قدّمت سيرينا إناءً من الماء الدافئ، ومعه ثياب أبيها الراحل، وتركته عند باب الحمّام.
وما إن فرغت من إعداد العشاء، حتى خرج الرجل من الداخل، وقد جفّف جسده على عجل وارتدى الثياب. لم يفعل أكثر من أن يزيل عن بدنه آثار الملح والدم، غير أنّ وسامته ازدادَت إشراقاً، وكأنّ الاغتسال وحده قد صقَل ملامحه وأعاد إليها بهاءً مفقوداً.
تحت الأكمام الفضفاضة بانت معاصمه وكاحلاه العريضتان، وبين فجوة القميص غير المزرَّر لاحَت الضمادات البيضاء التي لُفَّت حديثاً حول جراحه.
قالت جودين بغلظةٍ أخفت تحتها قدراً من الشفقة:
“……الأفضل أن تراجع الطبيب غداً.”
أضافت سيرينا وهي تضع صحن الحساء على المائدة:
“لقد تأخر الوقت الليلة، فلنذهب معاً إلى القرية صباح الغد. أما الآن… فتناول طعامك أولاً.”
أزاحت له الكرسي، فظلّ متردداً لبرهة، ثم جلس أخيراً بصمت.
كان عَشاؤهم فقيراً؛ إذ عادوا مسرعين والرجل على أكتافهم، تاركين صيد البحر في الشباك. فلم يكن على المائدة سوى بطاطس مسلوقة، وخبز جاودار جاف، وحساء صافٍ خفيف.
تساءلت سيرينا في سرّها: هل يمدّ رجل نشأ على الرفاه يده إلى طعامٍ على هذا القدر من التواضع؟ غير أنّ دهشتها ما لبثت أن تبدّدت، إذ رأته يأكل بجديةٍ وصمت، كأنّ الجوع قد أطفأ كبرياءه.
سألته بنبرةٍ خجولة:
“أما زلت جائعاً؟ أأزيدك بعض الطعام؟ كم مكثت يا ترى فوق البحر…… آه، صحيح، لقد قلت إنك لا تذكر شيئاً.”
ثم ابتلعت كلماتها في ارتباك.
وعادت تراقبه. فإذا بأسلوبه في الأكل يكشف عن أناقةٍ غير عادية؛ حتى في طريقة تقطيع الخبز أو رفع الملعقة، كان يتبدّى رُقيٌّ لا يخطئه النظر، رُقيٌّ كأنما صُبّ في جسده من عادات النبلاء وطقوسهم.
قالت جودين وقد ضيّقت عينيها في ريبة:
“تدّعي فقدان الذاكرة؟ وكيف لرجلٍ لا يذكر ماضيه أن يوزّع جواهر نفيسة بهذه السهولة؟”
ارتسمت على فم الغريب ابتسامة مائلة تحمل شيئاً من الاستخفاف:
“……ذاكرتي خانتني، لكنني أعلم يقيناً أنني ثري. أما جوهرة كهذه، فهي عندي أقلّ من أن تُذكَر.”
كانت ثيابه، ونعومة شعره، وصَفو بشرته، كلّها شاهداً على أنه لم يعرف يوماً ضيق العيش. متكبّرٌ نعم، لكنّ كبرياءه كان يشي بالحقيقة.
قالت ماي الصغيرة وهي تضحك بمرحها الطفولي:
“إذن يا أميرنا، ستبقى معنا، أليس كذلك؟”
فجحظت عينا الرجل وأجاب بحدّة:
“……ولِمَ تنادينني أميراً؟”
ردّت ببراءة:
“لأنك أمير فعلاً!”
ابتسمت سيرينا وهي تفسّر:
“تقول إنك تشبه الأمراء في حكاياتها.”
فألقت كلمتها في قلبه شيئاً من الرضا، وانفرجت ملامحه قليلاً.
قال بفتور:
“……لن أمكث طويلاً، سأغادر قريباً.”
لكن ماي أصرّت بعنادها الطفولي:
“لا! تستطيع أن تعيش معنا!”
ابتسمت سيرينا وهي تقول:
“لكن الأمير، يا صغيرتي، يعيش مع الأميرة في قصرٍ فخم، أليس كذلك؟”
فأومأت الطفلة موافقة، ثم صدحت:
“صحيح! الأمير والأميرة يعيشان أبداً في سعادةٍ أبدية!”
وأخذت تردد الجملة الأخيرة من قصصها المفضلة.
عندها، ضربت جودين الطاولة بكفّها، فارتجّ المكان، وصاحت بصرامة:
“مهما يكن، فلك مأوى وطعام عندنا لبعض الوقت! لكن إيّاك ثم إيّاك أن تؤذي صغيراتي، وإلا فلن يشفع لك نسبٌ ولا لقب!”
