قال سيون، وهو يلتقط كيس النقود واللآلئ من الأرض ثم ينهض، واضعًا يده على كتف سيرينا:
“ادخلي إلى البيت.”
كان في عينيه وميضٌ باردٌ حادٌّ، كأنّه شعاع فولاذٍ خاطف.
‘إلى أين يذهب…؟’
لكن قبل أن تستوعب شكَّها، كان قد استدار عائدًا نحو القرية، يبتعد بخطًى ثابتة. حمل كيس المال معه، فأخذت سيرينا تتساءل في سرِّها: إلى أين؟ ولأيِّ غاية؟
وقفت تراقب ظهره الذي يتضاءل شيئًا فشيئًا حتى غاب عن بصرها، ثم عادت إلى منزلها.
“لقد عدتُ…”
بادرتها جدّتها بوجهٍ مثقَل بالهموم:
“ما الذي جرى يا ابنتي؟”
لكن سيرينا أطبقت شفتيها وأجابت برأسٍ نافٍ وحسب. وما إن انزوت في غرفتها حتى جاءت جدتها تدقُّ الباب مرارًا، مستفسرةً بإلحاح:
“يا صغيرتي… وأين سيون؟ ما الذي وقع؟”
“……لا شيء، لم يحدث شيء مهم. سيون سيعود قريبًا.”
تكلّفت نبرةً هادئة، بينما قلبها يغلي.
كانت تعلم أنّ ما حدث في السوق سينتشر عاجلًا أم آجلًا، ليبلغ مسامع جدتها، غير أنّها لم تكن مستعدّة لأن تروي الأمر بلسانها الآن.
ومع غروب الشمس، سألتها مي من خلف الباب بصوتٍ حزين:
“أختي… هل رحل الأمير عنّا؟”
كان قلب سيرينا يتقلَّب؛ فهي نفسها باتت تلقي نظراتٍ من النافذة على فتراتٍ أقصر فأقصر. فكرة أنّ سيون قد غادر ومعه المال أخذت تنهش صدرها.
لم يهمها المال أصلًا، فما كان لها أن تلمسه لولا فضله. لكن أن يغادر بلا وداع… بلا كلمة أخيرة؟ ذلك ما لم تحتمله.
خيال فراقه خنق أنفاسها كحجرٍ جاثم على حنجرتها.
فصرّحت أخيرًا:
“سأذهب إلى القرية… أبحث عنه.”
وما إن خرجت مسرعةً حتى شعرت كيف أنّها في المرة السابقة لم تجد الجرأة لتسأله عن وجهته، فقد كان كل ما تريده آنذاك أن تهرب من أمامه خجلًا.
والآن قلبها يخفق بشدّة وهي تركض نحو القرية التي غشاها الظلام. حين توقفت تلهث، أخذت تجول بناظريها في كل زاوية، لكن أثره لم يكن يُرى. جابت أرجاءها كاملةً ثم عادت إلى مدخلها، لتجد قلبها يغلي من الغيظ.
‘أنقذت حياته، أطعمته ووفرت له سكناً، ثم ما إن وقعت يداه على المال… حتى يتركني هكذا؟ أيُّ جحودٍ هذا!’
عينيها امتلأتا بالدموع، أشدّ من لحظة انكشاف خديعة بريد.
لكن هناك، من بعيد، ظهر طيفٌ مألوف يقترب بخطواتٍ متباطئة. ولما تبينت ملامحه، كاد صدرها ينفجر من الغضب.
“سيون!”
نادته بصوتٍ حادٍّ متوترٍ، أشبه باللوم.
“ما هذا؟! لقد أفزعتِني!”
فابتسم بخفّة وهو يقف أمامها، في يده كيس المال كما هو، وعلى كتفه كيسٌ أكبر حجماً.
“لماذا؟ خِفتِ أن أهرب بالمال؟”
“لا! لم يكن المال ما أقلقني! بل أنت… أنت كنت…”
كادت تنطق أنّها خافت رحيله بلا عودة، لكن الكلمات اختنقت. لم يبقَ سوى نظرةٍ غاضبةٍ صوبه.
ضحك سيون ضحكةً هادئة:
“لم أُنهِ الأمر بعد، فذهبتُ لتصفية الحسابات كما ينبغي.”
“تصفية… ماذا؟!”
“ذلك الحقير أفسد الكثير… أتظنّين أنّ المال وحده يكفي؟ كان لا بدّ من ردعٍ لا يُنسيه.”
بدت على محياه ابتسامة ساخرة باردة، فارتجف قلبها من شدّة رهبة المشهد. ترى، هل هشَّم عظام بريد فعلًا؟
ثم مدَّ نحوها الكيس والورقة:
“وأيضًا… اللآلئ التي رميتِ بها أرضًا، بعتُها بقيمتها الحقيقية.”
تسلّمتها بارتباك، لتجدها عقدًا مُبرمًا باسمٍ جللٍ جعلها ترتعد.
عائلة كونت إيشر، سادة الإقليم الذي تنتمي إليه قرية إيكيت.
“هذا… لا يُصدق… كيف…؟”
“كان بعض خدم ذلك البيت في القرية. ويبدو أنّ كونتيسة إيشر لا تُقاوم سحر الجواهر.”
لقد كان عقدًا مباشرًا، بلا وسطاء، وبأعلى الأسعار في السوق. حتى سيرينا، الجاهلة بهذه الأمور، أدركت مدى ضخامته.
وتابع سيون:
“لكن حاذري… عمّا قريب، سيحاول الطمّاعون أن يعرفوا من أين تأتي هذه اللآلئ. عليكِ أن تحفظي السرَّ مهما كان الثمن. وإن انكشف الأمر، فسوف يُنهب البحر كله. ولا تُفشي أبدًا أنكِ عقدتِ صفقةً مع إيشر.”
بقيت لحظةً صامتةً، مأخوذة بما تسمع، ثم قالت مترددة:
“……سيون، أأنتَ حقًّا بلا ذاكرة؟ كأنك تعرف العالم أكثر مني.”
ابتسم ابتسامةً ماكرة:
“ألم أقل لكِ إنّ الذكاء شيء، والذاكرة شيء آخر؟”
“أكنتَ تلمِّح للتو… أنّني حمقاء؟”
غضبت قليلًا وضربته بخفّة، فضحك. وكان لصوته المنخفض وقعٌ غريبٌ في أذنها، ناعمًا دافئًا. فانقشع الحزن سريعًا، وتعجبت من تقلّبات مشاعرها التي لا تُفسَّر.
وعلى درب العودة، حين اكتشفت أنّه يسير بجانبها لا خلفها كعادته، وجدت نفسها تتردّد بين الامتنان والخجل.
فسعلت قليلًا تخفي اضطرابها، وقالت:
“آسفة… لأنّي صببت غضبي عليك سابقًا. وشكرًا… على كل ما فعلت اليوم، وعلى هذا العقد…”
فقاطعها:
“لا تشكريني. أنا فقط رددتُ الجميل.”
كان ذلك أوّل مرةٍ يتفوّه بكلمة جميل. هل كان يقصد إنقاذها له من قبل؟
رفعت عينيها إليه متسائلة، فإذا به يلمس طرف قبعته القشية ويقول مبتسمًا:
“أهديتِني قبعةً، أليس كذلك؟”
ضحكت رغمها، وإذا بما تبقّى من غصّةٍ في صدرها يتلاشى.
ثم وقعت عينها على الكيس الضخم الذي يحمله. فسألته:
“وماذا تحمل معك؟”
“لحم بقر، وخنزير، ودجاج، وغنم.”
شهقت بدهشة:
“ك… كل هذا اشتريته؟!”
أجاب ببرودٍ عجيب:
“لم تقولي أيّ نوعٍ تريدين… فاشتريتُ الجميع.”
الأفواهُ لا تزيدُ عن أربعة، بل إنّ أحدَها طفلة صغيرة، والآخر عجوزٌ ضعيفة. كميةٌ هائلةٌ من اللحوم… كيف يا ترى سيستطيعون التصرّف بها؟ سؤالٌ كاد يفلت من شفتيها في حيرةٍ وذهول.
لكنّ صوته سبقها، يقطع تيار أفكارها:
“اشتريتُ أيضًا دفترَ رسمٍ جديدًا، وفرشاةً وألوانًا. أليس هذا ما خططتِ له منذ البداية يا آنستي المتألقة؟”
بهذا التعقيب المباغت أسقط في يدها، فلم يعد بمقدورها أن تُلقي عليه لوماً أو تعنيفا. ضحكةٌ رنانة انفجرت من صدرها، تذيبُ ما تبقّى من جدّيةٍ ثقيلة.
كلُّ ما عانته نهارَ هذا اليوم من مهانةٍ ومرارةٍ بدا وكأنّه قصةٌ قديمةٌ دفنتها السنون، بعيدةٌ سحيقة كالحلم.
نَعَم… لا يهم، وليذهب كلُّ ذلك أدراج الرياح.
“شكرًا لك.”
“قلتُ لا حاجة للشكر. هيا بنا، أسرعي.”
وحين اعتلى قوسَ السماء هلالُ المساء الشاحب، وصلا معًا إلى الدار.
هناك، لم تجد سيرينا بُدًّا من أن تبوح لجودين بما جرى في السوق من أحداثٍ عاصفة.
غضبَت العجوز أشدَّ الغضب حين علمت أنّ بريَد طالما امتصّ جهد حفيدتها طيلة هذا الوقت، غير أنّها هدأت قليلًا عندما سمعت أنّ مجلس التجار قد تدخّل وأوقع به العقاب الذي يستحقّه.
وعندما بلغها حديثُ العقد الذي انتزعه سيون، التفتت إليه متردّدة، ثم انحنت بكلمة امتنان، كأنّ قلبها المتحجّر قد بدأ ينفتحُ له شيئًا فشيئًا. أما سيرينا فامتلأ صدرها فرحًا إذ شعرت أنّ الحاجز بين الاثنين بدأ يتصدّع.
بعد ذلك، تحوّل المنزل إلى وليمةٍ لم تشهد مثيلًا، إذ اجتمعوا حول مائدةٍ غصّت بما أثقل أركانها من جبال اللحم المتنوّع.
أُصيبَت جودين بالذهول حتى شهقت:
“يا له من جنون! كيف سنأكل كلَّ هذا؟!”
أما ماي فصفّقت مبتهجةً وهتفت بعينين لامعتين:
“اليوم عيد ميلاد من؟!”
ابتسم سيون ابتسامةً واثقة وقال بنبرةٍ عابثة:
“فلنجعلها ذكرى ميلادي أنا.”
ضحكت ماي ضحكةً صافيةً كأجراسٍ فضيّة، وانطلقت في غناءٍ طفوليّ بهيج تهنّئ فيه بعيدٍ لا تعرف له تاريخًا ولا عمرًا. ومع ذلك، ظلّت تلك الوليمة أشبه بعيدٍ ملكيّ امتدّ حتى عمق الليل.
وفي صباحٍ كالحٍ غطّت غيومه نور الشمس، كان أحد فرسان البلاط الملكي يترجّل عن صهوة جواده، زافِرًا أنفاسًا مثقلةً تكاد تزلزل الأرض.
كان ذلك أَلْدَن، الفارس الأقرب إلى الأمير تاسيون، رجلاً ذا ملامح بهيّة يلطّخها حزنٌ غائر، وقد شدّت أصابعه على صحيفة اليوم التي تصدّرها العنوان المفجع: اختفاءُ الأمير بعد حادثة اختطاف غامضة.
قبل أسبوعٍ تمامًا، في حفلة ميلاد الأمير تاسيون داخل القصر الملكي، استغلّ مجهولون لحظةَ ارتخاء الحراسة لينقضّوا عليه، فاقدًا وعيه، ويختطفوه.
ولم يكد الفرسان يلاحقونهم حتى عثروا عليهم في ميناء مهجور، جثثًا هامدة، مذبوحين عن آخرهم. كان أَلْدَن يعلم يقينًا أنّ القاتل الحقيقيّ أمرَ بذلك ليُخفي أثره.
ذلك العقل الجريء الذي تجرّأ على اختطاف الأمير في قلب القصر، والذي فتح له بوابات الحراسة كأنها أوتادٌ من ورق، لم يكن سوى خصمٍ ماكرٍ يخطط بدهاءٍ لا يضاهى.
ومنذ تلك اللحظة اختفى تاسيون، كأن الأرض انشقت وابتلعته.
لأيامٍ اثنين أمر الملك بالبحث سرًّا في كل زاوية، فلمّا فشلت الجهود، أعلن حملةً كبرى اجتاحت البلاد طولًا وعرضًا. ورغم أنّ البلاط لم يصرّح علنًا بضياع الأمير، إلّا أنّ الناس، إذ رأوا الجيش يفتّش المدن والقرى، أخذت همسات الخوف تسري بينهم، حتى تسلّل الخبر إلى الصحف وأُعلن على الملأ.
أَلْدَن، وقد اغرورقت عيناه بقلقٍ دفين، تمتم بصوتٍ واهن:
“أين أنت يا مولاي… أنتم على قيد الحياة، أليس كذلك؟”
انقضت خمسة أيّام والجنود يمشّطون الأقاليم بلا طائل. عندها وصل رسولٌ لاهث، ممتطيًا صهوة جواده، يلتحق بالفرسان برسالة عاجلة.
“سيدي أَلْدَن! خبرٌ عاجل من سواحل الجنوب الغربي! من خليج إيكيتِه!”
شهق أَلْدَن، وقلبه يخفق خشية أن يسمع إعلان الوفاة.
“تحدّث!”
قال الرسول بلهفة:
“لقد ظهر في إحدى القرى الساحلية رجلٌ ذو مقامٍ رفيع. المدة توافق تمامًا زمن اختفاء الأمير، وهيئته تنطبق: شعرٌ حالك السواد، وعيونٌ كالجواهر الزرقاء. لا يُستبعَد أن يكون… صاحب السموّ الأمير تاسيون!”
حينها برق وجه أَلْدَن بحياةٍ جديدة، وانتصبت قامته كرمحٍ من فولاذ.
“أين ذلك المكان؟! دلّني حالًا، ولتقدني إليه قبل أن يبتلعه الغياب مرةً أخرى!”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات