5
عادت سيرينا إلى منزلها، وبعد أن رتبت حصاد يومها بعناية، اغتسلت وهيأت نفسها من جديد، لتصحب سيون معها إلى القرية.
قال الشاب بلهجة متثاقلة، وكأنه يريد التملص:
“ليس هناك داعٍ للذهاب إلى القرية أصلاً.”
لكن سيرينا لم تستسلم لاعتراضه؛ أخذت تلاطفه بكلمات دافئة، ثم ألحّت عليه حتى رضخ أخيرًا، فخرج معها على مضض.
سارا بمحاذاة الساحل، والريح البحرية العذبة تعصف بخصلات شعرهما، حتى وصلا إلى مدخل قرية إكيتِه؛ قرية صغيرة تطل على البحر، ليست كبيرة لدرجة تُسمّى مدينة، لكنها تعجّ بسوق نابض بالحياة وشوارع مزدهرة، تشبه لؤلؤة زرقاء على شاطئ الزمن.
هناك، اشترت سيرينا صحيفة من صبيّ يبيع الجرائد. قلّبتها سريعًا بعينيها، تبحث بين العناوين عن أي خبرٍ حول سفينة غارقة أو ناجين من حادثٍ في البحر، لكنها لم تجد شيئًا. بالكاد طوت الجريدة حتى خطفها شِيّون من يدها.
سألت مبتسمة:
“تريد قراءتها؟ هل تجيد القراءة أصلًا؟”
رمقها بنظرة حادة وقال بامتعاض:
“أتظنينني أبله؟”
لم تكن سيرينا تقصد الإهانة، بل كان سؤالها بدافع الفضول، غير أنّ ردة فعله الجافة جعلتها تتساءل: كيف فقد ذاكرته وما زال يحتفظ بالقدرة على القراءة والكتابة؟ بل حتى آدابه وسلوكه الرزين يوحيان وكأنها محفورة في أعماق روحه.
أهو حقًا مصاب بفقدان الذاكرة؟ أم أنه يخفي أمرًا أكبر من ذلك؟
تركت حيرتها جانبًا، ثم قصدت قاعة القرية حيث يجتمع العمدة وكبار السنّ. هناك سألتهم عن حطام سفينة أو ناجين محتملين، لكنهم جميعًا هزّوا رؤوسهم: لا أخبار، لا أثر.
عادت سيرينا إلى الخارج، لتجد سيون غارقًا في قراءة الصحيفة بسرعة مدهشة. وقفت تتأمله مليًا، ثم همست وكأنها تفكر بصوت مرتفع:
“ربما لم تنقلب السفينة أصلًا… ماذا لو أنك فقدت توازنك وسقطت وحدك من على سطحها؟”
قطّب حاجبيه وقال بنبرة جافة:
“منذ البارحة وأنتِ تعاملينني كصبيّ ساذج.”
“لكنك لا تتذكر شيئًا، أليس كذلك؟ إذًا قد يكون الأمر كما قلت.”
لم تكن تسخر، بل كانت تحاول أن تحلل بجدية، غير أن كلمتها أزعجته بشدة، فارتسمت على جبينه خطوط الغضب.
قال بحزمٍ قاطع:
“مستحيل.”
ثم أغلق الصحيفة وطواها، ورفعها فوق رأسه كمن يقي نفسه من الشمس، وكأنه يحاول حجب ملامحه عن أنظار المارة.
حينها فقط انتبهت سيرينا إلى أنّ العيون كلها تتجه نحوه خلسة. كيف لا؟ لقد كان طويل القامة بشكل لافت، يتجاوز أغلب الرجال برأسٍ كامل، ووسامته الفاتنة كافية لتجعل كل من يمرّ يلتفت مرتين. وفي قرية نائية لا تطأها أقدام الغرباء عادة، بدا حضوره حدثًا غير مألوف.
ابتسمت سيرينا بتوتر وقالت:
“لنذهب إلى ذلك المطعم. صاحبة المكان تعرف كل صغيرة وكبيرة، وقد نسمع منها شيئًا. كما أنّ الوقت مناسب لتناول الغداء أيضًا.”
لم يعلّق سيون، لكن صمته كان موافقة ضمنية، فدخلت سيرينا أولاً.
رحّبت بها صاحبة المطعم بمرح، ثم وقعت عيناها على الشاب الوسيم خلفها، فاتسعت دهشة وجهها كمن عثر على كنز.
“سيرينا! من هذا؟ أهو… حبيبكِ الجديد؟”
ارتبكت سيرينا وأخذت تلوّح بيديها نافية:
“لا! ليس كما تظنين. هذا هو…”
غير أنّ يدًا قوية ودافئة باغتتها من الخلف، لتسدّ فمها وتمنعها من الكلام. ارتجفت من المفاجأة، وعجزت عن الحركة.
قال سيون ببرود، ونبرة لا تحتمل النقاش:
“اسمي سيون. أنا ابن خالٍ بعيد… أقيم مؤقتًا عند سيرينا.”
تصلبت ملامح سيرينا، ليس فقط من كذبه الصريح، بل من دفء كفه الملتصق بشفتيها، ومن صدره العريض الذي التصق بظهرها عن غير قصد، حتى شعرت بأنفاسها تختلّ. لم تعتد على أي تماس مع الرجال، فكان ذلك القرب كأنه نار تحرق وجنتيها، حتى خال لها أن الدماء تتدفق إلى أذنيها.
صاحت صاحبة المطعم بدهشة:
“يا للعجب! كان عندكِ قريب بهذا الجمال ولم تخبرينا؟!”
أفلت سيون يدها عندها، فسارعت سيرينا إلى تبرير مرتبك:
“صحيح… قريب بعيد جدًا من جهة جدتي… سيقيم معنا قليلًا ليستعيد عافيته.”
ابتسمت السيدة وقالت بلطف:
“أحسنتِ. هذه القرية أنسب مكان للراحة. اجلسْ واعتنِ بنفسك يا سيد سيون.”
ثم قادته إلى طاولة جانبية، وقدمت له قائمة الطعام.
انحنت سيرينا أمامه بامتعاض وهمست بعد أن جلست مقابله:
“ما الذي كان ذلك؟! كيف تقول إنك قريبي؟”
رفع حاجبه باستخفاف وقال:
“أما قلتِ إنني قريب بعيد من صلة جدتكِ؟ أليست تلك صلة قرابة أيضًا؟”
تنهّدت بغيظ:
“لكن كان عليّ أن أشرح الحقيقة لصاحبة المطعم، فهي تعرف كل الأخبار في هذه المنطقة.”
ردّ ببرود:
“لا حاجة. دعي الأمر هكذا.”
“ماذا؟! لكن إن شاع بين الناس أنك قريبي، قد يضلّ طريق من يبحث عنك!”
أمسك بمعصمها فجأة حين حاولت النهوض وقال:
“لن يبحث عني أحد. ليس هنا على الأقل.”
تراجعت مترددة، فيما هو تصفح القائمة بهدوء واختار أبسط وجبة: بيض مخفوق مع خبز محمّص وبضع شرائح لحم.
قالت له بدهشة:
“تستطيع أن تطلب شيئًا أفضل بكثير.”
لكنّه لم يغيّر رأيه. وبينما كانت تواسي نفسها بأن الأقدار أنقذتها من دفع ثمنٍ باهظ، فوجئت بصاحبة المطعم تضع أمامهما شريحة ستيك فاخرة لم يطلباها.
“سيدتي، هذا ليس ما طلبنا.”
ابتسمت السيدة بحنو وأجابت وهي تلوّح بيدها:
“أوه، دعوه عليّ! الضيف بحاجة إلى تغذية جيدة ليستعيد عافيته. اعتبروها خدمة.”
كادت سيرينا تذوب خجلًا من كرمها، بينما اكتفى سيون بابتسامة خافتة وانحناءة رقيقة، جعلت وجه السيدة يحمرّ وهي تغادر بخطوات سريعة.
هل هذا هو سحر الوسامة؟ مجرد ابتسامة منه تكفي لتذيب قلب امرأة ناضجة؟
انغمسا بعد ذلك في الطعام، وتذوقت سيرينا لحمًا طريًا لم تذق مثله منذ زمن بعيد، فابتسمت بسعادة غامرة.
وبعد أن فرغا من وجبتهما، خرجا من المطعم، وصاحبة المكان تودعهما بضحكات ودودة وإشارات بيدها.
سارت سيرينا بخطى متباطئة، وفي قلبها يقين: غدًا ستغمر القرية كلها شائعة جديدة… أنّ لي قريبًا بالغ الوسامة أتى من بعيد.
‘إلى أي مدى عليّ أن أواصل البحث؟‘
ذلك السؤال ارتطم بجدار قلب سيرينا وهي تنظر إلى رفيقها سيون، الذي بدا باردًا كالجليد، لا يمدّ لها يدًا ولا يعينها بخطوة. كل ما في ملامحه كان صمتًا معاندًا، يزيد ثِقَل رحلتها. وبينما الحيرة تكاد تخنقها، أشرق فجأة بريق في عينيها، وكأن فكرة جديدة انبثقت من بين ظلمات اليأس.
“آه! تذكرت!” قالت وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة أمل، “القلادة التي وجدتها هذا الصباح… لو عرضناها، ربما يعرفها أحد، وقد يدلّنا على شيء!”
لكن صوته جاء باردًا، قاطعًا الرجاء:
“فقدتُها.”
تجمدت الكلمات على شفتيها.
“ماذا؟!”
أيُعقل أن القلادة، التي أوصته بنفسها قبل ساعات قليلة أن يحافظ عليها، قد اختفت بهذه السرعة؟ قلبها اهتزّ بعاصفة من الاستياء والخيبة.
وكأنه لم يقل شيئًا مهمًا، أدار بصره إلى الجهة الأخرى وقال بلا اكتراث:
“أهذا هو السوق؟”
ثم عبر الطريق بخطوات ثابتة، متجهًا إلى السوق حيث كانت سيرينا تبيع اللؤلؤ والثمار البحرية. بقيت هي واقفة في مكانها، تحدّق في ظهره الواسع بذهول ممزوج بالغضب.
كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذه اللامبالاة، بينما أنا أبذل قصارى جهدي لمساعدته؟
صرخت بصوت مسموع خلفه:
“هل حقًا أضعْتَ القلادة؟!”
كانت الكلمات كشرر يتطاير، كأنها تقول: أنت من فقد ذاكرته، لكنني أنا من أكاد أفقد صوابي!
أما هو، فتوقف عند متجر للملابس وأخذ يتأمل القبعات بفتور. السوق كله كان ينظر إليه بعيون فضولية، بعضهم يتهامس، وآخرون توقفوا كليًا لمشاهدته، كأن وسامته الساحرة حدثٌ يستحق الوقوف عنده.
“أظن أنني بحاجة إلى قبعة.” قال ببرود.
ردت سيرينا بإصرار، عيناها تلمعان بقلق:
“أجبني أولًا! هل ضيّعت القلادة أم لا؟!”
مدّ يده وأخذ قبعة واسعة الحافة، بينما اقتربت منه سيرينا دون تفكير، تتحسس بيدها جيبه حيث وضع القلادة في الصباح. ارتبك فجأة، وانسحب خطوة إلى الوراء بعينين متسعتين:
“إلى أين تضعين يدكِ؟!”
فتشت المكان بعجلة، لكن الجيب كان فارغًا فعلًا. لم تكن حججًا أو أعذارًا… لقد ضاعت القلادة حقًا.
شهقت وهي تهمس:
“يا إلهي… سيون، لم أخبرك من قبل، لكن النقش على تلك القلادة… إنه شعار العائلة المالكة.”
رفع حاجبًا بفتور وقال وكأنه يسمع خبرًا تافهًا:
“حقًا؟”
كاد صدرها ينفجر من الغضب:
“وهذا يعني أنك قد تكون أميرًا، أو على الأقل شخصًا مقرّبًا من البلاط الملكي!”
لكنه اكتفى بابتسامة باهتة وقال ببرود جارح:
“ومن قال إنها تخصّني أنا؟”
ذلك اللامبالاة كانت كطعنة في قلبها. أي رجل في العالم لو سمع أنه قد يكون ذا صلة بالعرش، لاهتزّ كيانه، إلا هذا الرجل. كأن ماضيه كله لا يعنيه، كأنه يرفض أن يعرف.
ثم وضع القبعة على رأسه. كانت من القشّ العريض، فغطّت ملامحه بنصف ظلّ غامض، حتى اختفى بريق وسامته وراء الحافة.
التفت إليها بابتسامة خفيفة وقال:
“كيف ترين؟ أتناسبني؟”
تنهدت من أعماقها، كمن يعترف بهزيمته:
“…نعم، تليق بك.”
رغم بساطة القبعة، بدا فيها أشبه بصياد وسيم أكثر منه أميرًا ضائعًا، لكن على الأقل قلّلت من نظرات الناس نحوه. فهمت عندها أنه لا يحتمل لفت الأنظار، تمامًا كما قال البارحة إنه يكره الزحام.
قال وهو يشدّ القبعة أكثر على رأسه:
“سأردّ لكِ ثمنها لاحقًا. ادفعي الآن.”
أطلقت سيرينا زفرة طويلة، ثم دفعت الثمن نيابة عنه. أي جرأة هذه! رجل لا يعرف من أين جاء ولا إلى أين يذهب، ومع ذلك يأمرها وكأنه سيد المكان.
لكنه لا يريد أن يلتقي الناس… لا يريد أن يُعرَف… فكرت وهي تحدق فيه بصمت.
أدركت أن لا جدوى من الاستمرار اليوم، فلو كان المعنيّ بالأمر نفسه يرفض، فما نفع محاولاتها؟ بل إن إصرارها قد يكون عبثًا.
التفتت إليه وأعلنت بجدية كأنها تعقد معه ميثاقًا:
“حسنًا، إن كنا سنوقف البحث الآن… فعلى الأقل عليك أن تتلقى العلاج بانتظام. هذا وعد.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"