في غضون يومين فقط، كان ذاك الجبل الهائل من اللحوم قد اختفى من على المائدة، وكأنّ شياطين الجوع التهمته التهامًا. عبثًا كانت سيرينا تفكّر قبلها في تجفيف الفائض وصنع قديدٍ يُدَّخر للأيام، فإذا بالبطون قد سبقتها، فلم تُبقِ ولا تذر.
وفي تلك الليلة، لمّا فتحت سيرينا صرّة النقود التي أعادها إليها سيون، شهقت مبهوتةً. كانت تظنّ أنّ ما أُنفِق على شراء اللحوم والأصباغ والأدوات قد استنزف الكثير، فإذا بها تجد الصرّة قد ازدادت وزنًا وثِقلاً عمّا كانت عليه أوّل مرة قبضت فيها تعويضها.
قالت بدهشةٍ تكاد تشعل الهواء:
“أيُّ فعلٍ ارتكبتَه يا سيون؟!”
فاكتفى بابتسامةٍ ماكرةٍ تُميل زاوية شفتيه كأنها سيفٌ خفيّ، وقال بهمسٍ شيطانيّ:
“سِرٌّ….”
أترى أهلك بيتَ بْرِيد ونهب كلّ ما يملكون؟ أم لعلّه أخضع نقابة التجار نفسها بابتزازٍ لا يجرؤ عليه سواك؟
راودتها الشكوك، فأمطرتْه بالأسئلة مرارًا وتكرارًا، لكنه بقي صامدًا كجبلٍ عنيد، لا يُفشي سرّه ولو احترقت الأرض من حوله.
وفي صباح اليوم التالي، عادت العجوز جودين من السوق وقد أُنهِكت روحها قبل جسدها، فهوت إلى الأريكة تلوّح بمروحة يدويّة، وهي تتمتم ساخطَة:
“أواه… لِمَ تركتُ الناس يظنونك حفيدي؟! ما إن أخطو ثلاث خطوات حتى تنهال عليّ أسئلتهم كالمطر! لا راحة ولا فراغ!”
كان في الأصل “صديقُ حفيدتها” لا أكثر. لكنّ الشائعة تضخّمت حتى صار فجأة “الحفيد” نفسه!
اقتربت سيرينا منها بخجلٍ واعتذار:
“أحقًّا بلغ الأمر كلّ هذا؟”
ردّت العجوز مغتاظة:
“بل أكثر! يقولون إنّ بْرِيد قد تبخّر في ليلٍ بهيم، ثم يطالبونني أن أبوح بمصيره! كأنّي وصيّة على دُنياه! حتى عن صدَف اللؤلؤ سألوني: من أين تصطادينها؟! طرَدتُهم جميعًا وأقسمت أني لا أعلم.”
“أحسنتِ صنعًا يا جدّتي. تعبكِ كبير.”
وهي تدلّك كتفَيها المعقودتين بالشدّ، تابعت سيرينا مواسيةً. بدا أنّ العجوز قد لان غضبها قليلًا، غير أنها وجّهت نظرةً حادّة نحو شيون هذه المرّة:
“وأنت أيها الفتى… كثُر مَن يسألونني عن حقيقتك! ليس ببعيدٍ أن ينكشف كذبنا في أمر القرابة، فالزمن كفيلٌ بذلك.”
التفتت سيرينا تنظر إلى سيون بدورها، كأنها تبحث في عينيه عن أثرٍ لشبهةٍ تتعلّق باختفاء بْرِيد. لكنّ سيون كان في تلك اللحظة أسيرًا بين يدي الطفلة ماي، تزيّنه كما لو كان عروسًا في صالونها.
فها هو يضع على رأسه تاجًا ورقيًّا مرسومًا بالألوان، ويتردّى برداءٍ مخمليّ من قماشٍ مزيّنٍ بشرائط براقة، وجبينه مرسومٌ بلمسات حمرةٍ طفولية. مظهرٌ هزليّ يناقض مهابته الجليلة، لكنه في يد ماي صار لوحةً نابضة بالبراءة.
كتمت سيرينا ضحكتها بأسنانٍ مشدودة، فقد كاد فمها ينفجر. تردّدت لحظة: أتُثني على جماله وتزيده إحراجًا؟ لكنها آثرت الصمت، فهي تعلم أنّ أي كلمةٍ عابثة كفيلة بأن تجعله يتنصّل من لعبه مع الطفلة فيما بعد.
أعجبها منه أنّه، برغم كِبريائه وصلابته، يتساهل أمام ماي ويتركها تُداعبه كيف تشاء.
قالت سيرينا بخفوتٍ، كمن يحدّث نفسها:
“الأجدر أن نكفّ جميعًا عن زيارة البلدة إلى أن تهدأ الزوبعة.”
فأجاب سيون على الفور، وقد وجد في ذلك ما يريحه:
“نِعْمَ الرأي.”
ومع إشراقة الغد، انغمست سيرينا في الغوص أكثر من أي يومٍ مضى. فقد ثقلت عليها فكرة شراء المؤن من السوق، فقرّرت أن تعيش لأيامٍ قادمة على ما تُخرجه من البحر بيديها: أسماكًا وأصدافًا ومحارًا.
وزادتها عزيمةً سماءٌ ملبّدة ورطوبةٌ خانقة تبشّر ببداية موسم الأمطار، حيث يصبح الغوص عسيرًا. أرادت أن تقتنص ما استطاعت من محارات اللؤلؤ قبل أن يحول الطقس بينها وبين البحر. ثم إنّ شهية شِيُون التي بدت بلا قرار دفعتها إلى العمل أكثر فأكثر.
طالت غيبتها، فارتفع صوت سيون من الشاطئ:
“سيرينا! يكفي هذا!”
فأجابت وهي تخرج رأسها من الماء، تتنفس بشغفٍ كسمكةٍ عنيدة:
“قليلًا بعد، رجاءً!”
ثم تمتمت وهي تلهث:
“لو علمتُ أن شهية سيون بهذه الضراوة، لملأتُ صحنه من البداية….”
“ماذا تقولين؟ الصوت مشوّش!”
قالها وهو يدخل البحر بخطواتٍ بطيئة، يبلّل قدميه حتى الكعبين.
“الجو حارّ. فلنعد أدراجنا.”
كان قد أنهك عضلاته طوال النهار بتمارين قاسية، زاعمًا أنّه يحتاج إلى بروتينٍ ليرمّم جسده، بعد أن كان يقضي ساعاته قبلًا في نومٍ أو نزهةٍ وادعة.
ضحكت سيرينا:
“ألستَ قادمًا لتجرب المياه؟ فهي باردةٌ منعشة.”
“جروحٌ قديمة لا تسمح لي.”
“هاه؟ تلك الخدوش التافهة؟ لقد شُفيت من دهر.”
قالها باستخفافٍ متبختر.
“إذن، أَرِني ما عندك.”
وحين تقدّم خطوةً أخرى، انسحبت سيرينا ماكرةً، وقالت بعينين متألقتين:
“سيون… ألستَ تجهل فنّ السباحة؟”
ساد صمتٌ وجيز، فأطبقت عليه بابتسامةٍ ظافرة:
“ها، عرفتُ! لا تجيده!”
“ليس كلُّ الخلق سبّاحين يا فتاة.”
“أتريد أن أعلمك؟”
“لا حاجة. يكفيني النظر إلى البحر.”
“لكنّ أعماقه أبهى من سطحه. هاهنا غابةٌ من المرجان المتلألئ كالأحجار الكريمة. ألا تُشعرك بالفضول؟”
تألّقت عيناها بشغفٍ عجيب وهي تواصل:
“أنا… أريد أن أذهب يومًا أبعد من الأفق. أركب سفينةً عظيمةً وأعبر البحر إلى عالمٍ آخر، حين تكبر ماي وتستقرّ حياتنا.”
قطّب حاجبيه وقال بهدوءٍ عابس:
“ألم تقل إن والديكِ هلكا في البحر؟ أما تخشين المصير ذاته؟”
تأملت سيرينا صفحة الماء، ثم ابتسمت:
“البحر لا يُخيفني. السباحة صديقتي ونجاتي.”
نظَر إليها سيون طويلًا دون كلمة، كأنّ كلامها اخترق جدران قلبه.
ثم ابتسمت فجأة وقالت:
“أتدري؟ يُقال إن وراء البحر بلادًا تنمو فيها فاكهة تُسمّى الموز. حلوةٌ، لينة، كالعسل.”
انفجر ضاحكًا من نبرتها الجادّة:
“ههه! هذا ما أدهشكِ؟!”
“لا تسخر! إنّه حقّ!”
ولم تكد تُكمل حتى انهمر المطر دفعةً، قطراتٌ ثم زخّاتٌ ثم سيلٌ يهدر من السماء.
قالت سيرينا وهي ترفع وجهها للسماء:
“ها قد صدق حدسي. المطر نازل.”
“ألم أقل لكِ أن نغادر باكرًا؟”
“سنبتلّ سواءً في البحر أو في الطريق. فما الفرق؟”
غادرت الماء إلى الشاطئ، وسيون الذي لم يبلّغ سوى ركبتيه خرج معها، وقد ابتلّت ثيابه كليًا تحت المطر.
وبينما يسيران قالت له بجدّ:
“غدًا نذهب إلى الطبيب. لقد أوصانا بالعودة بعد أسبوع.”
هزّ رأسه متبرّمًا:
“قلتُ لكِ إنني شُفيت.”
“مرةً قلتَ مثل هذا وكدتَ تهلك! لا يندمل جرحٌ كهذا في أيامٍ قليلة.”
رفع ثوبه قليلًا ليُريها بطنه. فانبهرت عيناها بعضلاتٍ صلبةٍ تشعّ قوة، وبجرحٍ عميقٍ أخذ يلتئم على نحوٍ خارقٍ للطبيعة.
قالت بدهشةٍ صادقة:
“عجيب! لكننا سنذهب، ولو للفحص.”
فأطرق لحظةً، ثم غيّر الموضوع:
“غريب… لقد مرّ على وجودي هنا ثمانية أيامٍ كاملة.”
أجابته سيرينا محدّقةً:
“بل بالتمام والكمال: ثمانية أيام.”
تنهد كمن يسمع حكمًا ثقيلًا وقال:
“أجل… ثمانية أيام.”
مرّرَ سيون يده عبر خصلات شعره المبتلّة بالمطر، ثم ألقى بنظره نحو البحر المترامي أمامهما. كان في نبرته شيءٌ من الحزن الخفي، حتى إنَّ سيرينا، دون أن تشعر، مدت يدها لتقبض على ساعده القوي.
“……سيون، ابقَ عندنا كما تشاء، بارتياح وطمأنينة. تستطيع أن تظلّ في بيتنا إلى أن تستعيد ذاكرتك، لا قيود ولا أجل.”
“…….”
“حتى جدّتي وافقت، وقالت إنها لا تمانع.”
قالت ذلك بصوتٍ يفيضُ بالحنان، كأنها تواسي قلبه المرهق.
لم تتفوّه العجوز بمثل هذه الكلمات صراحة، لكنها ــ وبطريقةٍ لا تخفى على سيرينا ــ كانت قد قبلت به بينهم. صحيح أنّها توبخه بين حينٍ وآخر، لكنها لم تطلب منه الرحيل مجددًا، ولم تعد تكترث إن ظلّ مع سيرينا وماي وحدهما. كان كل شيءٍ يشير إلى أن سيون أصبح جزءًا من يوميات أسرةٍ جديدةٍ تتشكّل ببطء.
حينها توقّف سيون فجأة، وتجمّدت عيناه الداكنتان كأنهما تغوران في أعماق لا قرار لها.
“……سيرينا.”
ارتفع حنجرته وهبط باضطراب، وشفتاه تتحركان كمن يجاهد ليقول شيئًا جللاً. استشعرت سيرينا في هيبته نبرةً مهيبةً فحبست أنفاسها، تنتظر ما سيخرج من فمه.
“……لا. سأرحل عمّا قريب، كما وعدت.”
كلماته حملت نبرةً أشبه بالاستسلام. وما إن أفلت يدها حتى استدار، محمّلاً بأمتعته ودلو الصيد، ومضى في طريقه. لكن صدرها حينها انقبض كأن قيدًا من حديد يضغط على قلبها.
“سيون!”
نادته وهي تعدو خلفه، لكن قدماها انزلقتا على حجرٍ مبتلّ، فتعثرت به وهي تحاول اللحاق به. وبمحض المصادفة، كان قد التفت إليها لحظتها، فارتطمت به وسقطا معًا.
تهاوى الدلو على الأرض مُحدثًا صوتًا مكتومًا، وتناثرت الأصداف في كل اتجاه، فيما وجدت سيرينا نفسها مُلقاة في أحضان سيون، مستندة إلى صدره العريض وهو مسجّى على ظهره، ينظر إلى السماء الغائمة.
“……آسفة. هل أنت بخير؟”
“آه… يؤلمني قليلاً.”
أنّ بضعفٍ وهو يتقبّل ثقل جسدها. حاولت سيرينا النهوض بسرعة، تتخبط بارتباك، لكن ذراعًا قوية حالت دونها.
سيون كان قد أحاط ظهرها بكفه، يمنعها من الابتعاد.
رفعت وجهها إليه، فرأت المطر ينحدر على وجنتيه كأنما دموعٌ تسيل بلا نهاية.
“س… سيون؟”
عاودت محاولة النهوض، لكن هذه المرّة طوّقها بكلتا ذراعيه، محكمًا حصاره حولها، ثم أسند يدًا على رأسها برفقٍ ليمنعها من الالتفات نحوه.
ارتجفت أوصالها من شدّة المفاجأة.
“فقط… لحظة واحدة. ابقي ساكنة… رجاءً.”
“لماذا؟ ما الذي يحدث معك؟”
خرج صوتها مرتعشًا، دافئًا مثل همسٍ مختنق. جسدها كان يلتقط حرارة جسده المتصلب، وقلبها يخفق في صدرها بجنون، كما لو كانت قد ركضت لساعات طويلة.
‘هل سينفجر قلبي الآن وأموت بين ذراعيه؟’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"