وأطبقت قبضتها على السكين إطباقاً ينذر بالخطر.
ثم تابعت بلهجة آمرة:
“واعلم أننا لا نُطيق الغرباء طويلاً، فارحل بنفسك متى سنحت لك الفرصة.”
احتجّت ماي:
“جدتي! لِمَ القسوة؟”
لكن الغريب لم يُبدِ غضباً، بل أومأ بهدوءٍ كمن لا يعتزم المكوث طويلاً أصلاً.
مضت جودين تعدد عليه قوانين البيت واحداً تلو الآخر، واضطرّت سيرينا أن تتدخّل بين حين وآخر لتُخفّف حدّة الأجواء.
حلّ الليل، وانحدر القمر على البيت كوشاحٍ من فضة يلفّه.
قالت سيرينا بعد أن رتّبت المائدة وأطفأت النار:
“سأريك الغرفة التي ستبيت فيها.”
فتبعها صامتاً.
وأثناء صعوده خلفها إلى الطابق الثاني تمتم:
“لم أتوقع أن يكون البيت بهذه السعة.”
أجابته بابتسامةٍ هادئة:
“كان في الأصل منزلاً صغيراً لأحد النبلاء، ثم بَلِي حتى كاد يهجر، فاشتراه والداي بثمنٍ بخس.”
الطابق العلوي كان مهجوراً في معظم الأوقات لضخامته، ففتحت له غرفة نادراً ما تُستعمل، وقد بدّلت أغطية الفراش وجهّزتها لاستقباله.
قالت برقة:
“هنا ستكون ليلتك.”
لكن الرجل ما إن لمح النافذة المطلة على البحر حتى انجذب إليها كالمسحور، وظلّ واقفاً يحدّق في زرقة الليل بلا حراك. وفي الأثناء، أخذت سيرينا تشعل شمعة تلو أخرى حتى غمر النور المكان.
فاستدار نحوها فجأة وقال بسخرية لاذعة:
“……أتنوين أن تحوّلي البيت إلى محرقة؟”
تجمّدت يدها عند الشمعدان الثامن، وابتسمت بخجلٍ مرتبك:
“خشيت أن يثقل عليك الظلام. أو ربما تفضّل النوم على أريكة الصالون، فهي بجوار غرفتي مباشرة…….”
قهقه باستهزاء:
“أتظنينني طفلاً؟”
ثم مدّ يده وأطفأ نصف الشموع دفعة واحدة.
حدّقت فيه سيرينا بغيظٍ مكظوم. لقد أنقذته من الموت، وتحدّت إرادة جدّتها لتستضيفه، فإذا به يجازيها بهذه الفظاظة! أترى طباعه الحادّة لا شأن لها بذاكرته المفقودة؟
أشار إليها بيده آمراً:
“يكفي. اخرجي.”
كان رجلاً بالغ الغرور، ممعناً في الكِبر.
فأغلقت الباب وراءها بعنف، متخذة من تلك الضجّة الصغيرة انتقاماً صامتاً، ثم انحدرت إلى غرفتها.
تمدّدت على فراشها، لكنها ظلت تتقلب طويلاً بلا نوم. كان قلبها يخفق كطبول الموج، ويداها تتحسسان شفتيها، كأنها تخشى الاعتراف بما يعتمل في أعماقها.
لقد أنقذت سيرينا رجلاً مجهولاً لفظه البحر… وهذه المرّة، لم يكن طفلاً ضائعاً، بل رجلاً مكتملاً.
❖❖❖
انطلق صَوتُ النوارس يشقُّ صَمتَ الصباح الباكر، كأنّه أجراسٌ تُوقِظ البحر من سباته. هبّت نسمات أوّل الصيف، رقيقةً باردة، فداعبت الخُصلات المتساقطة على جبينها، وتمايلت عند أذنيها في دوائر خفيّة كوشوشةٍ من السماء.
كانت سيرينا منذ أولى خيوط الفجر، حين كان الأفق ملبّدًا بلونٍ رماديٍّ شاحب، تجمع ما تحتاجه بيدين مسرعتين: سَلّةً معدنيّة قديمة، وشِباكًا نسجها الملح والرطوبة، كمن يستعدّ لرحلةٍ قصيرة نحو القدر.
لقد عزمت أن تغوص قليلًا في البحر، قبل أن تعود بالرجل الغريب إلى القرية. فما أقسى أن يتكرّر عشاء البارحة البائس، وما أوجع أن تُعاوِد المائدة فقرها.
لكنّ صوت جدّتها “جودين” ــ المُعتاد كدقّ الطبول في أذنها ــ لاحقها وهي تودّعها:
“كم مرّة قلت لكِ أن تتركي تلك الغطسات المشؤومة؟! اطرحي عنكِ تلك الشِّباك، وتلك السِّلال، فلن تجلبي منها سوى العناء.”
ابتسمت سيرينا رغم نبرة اللوم، وقالت بعنادٍ عذب:
“اليوم سأعود بالكثير من الطيّبات، أعدكِ يا جدّتي.”
ثم ألقت التحيّة المألوفة وهي تُلقي السّلّة على ظهرها كأنّها حقيبة سفر.
كانت تعلم أنّ جدّتها لا تكره البحر، بل كانت تخاف عليه. فصورتها وهي تسبح في الأعماق بدت لها أشبه بخطرٍ يهدّد حياة حفيدتها الوحيدة.
وقبل أن تعبر الباب، جاءها صوتٌ غريب، خافتٌ عميق، يقطّع السكون:
“هل بوسعكِ أن تقوديني إلى الساحل… ذاك الذي وُجدتُ فيه بالأمس؟”
التفتت، فإذا بالرجل الضخم الذي أنقذته، قد نهض وتجهّز دون أن تسمع له حِسًّا. كان واقفًا هناك، عينيه كسطح بحرٍ مظلم، وصوته أشبه بهمهمةٍ من الأعماق.
شهقت سيرينا:
“لماذا استيقظتَ باكرًا؟! ما زال عليك أن تستريح.”
لكنه أعاد سؤاله ببرودٍ لا يعرف المراوغة:
“هل ستقودينني إلى الساحل أم لا؟”
تردّدت لحظة، ثم قالت:
“إن كنت مصرًّا، فحسنًا. اتبعني.”
وما إن خطا نحو الباب حتى اعترضته الجدّة بصرامة الذئاب العجوزة:
“إيّاك أن تجرّب خدعةً ما مع الفتاة…!”
لكن سيرينا أسرعت لتقول:
“لا تقلقي يا جدّتي!”
رغم ذلك دسّت جودين في يدها شيئًا صغيرًا، فإذا هو خنجرٌ قابل للطيّ. فزفرت سيرينا بضيقٍ طفولي:
“جـدّتي… ليس هذا ضروريًّا!”
إلّا أنّ العجوز أصرت، بينما الرجل اكتفى بابتسامةٍ ساخرة تلوح كغيمةٍ عابرة.
وقال وهو يسبقهم إلى الخارج:
“لم لا تحتفظين به؟ قد ينفعكِ.”
همست سيرينا لجدّتها وهي تلوّح مودّعة:
“لا تقلقي، سنعود قريبًا.”
ثم لحقت بالرجل الذي راح يطوف حول المنزل، متفحّصًا جدرانه القديمة ونوافذه المهترئة. اقتربت منه سيرينا بخفّة وقالت:
“صحيح أنه قديم… لكن ألا تراه جميلاً بطريقته الخاصة؟”
أجاب دون أن يلتفت:
“مقبول.”
تحرّكا معًا، فتقدّمت هي خطواتٍ قليلة، ثم توقّفت لتساير خطاه الثقيلة. شعرها المضفور يتراقص كأرجوحة صغيرة خلف ظهرها، بينما نظراته تتبعها دون أن ينطق.
ابتسمت سيرينا بخجلٍ واعتذار:
“لا تغضب من جدّتي… إنها تبالغ أحيانًا.”
فأجاب ببرودٍ مُتّزن:
“لا بأس.”
قالت ضاحكة:
“حتى الخنجر، لا تعبأ به. مجرد إصرارٍ منها.”
لكنّه تمتم ساخرًا:
“بل قد يكون مناسبًا… هنا لن يشهد أحد إن قرّرتِ طعني.”
قهقهت سيرينا بمرحٍ عفويّ:
“هيهات، لن أفعل ذلك أبدًا!”
واصلت بخفّة:
“هل نمتَ جيدًا البارحة؟ لم تراودك كوابيس، أليس كذلك؟”
فزمجر بامتعاض:
“كم مرّة أخبرتكِ أني لستُ طفلًا؟!”
ضحكت:
“إذن فقد نمت جيدًا.”
وأردفت تسأله بلطف:
“وجروحك؟ هل صرت بخير؟”
“أنا بخير.” أجابها كأنّ الأمر لا يستحق سؤالًا.
عندها خطرت لسيرنا فكرة، فرفعت رأسها لتقول:
“لكن… يجب أن أناديك باسم. ما الذي يناسبك؟”
وبينما هي تغزل الأسماء في ذهنها، كان هو يحدّق فيها طويلًا ثم نطق ببطء:
“ناديني… سيون.”
❖❖❖
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"