّدًا قلقها:
“كنتُ أمزح. الكبير يبدو شهيًّا بما يكفي.”
تنفّست سيرينا الصعداء، وعاد شيءٌ من البسمة إلى محيّاها.
“هل تحبّ أطباق الأخطبوط؟”
“رُبّما…”
فكّرت قليلًا ثم قالت بحماس:
“إذا طهيناه مع البهارات الحارّة، سيكون المذاق رائعًا! صحيح أنّني لا أُكثر الفلفل لأجل ماي، لكنّه يظل لذيذًا.”
“أظنّ أنّه سيكون شهيًّا بالفعل.”
“وهل تُحبّ الطعام الحار؟”
“رُبّما…”
كانت إجاباته القصيرة تعكس ضياع ذاكرته، غير أنّها في نظرها بذور صغيرة لذكرياتٍ جديدة. فليكن ماضيه مُثقَلًا بالظلال، لكنّ المهم أن تُبنى من الآن لحظات تستحق أن تُحفَر في القلب.
وبينما غاصت في أفكارها، كان سيون يحاول بيدين خرقاء وضع الطُّعم في فخٍّ جديد.
ضحكت سيرينا بخفّة:
“لا، لا! لا نتركه في المكان نفسه. يجب أن نغيّر الموضع لنصطاد أكثر.”
زمّ شفتيه باستياء:
“ولِمَ لم تقولي ذلك قبل أن أتّسخ؟”
سارا معًا نحو الساحل الآخر، حيث يمتدّ البحر على شكل هلالٍ يحتضن القرية البعيدة. هناك نصبت الفخاخ من جديد، ثم التفتت إليه مبتسمة:
“سأغوص قليلًا، استرح أنت.”
“حسنًا.”
قفزت سيرينا إلى الماء بخفّة، بينما تمدّد هو على الحصير في الظلّ، ألقى بجسده مستسلمًا، ووضع القبّعة على وجهه يحجب بها النور.
وحين عادت مثقلة بالصيد بعد وقتٍ، وجدته غارقًا في نومٍ عميق، صدره يعلو ويهبط بهدوء.
“يا للعجب… أكان يحتاج إلى النوم لهذه الدرجة؟”
جلست بجانبه، تُصغي إلى وقع الموج وتتأمّل ملامحه المسترخية. لم يمضِ سوى يومين، ومع ذلك صار هذا الغريب يملأ حياتها ثِقَلًا لا يمكنها إنكاره.
‘مَن أنت يا سيون؟ أميرٌ ضائع؟ أم جُندي جرفته الأمواج؟’
تطايرت قبعته قليلًا مع نسمات البحر، فمدّت كفّها لتثبيتها. لكن فجأة… قبض على معصمها بقوّة!
شهقت:
“أأنتَ مستيقظ؟!”
كان ردّه حادًّا، أشبه بجنديٍ يفيق وسط المعركة. ثم ما لبث أن تركها بعدما أدرك الموقف.
“لم أنم إلا بعمقٍ شديد… كأنّني لو خُطفتُ الآن لما أدركت شيئًا.” قالها بابتسامةٍ باهتة وهو يمسح وجهه.
أجابت برقّة:
“هذا جيّد. فالنوم نصف الدواء، أليس كذلك؟”
لكنّها كانت تدرك في أعماقها أنّ القُرب بينهما قد ازداد أكثر ممّا تحتمل. فانتفضت واقفة، تُزيح الرمل عن ثوبها بتوتّرٍ مُفتعل:
“هَيّا… لنعد.”
تأمّلها سيون صامتًا للحظة، ثم نهض بدوره، طوى الحصير ومدّ يده نحوها كأنّه يطلب منها أن تترك له الحمل.
“لا حاجة، أستطيع حمله.”
ابتسم ابتسامةً ساخرة هادئة:
“ولِمَ تُتعبين نفسك سُدًى؟… سلّميه فحسب.”
تحوّل شدّ وجذبٍ صغير بينهما إلى مطاردة أشبه بلعبة «الغُمّيضة»، وانتهى الأمر – كما هو معتاد – بأن تُسلب سيرينا ما بيدها. فذلك السيّد المتعجرف لم يعرف في حياته معنى التنازل.
وفي مساء ذلك اليوم، وُضِع على المائدة طبقان من حساء البحر: أحدهما صافٍ هادئ الطعم، والآخر حارّ متّقد.
أوفى سيون بكلمته حين قال من قبل إنه ربّما يُحب الأخطبوط والأطعمة الحارّة؛ فأفرغ الطبق عن آخره، بلا قطرةٍ متبقّية.
“……لذيذ.”
كانت تلك الكلمة البسيطة أوّل ما يخرج من فمه على المائدة منذ بدأت تشاركه وجباتها. إطراءٌ مقتضب، ألقاه كأنّه صدقة، ومع ذلك وجدت نفسها متأثّرة به أكثر مما ينبغي.
“لحسن الحظ إذن.”
ثم ابتسمت سيرينا ابتسامة مشرقة لا تستطيع لها دفعًا.
⋆。°✩
في اليوم التالي قادت سيرينا سيون إلى أسفل منحدرٍ صخري يجاور البحر، حيث تصطف أعمدة البازلت السوداء في منظرٍ أخّاذ. لم يكن الغوص هناك أمرًا يسيرًا، فالمكان كثير الصخور، غير أنّه من أجمل المناظر التي تعتزّ بها.
رأت عينيه تلمعان وهو يتأمل الكهوف البحرية، وإن لم يُبدِ انفعالًا صريحًا، فأدركت أنّ المشهد قد ترك في نفسه أثرًا عميقًا، وشعرت بالزهو.
وبعد أن عادا إلى الدار وتناولا العشاء، سألها سيون إن كان لديهم كتب. فاصطحبته إلى الطابق العلوي، حيث تقع مكتبة صغيرة في آخر الرواق. انتقى من بين المجلّدات القديمة المكدّسة بالتراب بضعة كتب، وجلس إلى الطاولة. جلست سيرينا بدورها في الجهة المقابلة ومعها كتابٌ التقطته على عجل، ليتشاركا سكينة القراءة.
لكنّ السكون لم يدم طويلًا. إذ اقتحمت ماي الغرفة ملوّحةً بكتابٍ مصوّر:
“أنا أيضًا! اقرأوا لي كتابًا!”
قالت سيرينا بلهجةٍ حازمة:
“اصمتي يا ماي.”
“ليس عدلًا! تلعبان معًا دائمًا! أنا أيضًا أريد! أريد أن تقرأوا لي!”
لم يكن هذا التذمّر غريبًا؛ فصباح اليوم نفسه، ألحت الطفلة على مرافقتهم إلى البحر، ولما رفضت سيرينا أخذها، اعتبرت الأمر إقصاءً متعمّدًا.
“ليس الآن، لاحقًا.”
حاولت سيرينا أن تلمّح لسيون بعينيها لتُخرج الطفلة، لكن ماي راحت تلوّح بذراعيها القصيرتين في اعتراضٍ غاضب. أجل… تلك هي عناد السنوات الستّ.
وبينما كانت سيرينا تفكّر في جرّها بالقوّة، إذا بسيون يُغلق كتابه فجأةً بصوتٍ حاسم.
“أيتها الصغيرة.”
صوته كان منخفضًا، لكنّه مشبع بسلطانٍ غريب. حتى ماي التي لم تخشَ أحدًا، ارتبكت وتوقّفت في مكانها.
“هل تملكين الشجاعة لتعلّمي نفسكِ الحروف؟”
كان سؤالًا غير متوقّع. سيرينا ظنّت أنّه سيوبّخها أو يطردها، لكنّه عرض عليها تعليمًا.
“……أحقًّا يا أمير؟ ستعلّمني الحروف؟”
“نعم. لكن مقابل شرط واحد: أن تقرئي كتبكِ بنفسكِ من الآن فصاعدًا.”
“حسناً!”
مرّت ساعة واحدة فقط، فإذا بماي تقرأ كلماتها الأولى.
“في ليلة واحدة فقط تعلّمتِ القراءة…” تمتمت سيرينا بدهشة وهي ترى الطفلة تتلعثم في قراءة القصة وحدها.
قفزت ماي بحماسة، تهتف:
“يجب أن أقرأها لجدّتي أيضًا!”
وانطلقت مهرولة من المكتبة والكتاب بين يديها.
تنهدت سيرينا قائلةً:
“كان ينبغي أن أعلّمها منذ زمن… إنها ذكية حقًا أكثر مما تخيّلت.”
لطالما رغبت أن تلتحق ماي بالأكاديمية لتتلقى التعليم على أصوله، لذلك لم تتولَّ هي مهمّة تعليمها. لكنها الآن أدركت أنها لو جرّبت مبكّرًا، لكانت الطفلة سبقتها بخطوات.
فقال سيون وهو يتكئ للخلف كمنتصر:
“الفضل لمعلّمٍ بارع، لا أكثر.”
ابتسمت سيرينا نصف ابتسامة، وقالت مازحة:
“لقد شرحتَ لها ببساطة مذهلة… هل أنت واثق أنّك فاقد الذاكرة فعلًا؟”
ردّ ببرود:
“الذاكرة شيء… والذكاء شيء آخر.”
كان غروره يثير غيظها، لكنها لم تملك إلّا أن تعترف في سرّها بصدقه. بل وأكثر من ذلك، فقد لاحظت أنّه – رغم تظاهره بالانزعاج – يعرف كيف يلين مع الأطفال ويجذبهم بسهولة. ربما كان يحبّهم، أو ربما عاش بينهم طويلًا.
“لعلّ لك أخًا صغيرًا في مكانٍ ما يا سيون…”
لم تكد الكلمة تنزلق من بين شفتيها حتى تجمّد وجهه فجأة، وانطفأت ملامحه كما لو أصابها جرحٌ قديم.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات