سُحِبَ سيون بغير حولٍ منه، كأنّما تُجرُّ خطواته على الأرض جرًّا، حتى دَخلا صَرحَ العِيادة. كان المكان هادئًا، فالمرضى قلائل.
ومع أنّه ظلّ يُصرُّ على ارتداء قبعته حتّى داخل المبنى، إلّا أنّ سيرينا انتزعتها منه حين دخلا غرفة الفحص.
رمق الطبيب، وهو رجل في منتصف العمر، ملامحَ سيون مليًّا ثم عدّل نظارته بعناية.
“المريض… كأنّي قد رأيتك من قبل في مكانٍ ما…”
وقبل أن تُبادر سيرينا بالرد، خشية أن يكون الطبيب يعرفه، قطع سيون الموقف ببرود:
“عالِجْني فحسب.”
خلع ثيابه في طرفة عين، وفكّ الضمادات الملطّخة بالدم. عندها تحوّل اهتمام الطبيب إلى موضع الجرح.
انفتحت الكدمة التي لم تُشفَ بعد، يفيض منها الدم ثانيةً، والضمادات قد احمرّت من شدّة النزف.
أطلقت سيرينا شهقةً حادةً مكبوتة، وقد تبيّن لها حجم فداحة الأمر.
“يا إلهي… لا بُدّ أن نُخيط الجرح على الفور.”
تأهّب الطبيب بسرعة، يهيّئ أدوات الخياطة.
“أيُّ سلامةٍ هذه! لو لم نأتِ الآن لهلكتَ!” صاحت سيرينا، وقد تلاشى ما كانت تظنه مجرّد عنادٍ منه.
بينما كان وجهها قد شحب من الذعر، بدا سيون ساكنًا، كأنّه لا يعنيه شيء.
“لا تُبالغي.”
أيُعقَل؟! كان ينزف من بطنه حتّى يوشك أن يُفارق الحياة، ومع ذلك ظلّ يتجوّل معها في الأسواق لشراء القبعات! بل ورفض العيادة بكل إصرار!
رمقته سيرينا بغضب وهو يتبع الطبيب بخطًى وئيدة إلى غرفة المعالجة. بقيت هي في الخارج، تنتظر بقلقٍ شديد.
لم يكن يجب أن تُصدّق قوله إنّه بخير وتتركه ساعاتٍ طويلة دون علاج. لا بدّ أنّ الألم كان يُمزّقه، ومع ذلك قاوم فقط ليتجنّب العيادة… لكن لِماذا؟
وبعد قليل، خرج سيون بنفس هدوئه، لم ينبس بأدنى أنين.
ركضت إليه سيرينا تعاتبه بلهفة:
“لو علمتُ أنّ الأمر بهذا السوء، لذهبتُ بك إلى العيادة فورًا! لماذا لم تُخبرني؟!”
ولحق بهما الطبيب، مكمّلًا:
“هذا الشاب… أصيب في رأسه أيضًا. يقول إنّه لا يتذكر شيئًا. أيمكن أن يكون هذا السبب؟”
سارعت سيرينا، قبل أن يمنعها سيون، بإفشاء الأمر:
“نعم، إنّه يعاني فقدانًا في الذاكرة!”
أرسل إليها سيون نظرةً قاتمة كأنّه يلومها على الوشاية، غير أنّها تماسكت وقالت بهدوء:
“لقد وعدتني أن تتلقّى العلاج كما ينبغي.”
زفر بضيق، ثم جلس أمام الطبيب.
تفحّص الطبيب رأسه بعناية ثم قال:
“مجرّد كدمة. ليست خطيرة.”
تنفّست سيرينا الصعداء.
“لكن… فقدان الذاكرة؟”
أجاب الطبيب:
“يحدث أحيانًا حتى مع إصاباتٍ طفيفة، خاصّة إن رافقها صدمة نفسية. لا حاجة للضغط، سيعود إليه تدريجيًّا مع الراحة.”
“……انتهى الآن؟” قطع سيون الحديث، غير عابئ بكلمات الطبيب المواسية. خطف قبعته من يد سيرينا وغادر الغرفة مسرعًا.
اعتذرت سيرينا بلباقة:
“أرجو المعذرة على تصرّفه.”
ابتسم الطبيب وهو يقدّم لها بعض الأدوية والضمادات:
“لا بأس. لكن… لقد بدا ضعيف القوى حين فحصتُ نبضه، مع أنّ بنيته تدلّ على أنّه كان شديد البأس. لا شك أنّه تعرّض لطارئٍ خطير.”
أجابت سيرينا متردّدة:
“ربّما كارثة أو حادث… أظن أنّ إصاباته حدثت حينها.”
هزّ الطبيب رأسه بتفكير:
“بل لعلّ الأمر أعمق من ذلك… أشعر أنّ بعض أعضائه الداخلية قد تضرّرت. على أيّ حال، أعيديه بعد أسبوع لأُتابع حالته.”
“نعم، شكرًا جزيلاً.”
دفعت سيرينا الأجر، غير آسفة على المال، فقد كان الاطمئنان على حياته أغلى بكثير.
وحين خرجت، وجدت سيون ينتظرها متذمّرًا:
“لِمَ ذكرتِ أمر فقدان الذاكرة؟ وما بالكِ أطلتِ الحديث هناك؟”
“لأنّ فقدان الذاكرة يحتاج علاجًا أيضًا.” ردّت بجدّية، لكنها كتمت عتابها الآخر، فقد كان من الواضح أنّه يُعاند حتى على حساب جراحه.
وبينما استرجعت صورة جسده الموشوم بالكدمات، لم يفارق ذهنها كلام الطبيب عن وهنٍ داخلي ينهش قواه.
قال سيون ببرود:
“من الآن فصاعدًا، إن سأل أحد عنّي، فقولي إنّي مجرّد قريب لك جئتُ للراحة.”
“……حسنًا.”
أذعنت أخيرًا. لم تعد ترى فيه شابًا مترفًا مدلّلًا كما ظنّت أول مرة، بل شخصًا يكتنفه ماضٍ غامض، وربما مأساوي.
لعلّ امتناعه عن استرجاع ذكرياته أو الحديث عن أصله ليس إلا درعًا يحمي نفسه به. وإن كانت تلك الذكريات أشدّ ظلمًا من أن تُحتمل، أليس النسيان أهون؟
لكن… إن كان هو من ألقى بنفسه في البحر عمدًا؟
ارتعشت أوصالها من الفكرة.
ربّما كان ما تفعله الآن مجرّد تدخّلٍ أحمق في ما لا يعنيها.
سارا معًا في صمت نحو البيت، يحافظ سيون على مسافة ثلاث خطوات خلفها كما فعل صباحًا.
وعندما بلغا الساحل، كانت الشمس الحمراء قد انحدرت خلف الأفق، ترسم على البحر ثوبًا من نورٍ ذهبيٍّ دافئ، يلمع فوقه بريق الموج المتلألئ.
لكن حين التفتت سيرينا، لم تجده بجوارها. كان قد توقّف في مكانه، مُستسلِمًا لسحر المشهد، عيناه عالقتان بالبحر.
ابتسمت بخفوت:
“أليس جميلاً؟ إنّه منظري المفضّل.”
فأجاب بصوتٍ خافتٍ ناعم:
“……نعم. جميل.”
ظلّت سيرينا تُطيل النظر إلى سيون، وهو يُبدي انقيادًا هادئًا، غير مُمانع. وفي بريق عينَيه الزرقاوين، كأنّما كان يلمع خيطٌ خفيّ من حُزنٍ ووحشةٍ موغلة في البُعد.
تساءلت في نفسها: كيف يكون شعور المرء لو أنّه لا يذكر حتى مَن يكون؟
بل وتُرك في أرضٍ غريبة، لا أُنسٌ فيها من أهلٍ أو صديق، تائهًا بين وجوهٍ لا يعرفها.
بمجرّد أن تخيّلت ذلك، شعرت سيرينا بدوارٍ مُفاجئ، وارتجف قلبها حتى كادت أن تبكي.
إنّ الوحدة قاتلة، وفقدان الجذور أشبه بأن يُقتلع المرء من أرضه ويُزرع في صحراء قاحلة.
عاد الاثنان من القرية وقد أرخى الليلُ سدوله، والظلال تزحف على الطرقات.
رفعت سيرينا كُمّيها، عازمةً أن تُقدّم هذه الليلة طعامًا أفضل من ليلة الأمس. فشَوَت السّمك الذي اصطادته في الصباح، وأعدّت حساء الطماطم مطعّمًا بشتى أنواع ثمار البحر، وأخرجت الخبز الطازج من السوق، وأرفقته بشرائح لحمٍ مُدخّن وجبنٍ وأطباقٍ صغيرة من المربّى، مع عصير العنب البنفسجي الداكن.
وما لبثت المائدة أن ازدانت بألوانٍ تبعث الدفء، تفوق ما أعدّته بالأمس.
صفّقت ماي بفرح، وجلست مبهورة أمام ما بدا لها مأدبةً صغيرة.
ضحكت جودين، ثم التفتت إليهما:
“أخبراني، هل عرفتما شيئًا جديدًا في القرية؟”
هزّت سيرينا رأسها نفيًا.
“لا أثر لشائعات عن سفينة غارقة، ولا عن ناجين.”
ثم أضافت، وهي تنظر إلى سيون بحذر:
“على أيّ حال… أخبرتُ الناس أن هذا الرجل اسمه سيون، وهو الآن ابنُ خالٍ بعيد، جاء ليمكث عندنا للراحة.”
قطّبت جودين حاجبَيها:
“ابنُ خالٍ؟ لِمَ تختلقين مثل هذه الكذبة؟”
سكتت سيرينا، لم تجد جوابًا.
لكنها تمتمت بعد لحظة، وقد لان صوتها:
“لم يمضِ سوى يومٍ واحد بعد. الطبيب قال إنّ جرحه أعمق مما ظننّا. فلا داعي لإثقاله بالأسئلة، يا جدتي العزيزة.”
ساندت سيرينا سيون في صمته، فتراجعت جودين على مضض.
وبينما جلسوا إلى المائدة، ظلّ سيون يتناول الطعام برصانةٍ راقية، كما فعل ليلة البارحة.
حتى الخبز، لم يُقضمه بيدَيه، بل قطّعه بسكّينٍ حادّ بانتظامٍ مثيرٍ للإعجاب.
رفعت سيرينا يدها مرتبكةً، وقد شعرت بالحرج من مقارنته بها. وضعت قطعة الخبز المدهونة بالمربّى على الطبق دون أن تأكلها.
سألتها ماي ببراءة:
“أختي… لِمَ تستخدمين السكين فجأة لتقطيع الخبز؟”
تلعثمت سيرينا، ثم قالت لتخفي ارتباكها:
“هكذا هو الصحيح. الطعام يُؤكل بالأدوات.”
وضعت شوكةً كبيرة تحمل قطعة جبن في فم ماي، ثم عقّبت ممازحة:
“ها قد تعلّمتِ. انظري إلى تصرّفاته، فهو مثالٌ للذوق الرفيع. وأنتما الاثنان… لا تعلمان شيئًا سوى الحرية المفرطة!”
قهقهت جودين من كلامها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مازحة.
تلاشت أنفاس الضحك مع انقضاء المساء، وسكنت الدار حين غرق الجميع في النوم.
جلس سيون عند النافذة، ينساب خيط القمر على شعره فيجعله فضيًّا كالحرير. دفع النافذة بصعوبة، فانفتح أمامه مشهد البحر في الليل.
كان البحر الأسود العميق يمتد بلا نهاية، كمرآةٍ واسعةٍ تعكس بريق السماء المُرصّعة بالنجوم.
وأصوات الموج، خافتةً ورقيقة، صارت لحنًا موسيقيًّا يهدّئ روحه.
تذكّر البحر الوحيد الذي رآه في طفولته، يوم ظنّه أجمل ما قد تراه عيناه… لكنّه الآن بدا باهتًا ضئيلًا أمام بهاء بحر “إكيتـه”.
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ صغيرة. متى آخر مرة استلقى على الرمل بطمأنينة؟ متى آخر مرة مدّ قدميه في راحةٍ دون خوف؟
يا له من أمرٍ غريب… أن يجد السكينة لا في قصره المذهب، بل في هذه الأرض النائية حيث لا يعرفه أحد.
مدّ يده إلى جيبه الداخلي، وأخرج شيئًا صغيرًا. كانت تلك القلادة المزيّنة بشعارٍ ملكيّ، تلك التي أعادتها له سِيرنـا صباحًا.
أخذ يمرّر أصابعه على النقش البارز بعينَيه الحادتين. وتحوّل وجهه من ابتسامةٍ ساكنة إلى قسوةٍ متجمّدة.
سيون… أو بالأحرى تاسيون، أمير مملكة كالستايـن.
ملاحظة : كلمة “تاسيون” هي اسم إنجليزي له أصل فرنسي ويعني “الحماسة” أو “النار”.
قبض على القلادة بقوةٍ تكاد تُحطّمها، وعيناه تشعّان بالصلابة.
تمتم بصوتٍ خافتٍ حادّ:
“أسبوعٌ واحد…”
جفّ دفء ابتسامته، وخيّم على ملامحه بردٌ كالليل.
“أسبوعٌ واحد فقط…”
لم يكن معلومًا لِمَن يوجّه عهده، ولا ما الذي كان يقسم عليه. لكن كلماته وقعت كالوعد الغامض، أو كوعيدٍ يلوح من بعيد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات