✦━━༺❀༻━━✦
الفصل الأوّل
✦━━༺❀༻━━✦
كان النهارُ يزهو بدفءٍ ذهبيّ، فيما البحرُ يعصف بأمواجه الغاضبة كوحشٍ يستعر في أعماقه. الليلة الماضية، ألقت شباكها في الظلام، فعادت مملوءة بالسرطانات الممتلئة؛ غنيمةٌ تُكافئ عناءها.
وحين ضمنت قوت العشاء، خطرت لها فكرةُ الغوص بحثًا عن محار اللؤلؤ. انزلقت إلى الأعماق بانسيابٍ اعتادته روحها، فإذا بظلٍ ثقيلٍ يمتدّ فوقها، يبتلع ضوء الماء. رفعت رأسها، وعيناها تتسعان دهشةً… رجلٌ ممدّد فوق لوحٍ خشبيّ، فاقد الوعي، يتقاذفه الموج.
“أترى ناجٍ من حطام سفينة؟” خطر لها، قبل أن ينزلق جسده فجأةً إلى قاع الماء.
لم تتردّد لحظة، انطلقت كالسهم، قبضت على ذراعه، وجرّته بكل ما أوتيت من قوّة. لم يكن انتشاله يسيرًا؛ جسده أثقل من صخر، وهي بالكاد تكبح إرهاقها حتى وطئت الرمال. سقطت بجواره لاهثة، صدرها يعلو ويهبط بعنف.
“ما الذي يحدث بحقّ السماء؟” تمتمت بذهول.
لو لم تبصر لحظة غرقه بعينيها، لكان الآن طُعمًا للبحر.
تأمّلت ملامحه. شعرٌ حالك السواد كليلٍ بلا نجوم، حاجبان عريضان، وجهٌ كأنّ نحاتًا بارعًا أبدعه من رخام. كان جماله غريبًا، متفرّدًا، كأنّه من عالمٍ آخر.
لكن نبضه ضعيف… وأنفاسه غائبة. اقتربت منه في وجلٍ، تهتف: “أيها الغريب… استفق!” هزّت كتفيه، لكن بلا جدوى.
تردّدت برهة، ثم شدّت أنفاسها وأطبقت على أنفه، وضغطت شفتيها على شفتيه الباردتين. لامس غريبٌ هزّ وجدانها؛ إحساسٌ عاصف لم تعرفه قط. كادت تذوب، لكن عقلها صرخ: “إنّه إنقاذ… فقط إنقاذ!”
بعد محاولاتٍ متتابعة، شهق فجأة وسعل، يقذف ماءً مالحًا من صدره. فتح عينيه… وإذا بهما بحرٌ صافٍ، أزرق لامع، يشرق كجوهرتين غامضتين.
ارتجف الهواء بين نظراتهما المتشابكة. اتسعت حدقتاه في اضطرابٍ هادر، فيما شفتاها احمرّتا بحرارةٍ مباغتة، كأنّها أسيرة سحرٍ خفيّ.
لكن موجة قوية صفعت ظهرها، فأفاقت من شرودها.
“ه… هل أنت بخير؟” همست.
عُقِدَ حاجباه، خطٌّ رفيع ارتسم على جبهته، ثم غشيه الإغماء مجددًا.
“أيها الغريب! أفق!” نادت في فزع، تتحقق من أنفاسه. كانت ضعيفة، لكنها مستقرة. تنهدت مرتجفة: “مجرد إغماء…”
استدارت حولها تصرخ: “هل من أحد؟! ساعدوني!” لكن لا مجيب… غير حفيف النخيل وصوت الموج. أسندت جبينها بيدها، تنهيدةٌ طويلة تتسلّل من صدرها.
“كيف لي أن أنقل هذا العملاق وحدي؟”
✦ ✦ ✦
على أطراف مملكة كالستاين، في بيتٍ أبيض يطل على الشاطئ، كانت سيرينا تعيش بالغوص، تبيع ما تجود به الأعماق في سوق القرية. قبل خمسة أعوام، أنقذت رضيعة من البحر، ربّتها كأختٍ صغيرة، وعاشت مع جدتها العجوز كعائلةٍ متواضعة.
واليوم، كان البحر قد ألقى إليها بثقله من جديد… ثاني إنسان تنقذه من مخالبه.
بعرقٍ متصبّب وأنفاسٍ لاهثة، جرّت جسده حتى البيت. هناك، انفتح الباب، وطلّت ماي الصغيرة، ذات الستة أعوام.
“أختي! الجدة خرجت لتجلب القماش.”
اندفعت سيرينا إلى الداخل، أسقطت الرجل على سريرها. أمسكت ماي بطرف ثوبها المبلل، وعيونها الواسعة تمتلئ بالفضول والخوف.
“من هذا يا أختي؟”
“لا أعرفه… البحر ألقاه إليّ.”
اتسعت عينا الصغيرة، وهي تذكّرها بصرامة: “لكن الجدة قالت: لا ندخل غرباء البيت!”
ابتسمت سيرينا ابتسامةً باهتة، هامسة: “صدقتِ… أخطأتُ.”
قهقهت ماي ببراءة: “أختي أخطأت!” ثم اقتربت بخطواتٍ حذرة نحو الرجل، تدقّق في وجهه المرهق، وتجرؤ بطفولةٍ لتلمس وجنته بإصبعها.
“ماي!” صاحت سيرينا بصرامة.
لكن الصغيرة لم تردّ، بل أسرعت تبحث عن شيء، وعادت وفي يدها كتابٌ مصوّر، على غلافه أميرٌ متوَّج بجانب أميرة. رفعت الصورة في حماسٍ وقالت بعينين لامعتين:
“أختي… أليس هذا الرجل أميرًا؟”
“لا… مستحيل. لا يُعقل أن يطفو أميرٌ فوق لوحٍ متهالك وسط البحر.”
ضحكت سيرينا من سذاجة ماي، غير أنّها ما لبثت أن أمعنت النظر في وجه الغريب، فابتلعت ريقها بصعوبة. حتى وهي تراه على الشاطئ، تساءلت في داخلها: أهذا بشر حقًا؟ أم كائن خرج من الأساطير؟
على عكس شعرها المبلل القاسي الذي أرهقته أملاح البحر، كان شعره الأسود لامعًا، ناعمًا، ينحدر كسيلٍ من الليل. بشرته صافية ناصعة، نقية كالحرير، بلا شائبة واحدة. وحين تدقّق في ثيابه، أدركت أنّها لا تنتمي إلى رجلٍ عادي.
عند أكمام قميصه، يلمع حجرٌ كريم بلون السماء لم ترَ مثله قط، وعلى القماش الفاخر الخفيف الملمس، تبرق خيوط ذهبية منسوجة بعناية.
“إنه حقًا… كالأمير.” تمتمت سيرينا.
“أمير! أمير حقيقي!” صاحت ماي بحماس، تضرب الأرض بقدميها الصغيرة.
“هشش… كفى. على الأقل هو من علية القوم، هذا مؤكد.” ردّت سيرينا وهي تزفر.
أي مصيرٍ عجيب ساق هذا النبيل إلى يد البحر العاتية؟ راحت تفحص جسده، فإذا بصدمتها تتعاظم.
“يا إلهي… إنه ينزف!”
لم يكن ذلك ماء البحر يتسرب من ثيابه، بل دمٌ أحمر، يبلّل ملابسه وغطاء السرير. حين حملته لم تفرّق بين ماءٍ ودم، فقد كان الاثنان يبلّلان جسده الغارق.
أسرعت تحضر قماشًا نظيفًا وصندوق الإسعافات، وجثت إلى جانبه، تفكّ أول أزرار قميصه.
“أهو دم؟!” تمتمت ماي، فالتفتت إليها سيرينا بحدة.
“ماي! اخرجي فورًا.”
“لكن لماذا؟”
“قلت اخرجي!”
نفخت الطفلة وجنتيها في عناد، لكن سيرينا دفعتها برفق خارج الغرفة وأغلقت الباب خلفها. ثم جلست أمام الغريب، قلبها يخفق بقوة، أصابعها ترتجف وهي تفكّ الأزرار الباقية.
وما إن انفتحت حتى انكشفت أمامها عضلات صلبة، صدر عريض كأنّه تمثال من رخام. جسدٌ أقرب إلى صورة حاكم قديم رأت مثيله يومًا في متحف القرية. شهقت بلا وعي، وأمسكت أنفاسها كما لو كانت تغطس تحت الماء.
لكن عينيها سرعان ما وقعتا على جرحٍ عميق، يمتدّ بجوار عضلات بطنه، يتسرب منه الدم بلا انقطاع. وضعت القماش على الجرح لتوقف النزف، وما إن فعلت ذلك حتى…
“ما الذي تظنين نفسكِ فاعلة؟”
صوتٌ أجشّ، عميق، اخترق السكون فجأة. شهقت سيرينا في فزع، قبل أن تُحكم يدٌ قوية قبضتها على معصمها، تكاد تسحق عظامها.
رفع جسده فجأة، ينظر إليها بعينين بلون البحر، زرقاوين كالسيف، حادتين كأنهما تخترقان الروح.
“لقد… استعدتَ وعيك!” تلعثمت وهي تحدّق فيه.
جال ببصره على الغرفة سريعًا، ثم عاد يحدّق بها بنظرات باردة.
“كنتُ فقط… أريد معالجة جراحك، وخلع ثيابك المبتلة.” شرحت في ارتباك.
ألقى نظرة سريعة على جسده، ثم ببرود نزع القماش من يدها، وبدأ يضغط على جرحه بنفسه. لم يترك لها فرصة، وكأنّه يرفض أي مساعدة.
انسحبت سيرينا قليلًا، والمرارة تعتصر صدرها. أي وقاحة هذه؟ أنا أنقذت حياته، والآن كأنني مطالبة بالاعتذار!
“أين نحن؟” سأل بصرامة.
فتحت فمها لتجيبه بلهجةٍ متعالية، لكن صوته سبقها.
“ساحل خليج إكيت، مملكة كالستاين.” أجابت أخيرًا.
“أأنتِ… من أنقذني؟”
“نعم. لكن من تكون أنت؟”
صمت. وضعت سيرينا ذراعيها متشابكتين، تحدّق فيه بانتظار.
“كيف… انتهى بك الأمر وسط البحر؟”
مد يده إلى شعره، يمرر أصابعه فيه كأنه يفتش عن إجابة ضائعة. بدا جليًا أنه ليس برجل عادي، حتى أسلوبه في الحديث ينضح بالسلطة والتعالي.
استدار قليلًا نحو النافذة، حيث غابت الشمس خلف الأفق، وامتلأ البحر بحمرة الغروب. ظلّ يحدّق طويلًا، ثم أعاد نظره إليها، حدة عينيه لا تفارقانها.
ترددت سيرينا، كادت تنهال بالأسئلة، لكنها تماسكت تنتظر. كان من الواضح أن وراءه حكاية أثقل من البحر نفسه.
“لا… لا أتذكر شيئًا.” تمتم أخيرًا.
“ماذا؟!” تسمرت مكانها.
“يبدو… أنّني فقدت ذاكرتي.”
شهقت بدهشة، وارتسم الذهول على ملامحها. لكنه ابتسم بفتور، ابتسامةً صغيرة ساخرة.
“لذلك… هل يمكنني البقاء هنا لبعض الوقت؟ فقط بضعة أيّام.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات