4
قالت سيرينا بصوتٍ خافتٍ متردّد، وكأنها تتلمّس طريقها بين الكلمات:
“سيون؟! أهذا الاسمُ… خطر لك فجأة؟ هل تذكّرته؟”
أجاب الرجل الغريب، وعيناه تلمعان بشيءٍ من الغموض:
“ربّما… كان قريبًا من ذلك. اسمًا يشبهه على الأقل.”
ابتسمت سيرينا برفقٍ حائر وقالت:
“إذن، فليكن كذلك. سأدعوك سيون من الآن فصاعدًا.”
✦
لم تكن متأكدة هل كان هذا استرجاعًا صادقًا للذاكرة أم محض تسميةٍ عابرة، لكنها وجدت في الاسم بساطةً غير متوقَّعة، ودفئًا غريبًا لا يليق بمهابة ملامحه القاسية، ومع ذلك كان اسمًا يسهل النطق ويبعث الأُلفة.
قالت سيرينا بصوتٍ أكثر ثقة:
“بالمناسبة… اسمي سيرينا. وجدّتي تُدعى جودين. أما أختي الصغيرة… فهي ماي.”
كانت تدرك أنه سمع هذه الأسماء من قبل، لكنّها أرادت أن تُعرّف نفسها بصدقٍ ورسميّة هذه المرة.
رفع سيون حاجبيه قليلاً ثم قال:
“ليست أختكِ من الدم… أليس كذلك؟”
ابتسمت سيرينا في استسلامٍ خفيف:
“أوه، هل لاحظت ذلك بسهولة؟”
فالحقيقة واضحة، فلا شبه يربط بينهما؛ شعر سيرينا بنيّ يميل إلى الذهبي وعيناها بلون الغابات المبتلة، بينما ماي بشعرٍ قرمزيّ كاللهب وعينين حالكتين كسواد الليل.
تابعت سيرينا بنبرةٍ مشوبةٍ بالعاطفة:
“ماي… عثرت عليها طفلةً رضيعة على شاطئ البحر قبل خمس سنوات. تركها القدر هناك، فتبنيتها كأختي الصغرى.”
رفع سيون طرف فمه ساخرًا:
“أنتِ تجيدين اصطياد البشر من البحر كما لو كانوا أصدافًا.”
ضحكت سيرينا بخفةٍ مشوبةٍ بالحياء:
“أليس كذلك؟ حتى أنا اندهشت حينها. لكن الأمس كان أعجب… أن يُلقي البحر بين يدي فتاةٍ مثلي… رجلاً بالغًا فاقد الوعي.”
ثم غمغمت برجاءٍ:
“لكن… رجاءً، لا تُخبر ماي بعد. دعها تظن أن البحر لا يزال يحمل لها المعجزات الصغيرة، لا الأسرار الثقيلة.”
نظر إليها سيون طويلاً، ثم سأل فجأةً:
“وأين والداكِ؟”
خفت صوتها، لكنها لم تهرب من الحقيقة:
“رحلا منذ كنت طفلة. خرجا إلى البحر في عاصفةٍ عاتية… ولم يعودا قط.”
ساد صمتٌ رقيق، وانحنت عينا سيون نحوها بنظرةٍ لم تخفَ عنها، خليط من تساؤلٍ وعطفٍ خفيّ.
ابتسمت سيرينا ابتسامةً دافئة، قائلة:
“لا بأس. لقد مرّت أعوامٌ طويلة، وتعلّمت أن أعيش مع الغياب.”
أومأ سيون اختصارًا:
“أفهم.”
لكن سيرينا في أعماقها شعرت بالدهشة؛ فهذا الرجل، الذي يبدو باردًا كصخرٍ لا يتأثّر، يطرح عليها الأسئلة كما لو كان يبحث عن شيءٍ مفقود بداخله هو.
رمقتها عيناه، فتساءلت في سرّها:
‘ترى… كم عمره؟ أهو أكبر مني بقليل فقط؟’
انحدرت نظراتها على ملامحه: من عظمتي الحاجبين القويتين، إلى أنفٍ شامخٍ كنصل، حتى توقّفت عند شفتيه. تلك الشفتان اللتان لمستها بشفتيها بالأمس… فتوهّج وجهها دفعةً واحدة.
أيعلم هو أن بينهما قُبلةٌ عابرة؟!
قُبلة لم تكن سوى نفسٍ مُسعفٍ… إنعاشٍ للحياة، لا للحب. ومع ذلك، قلبها لم يُفرّق.
انتبه سيون إلى نظراتها المتفحّصة، فزمجر ببرودٍ حاد:
“ماذا هناك؟”
ارتبكت سيرينا سريعًا، وأشاحت بوجهها:
“لا… لا شيء!”
فكأن قلبها انكشف.
✦
سارا معًا حتى توقّفا عند ساحلٍ تحيطه الصخور السوداء. أشارت سيرينا إلى المكان وقالت:
“هنا تمامًا… هنا وجدتك.”
ألقى سيون نظرةً متفحّصة، ثم قال:
“غريب… لا شيء يثير الذكرى. لكنه مكانٌ هادئ، كجزيرةٍ مهجورة. يعجبني.”
كان يفترض أن يبدو محبطًا أو قَلِقًا، لكنه بدا ساكنًا، مطمئنًا، كأن النسيان نعمة.
قالت سيرينا بإلحاحٍ دافئ:
“جرّب أن تتذكّر أكثر، لعلّ شيئًا يعود إليك.”
فأجاب وهو يتنفس ببطء:
“…فيما بعد.”
✦
وفجأةً… برق ضوءٌ حادّ، انعكس على عينيها. اقتربت، فانحنت والتقطت شيئًا من الرمال. كانت قلادةً ذهبية، منقوشًا عليها شعار مملكة كالستاين.
شهقت سيرينا، وأصابعها تلمس النقش البارز وكأنها تتحسّس سرًّا خطيرًا. قلبها دقّ كطبول الحرب:
“يا إلهي… أيمكن أن تكون هذه لك؟!”
مدّت القلادة إلى ــسيون. نظر إليها ببرود، ثم أعادها إليها:
“لا أعلم. أخبرتك… أنا فاقد الذاكرة.”
قالت بعينين متسعتين:
“لكن… هذا شعار ملكي! أتعرف ما يعنيه؟”
“لا أعلم شيئًا.”
ارتجف قلبها من الاحتمال: إن كان هذا يخصّه، فهو إمّا أمير من نسل الملوك، أو على أقل تقدير… مقرّبٌ من البلاط الملكي.
همست برجاء:
“احتفظ بها. قد تكشف هويتك يومًا ما.”
فتردّد لحظة، ثم دسّها بإهمال في جيبه. لكن في عيني سيرينا، كان المشهد كأنّ التاج قد ثُبّت فوق رأسه.
❖
تذكّرت سيرينا ضحكة ماي الصغيرة بالأمس، حين نادته “الأمير”. ضحكةٌ بريئة… لكنها الآن تدوي في قلبها كنبؤة.
‘معقول؟ أميرٌ يطفو على لوح خشبٍ في بحرٍ هائج؟! لا، مستحيل…’
لكنّ وجهه، وحضوره، وصرامته… كلها تصرخ بالعكس.
شعرت بمعدتها تنقبض من توترٍ مجهول.
قطع سيون خواطرها وهو يسأل:
“وأنتِ… ما الذي تنوين فعله الآن؟”
أجابت بابتسامةٍ عملية:
“سأنزل إلى البحر. أبحث عن بعض المحار والرخويات… كان هذا قصدي من البداية.”
لكنها لم تُكمل جملتها، متذكرة أنّها أمس قضت وقتها في إنقاذه لا في جمع الرزق. خشيت أن يظن نفسه عبئًا، فآثرت الصمت.
لكنه، بلا اكتراث، قال بصرامةٍ مختصرة:
“افعلي ما تريدين.”
ترددت لحظة:
“سيأخذ الأمر بعض الوقت. هل ستنتظرني؟”
ابتسم بسخرية خفيفة:
“ليس لدي ما أفعله.”
قالت بخجلٍ:
“يمكنك أن تعود للبيت… إن أردت.”
فأجاب قاطعًا:
“هناك… ضوضاء.”
ضحكت سيرينا في سرّها. أجل، وجود جدّتها وماي لا يشبه أبدًا هذا السكون.
فقالت بلطفٍ حار:
“حسنًا، انتظر قليلًا إذن.”
أومأ ببطء:
“خذي وقتكِ.”
ثم اتجه نحو ظل نخلةٍ باسقة، يتمدد هناك. أسرعت سيرنا، فرشت له قطعة قماش فوق الرمال وقالت بعناية:
“اجلس هنا. سيكون أكثر راحة.”
ألقى نظرةً عابرة وجلس. عندها اندفعت سيرينا إلى البحر، والماء يلفّ قدميها ببرودته، بينما قلبها يخفق بشعورٍ لم تعهده من قبل.
لقد فعلت هذا مئات المرات… لكنّ فكرة أن عينيه تتابعانها من بعيد جعلت كل حركةٍ من ذراعيها وسيقانها أشبه برقصةٍ حائرة، مزيجٍ من الحياء والاعتداد.
❖✦✧✦❖
هكذا، غاصت سيرينا من جديد في مياه البحر الضحلة، حيث لا يزال قاعه يلامس قدميها، ثم اندفعت أكثر فأكثر نحو العمق، تغمرها زرقة الماء الصافي الذي يتلألأ كالكريستال تحت وهج الشمس.
كانت تدفع بجسدها الرشيق بين شُعَبٍ مرجانيةٍ تلوّنت بألوان الطيف، تمدّ يديها لتلتقط حيوانًا بحريًا هنا، وصدفةً متلألئة هناك. لم تمضِ سوى لحظات حتى ارتفعت برأسها فوق السطح، وشهقت نَفَسًا عميقًا، غير أن قلبها لم يكن منشغلًا بالصيد بقدر انشغاله بمن ينتظرها على الشاطئ.
وفي كل مرة ترتفع بعينيها لتتأمل الرمال البعيدة، يخيل إليها أنّ نظراتها تتقاطع مع عيني سيون المترفق بظلال النخيل. كان في الحقيقة يحدّق في الأفق المترامي، لكن قلبها أبى إلّا أن يتوهم أنّ عينيه لا تنفكّان عن مراقبتها.
وللمرة السادسة حين فتحت عينيها فوق سطح الماء، فوجئت بالمكان الذي كان يستلقي فيه قد خلا، وكأن نسمة عابرة قد محته من الوجود.
ارتجف قلبها — هل رحل عائدًا إلى البيت بلا كلمة؟ أم يا ترى… هل ابتلعته الأمواج؟
تجمدت أنفاسها، والقلق كاد يخنقها. فتحت فمها منادية بصوت مرتجف:
“سيون؟!”
ثم ارتفع صوتها أكثر، مرتعشًا من الفزع:
“سيون!”
أجالت بصرها في الأرجاء، تتخبط بين احتمالٍ وآخر، حتى باغتها صوته الواثق، هادئًا، يأتيها من بعيد:
“لماذا تصرخين؟”
التفتت سريعًا، فإذا به يقترب بخطوات ثابتة، قادمًا من ناحية الصخور السوداء.
زفرت زفرة حارّة وقد استعاد قلبها نبضه:
“أين كنت؟ لقد أفزعتني!”
أجابها ببرودٍ عابر وهو يشير بيده:
“كنت أتفقد المكان هناك لا أكثر.”
وضعت يدها على صدرها محاولة تهدئة ارتجافه:
“ظننت أنك… لا أعلم… اختفيت فجأة فأصبت بالذعر.”
ابتسم بسخرية خفيفة وقال:
“كل هذا في لحظة؟ لست طفلًا تُرك عند حافة ماء، فلا تقلقي.”
رفعت حاجبيها بدهشة، غير أن ابتسامة صافية أفلتت من بين شفتيها رغماً عنها. بدا لها غاضبًا متجهمًا، لكنه في عينها طفلٌ كبير، تائه بلا ذاكرة.
وحين فرغت من عصر خصلاتها المبللة، أفرغت ما التقطته من البحر في سلةٍ معدنية. كان حصادها أقل بكثير من المعتاد، لكن لحسن الحظ أنّ شِباكها أسرت بعض السمك وجراد بحر ممتلئ اللحم، فتنفّست ارتياحًا.
اقترب سيون وألقى نظرة على الغنيمة:
“كل هذا ستطهونَه الليلة؟”
ضحكت برفق وقالت:
“لا، نأخذ حاجتنا فقط. والباقي نبيعه في السوق. أما اللآلئ التي نجدها في المحار، فتباع بأثمانٍ لا بأس بها.”
أومأ برأسه بفتور، كأن الأمر لا يعنيه، فقالت وهي تنهض:
“هيا بنا إلى القرية، نبحث عن أخبار السفينة الغارقة، و… لتعرض جرحك على الطبيب.”
قطّب حاجبيه وقال بصرامة:
“لا حاجة.”
أصرّت وهي تحدق في عينيه:
“لكن إن تأذى أكثر فستندم. لا أريد أن يتفاقم الأمر.”
ثم رفعت السلة لتضعها على كتفيها، لكن فجأة مدّ سيون يده، ليحول بينها وبين ذلك.
“أعطِنِي. سأحملها.”
حاولت الرفض بلهجة لطيفة:
“لا داعي، ليست ثقيلة. أنا معتادة.”
إلا أنه شدد نبرته:
“قلت أعطِنِي.”
ضحكت بتوتر وهي تصرّ:
“صدقني، قوتي تكفي. لا تقلق.”
تغيرت عيناه، وصارت أكثر حدة وهو يردف:
“وهل تظنين أنّ الأمر عن قلق؟ لا. إنما… لا يليق برجل أن يدع امرأةً تمشي إلى جانبه وهي تحمل الأحمال. حتى لو لم يرَنا أحد.”
سحرها صوته الحازم، رغم اعتراضها:
“لكنّك جريح… يجب أن ترتاح.”
فأجابها بابتسامة جانبية باردة:
“ولم أقل قبل قليل إني بخير؟”
وما لبث أن انتزع السلة من يديها رغم احتجاجها الطفولي، وألقى بها فوق كتفه العريض بخفةٍ مدهشة.
شهقت:
“ماذا تفعل؟!”
قال دون أن يلتفت، بخطوةٍ واثقة تتقدم على الرمال:
“انتهى النقاش. فلنذهب.”
وتعثرت خطوات “سيرينا” خلفه، وجهها يحترق بحرارةٍ غامرة. لم تعتَد يومًا أن يُعامِلها أحد كسيّدة مدللة، وها هي تتلمّس وقع الكلمة في قلبها كخفقٍ مضطرب.
والشمس فوقهما ترسم ظلالًا قصيرة متلاصقة، بينما مداعبة الموج تلثم آثار أقدامهما، كأن البحر نفسه يغار من هذا القرب الآسر.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"