2
أترى حقًّا قد فقد ذاكرته؟
أيّ ريحٍ عاتية حطّمته حتى آل به الحال إلى هذا التيه؟ أكان رأسه قد ارتطم بصخرةٍ غادرة أم جرفته الأمواج إلى هاوية لا عودة منها؟
وكأنّه التقط خيوط خواطري الخفيّة، إذ مدّ يده إلى خصلاته المبتلّة، وردّها إلى الوراء في حركــة واثقة. هناك، على تخوم جبينه الأيمن، حيث يعانق الشعر بياض الجلد، ارتفع وَرَمٌ غليظ يقطر دماً كاللؤلؤ الأحمر.
شهقتُ بارتباكٍ مذعور، وهرعتُ أفتّش عن المطهّر. تلكّأ برهةً كأنّه يزن الأمر، ثم ما لبث أن سلّم جبينه لأناملي في استسلامٍ صامت. ومع كل لمسة من دوائي، أحسستُ بصدغيه يخفقان كجناحي طائرٍ يرتعش في القفص.
اقترب وجهانا، حتى كادت أنفاسه تندس في أنفاسي، وحلّ بيننا صمتٌ ثقيل تتدلّى منه ذكريات قبلةٍ خاطفة، قبلة أشعلتني نارًا حين تذكّرتها، فأطلقتُ سعالًا متكلّفًا أستجدي منه مهربًا من خجلي.
“هُمم… أحقًّا أنتَ فاقد الذاكرة؟” سألتُه بصوتٍ حذرٍ مرتجف. “ما الذي تتذكّره إذن؟”
ارتفعت أجفانه المثقلة كستار مسرحٍ يتثاقل عن كشف المشهد، وفي اللحظة التي تلاقى فيها بصره وبصري، نطق:
“…لا شيء.”
“لا شيء؟! أحتى اسمك؟ مكانك؟ دارك؟”
“أجل.”
كأنّ الكلمات صفعة من جليد. عجز لساني عن صياغة ردّ، فيما وجهه ماثل أمامي، ساكنٌ، خالٍ من خوفٍ أو اضطراب، بل متشح بهالة من كبرياءٍ صامت، كبرياء يُذلّني أنا وحدي أمام ثباته.
كنتُ أشيح ببصري عن جسده العاري، بينما هو، ببرودٍ نادر، يتصرّف كأنّ العالم ملكٌ له، لا يعرف الحياء طريقًا إليه.
قلتُ في محاولةٍ أخيرة:
“فلنذهب إلى القرية سويًّا. على بُعد عشرين دقيقة فقط سنجد الناس هناك، لعلّهم يسعفونك. الطبيب أغلق عيادته، لكن القلوب الطيبة لا تغلق أبوابها.”
فأجابني بصرامةٍ مفاجئة:
“لا. أبقيني هنا.”
كم بدت كلماته نافذة كحدّ السيف، لا تليق برجلٍ يتظاهر بفقدان الذاكرة.
“لكن… منزلي معزول، وأنت في حاجة إلى من يرعاك حقًّا!”
“جيّد. سأكتفي بأيام قليلة.”
أيّام قليلة؟ وما وجه “الجيّد” في هذا؟ لم أفهم. لكن كيف أقسو على غريبٍ منبوذ، والبحر قد فعل به كما فعل بي قديمًا حين انتزع أبي وأمي من بين ذراعي؟
تدفّقت في قلبي ذكرى اليوم الأخير… أمي وأبي يلوّحان لي من على ظهر السفينة، وعودهما أن يعودا لنا بوطنٍ جديد، ثم لم يعد سوى الخبر الأسود: السفينة ابتلعتها العاصفة. ترى لو كانا نجيا، أما كان أحدٌ قد احتواهما وأغاثهما كما أفعل أنا الآن؟
حينها فقط وجدتُ نفسي أميل إلى قبوله. أيّام من الرعاية لمنكوبي البحر ليست بالعبء الثقيل، لكنني كنت أعلم أنّ جدّتي لن ترضى بسهولة.
وهو يرمقني بعمقٍ يوشك أن يخترق جدار قلبي، إذ دوّى صرير الباب العتيق.
“سيرينا! أعدتِ؟” جاء صوت جدّتي جودين كالرعد.
توتّرتُ، وأشرت له أن يصمت، واضعة إصبعي على شفتي، قبل أن أنسحب بخفّة وأغلق الباب خلفي.
في الخارج، ارتفع صوت جدّتي بالتوبيخ:
“أغرقْتِ البيت بالماء مجددًا! إلى متى ستبقين أسيرة هذه الألاعيب الطفولية؟”
وبسذاجة بريئة، قفز صوت أختي الصغرى:
“جدتي! أختي أحضرت أميرًا معها!”
ارتفع حاجبا جدّتي البيضاء من الذهول، فبادرتُ مذعورة:
“لا تُصدّقيها! وجدته منكوبًا في البحر، فأحضرته ليس إلا!”
لكن أيُّ عينٍ قد تُصدّق أنّ هذا الرجل العجيب “عادي”؟ ملامحه، هيبته، وقوفه وحدها كفيلة بتكذيب كل تبرير.
“أأدخلتِ غريبًا بيتك يا سيرينا؟!”
“إنه ليس بخطرٍ يا جدتي! جريح، فاقد الذاكرة. فلنأوِه أيّامًا فحسب!”
قهقهت جدّتي بمرارة كأنّها تضحك على سذاجتي:
“حسنًا! سأستدعي رجال القرية فورًا.”
وفجأةً، انفتح باب غرفتي على مصراعيه، وخرج هو. خرج عاري الصدر، طويلًا حتى كاد رأسه يمسّ العتبة، شامخًا كعمود من حجر كريم.
“أستميحكنّ عذرًا على تطفّلي المتأخر، لكن لو أذنتن لي بالإقامة أيّامًا، أعدكنّ بجميلٍ عظيم لا يُمحى.”
لم يكن صوته صوت متوسّل، بل صوت أميرٍ يصدر أمرًا، عابقًا بالثقة والهيبة.
تجمّدت جدّتي مكانها، وأختي الصغيرة هربت تختبئ خلف ظهرها مرتعشة.
“من تكون بحق؟!” صاحت جدّتي، وارتجاف صوتها كان شيئًا لم أعهده قطّ منها.
ابتسم ابتسامة واهنة وقال:
“لا أعلم. يقال إنني فاقد الذاكرة.”
ثم تقدّم بخطًى وئيدة إلى المطبخ، صبّ لنفسه ماءً، وارتشفه ببطء كأنّ البيت كله ملكه.
وقبل أن تجد جدّتي ما تقول، مدّ يده وألقى شيئًا على الطاولة. تدحرج تحت الضوء كنجمة سقطت من السماء، جوهرة صافية، تشع بلون عينيه الزرقاوين.
الجوهرة نفسها التي رأيتها تزيّن كمّه حين انتشلته من بين الأمواج.
“ابتداءً… هديةً على إنقاذي، خذي هذه.”
شهقت ماي ببراءة الأطفال وانبهارهم:
“وااو… جوهرة!”
كانت بين أصابعها كزرّ متلألئ.
ابتسم الغريب ابتسامةً واثقة تميل إلى الكبرياء، وقال بنبرةٍ راسخة:
“إنّها الأكوامارين. وإن منحتِني مأوى وطعامًا، فلاحقًا أعطيكِ أخرى مثلها.”
رمقه بكبرياءٍ ساخر، ثم التفت بعينيه النافذتين نحو جدّتي جودين، فارتعش أنفاسها في صدرها. كان نظره كأنّما يتدلّى من سماء عاصفة، ثقلُه يكاد يُسقط كل مقاومة.
“حسنًا… أولًا سأغتسل. رائحة الملح والدم أثقل من أن تُطاق.”
قالها كأمرٍ لا يقبل نقاشًا، ثم سار بخطواتٍ واسعة تجوب البيت كما لو كان ملكًا قد عاد إلى قصره، حتى بلغ الحمّام ودخل دون استئذان.
تجمدت جدّتي للحظة، كأنّ إعصارًا اجتاح الدار وتركها خاوية الروح. أفاقت لتحدّق بي بحدّة، بينما أنا ابتسمتُ بخجل:
“لقد بدا بائسًا يا جدّتي… ألا يستحق أن نأويه أيامًا معدودة؟”
لكن، كيف يمكن أن تصدّق كلماتي وهي ترى رجلاً شامخًا، يفيض عنفوانًا لا أثر فيه للشفقة؟!
جلست جدّتي على مقعدٍ خشبي، وأخذت من يد مي تلك الجوهرة. قلّبتها بين أصابعها المتغضّنة، والبريق الأزرق يعكس في عينيها بحرًا كاملًا.
كان بريقها يروي حكايات: عن أمواجٍ شاسعة تتلاطم، وعن ملوكٍ غرقى في لجج المحيط، وعن جزرٍ أسطورية لا يهتدي إليها إلا من ختم البحر جبينه بعلامة القدر.
قالت جودين وهي تزفر:
“من ينثر الأكوامارين كما يُنثر الملح ليس إنسانًا عاديًا. هذا رجلٌ من سلالة عليا، ربما من بيتٍ نبيل لا يزال رجاله يمشون على أعمدة الريح.”
أطرقتُ برأسي، بينما مي صاحت بحماس مقلّدة كلامي:
“نعم جدتي! لنأوه فقط بعض الوقت!”
بقيت جدّتي صامتة لحظة، ثم هزّت رأسها قائلة:
“……إلى حين. لكن إيّاكما والاقتراب منه كثيرًا. البحر لا يُلقي إلينا إلا بما يُخفي وراءه عاصفة.”
قفزتُ من الفرح كمن نجا من غرقٍ محقق، وهرولت إلى المطبخ كي أعد له ماءً ساخنًا للاغتسال.
أما جودين، فظلت تحدّق بالجوهرة، قبضتها تشدّ عليها حتى شحبت مفاصلها.
لقد كانت تعلم… أن مجرّد بريقٍ كهذا قادر على أن يقلب حياتهن رأسًا على عقب.
والآن، ومع قدوم هذا الغريب الذي ألقى به البحر إلى عتبة دارهن، شعرت جدّتي أنّ الأمواج لم تجلب جسدًا منهكًا فحسب، بل جلبت قدرًا ثقيلًا، كصخرةٍ ألقتها يد الآلهة في بحرٍ هائج.
كان الاختيار معدومًا. والبحر لا يمنحك إلا طريقًا واحدًا: أن تبحر معه، أو يغرقك.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"