أغمضت سيان عينيها بإحكام عاجزةً عن فتحهما أمام مقاومة الرياح، تكتم الشتائم بين أسنانها.
وحتى لو صرخت بها بأعلى صوتها، فالأكيد أن أحداً حولها ما كان ليسمع.
لم يكن لديها أدنى تماسك. لقد كانت الأرض، قبل قليل فقط، دافئة بأشعة النهار، أما الآن، في هذا العلو الشاهق تحت قدميها، فقد كان الهواء بارداً إلى حد يقشعر منه الجلد.
لطالما تخيلت في حكايات الصِغر أن سادة التنانين يبدون بديعين وهم يطيرون على ظهورها.
بأجنحةٍ هائلة ذات غشاء تمزق زرقة السماء، وسادةٌ يجلسون بكل جلال فوق ظهورها المكسوة بالقشور، طائرين في أعالي رفيعة….
لكن الواقع كان أبعد ما يكون عن ذلك.
كانت قوةٌ عاتية تصفع خديها كالسياط، والريح العاصفة لا تدعها تفتح عينيها، أما شعرها فكان يتطاير بجنون حتى شعرت كأن فروة رأسها تُقتلع.
والحقيقة أن تلك الريح لم تكن ريحاً طبيعية، بل كانت نتيجة سرعة التنين الجبارة وهو يشق الفضاء البعيد في اندفاع عارم.
وإن كان جسد سيان يعاني حتى تكاد تنهار، فإن قلبها كان مفعماً بحماسٍ غامر.
لم يكن حماسها هي، بل ما انعكس إليها من مشاعر التنينة التي تركب على ظهرها.
التنينة السوداء التي قضت دهوراً متخفيةً في ظلال الليل، ها هي للمرة الأولى منذ اختيارها لسيّدتها تحلّق في وضح النهار.
شعور الحماس اجتاحها حتى كاد يخرجها إلى البكاء.
تنينتها، المبتهجة إلى حد الجنون، كانت تملأ صدرها بفرح جارف، و تطلق كل سرعتها ممزقةً زرقة السماء.
ولو كان الموقف أهدأ، لربما عانقتها باكية من التأثر، لكن سيان لم يكن لها ترف ذلك.
“إلى أين تذهب بنا بحق؟!”
طلبت منه أن يأخذها إلى مكان لطيف الأجواء، فإذا به يستدعي تنينه ويطير معها إلى مكان لا تدري ما هو.
وفي خضم هذا الوضع المذهل حتى يكاد يغشيها، صرخت سيان بأعلى صوتها رغم يقينها أن صوتها لن يصل،
“إلى أين تذهب بنا؟!”
فجاءها صوت كارل من بعيد،
“لقد أوشكنا على الوصول!”
بكلمات صوته تلك، استطاعت سيان أن تفتح عينيها بالكاد، لترى ما لم تستطع حتى الآن أن تراه.
السماء الزرقاء الممتدة أمام بصرها، لا شيء آخر غيرها. والشمس في أشدّ حرارة، والهواء أبرد من الجليد.
الجبال الملتوية بدت صغيرةً كالمجسمات، والأشجار الباسقة التي لا يُرى أعلاها إلا برفع الرأس عالياً ظهرت الآن كأعواد قصيرة.
العالم، الذي بدا من الأرض واسعاً بلا نهاية، صار تحت قدميها كعلبة عرض مليئة بلُعب صغيرة.
‘أن يكون هناك مثل هذا المشهد..…!’
إنه بصرٌ لا يمكن لبشر عادي أن يعرفه أبداً. و لم تدرِ سيان هل هو بصرها أم بصر تنينتها، وهي تكتم في داخلها فيضان الدهشة والانبهار.
فقط لأن موضع نظرها ارتفع، تغيّر العالم كله.
أرادت لا شعورياً أن تفتح عينيها أكثر، لكن الريح لم تسمح. فاكتفت بزمّ حاجبيها، مصممةً على ألا تغلق عينيها بعد الآن، وعلى أن تحتفظ في بصرها بكل هذا العالم الممدود تحت قدميها.
ومن بعيد، خلف الأفق، بان نهرٌ متلألئ بلون أحمر تحت أشعة الشمس. و هناك فقط عرفت سيان الوجهة التي كان كارل يطير بها إليها على ظهر التنين.
إيفاريد. الأرض التي لوّثتها دماء بيغادراسيل بعد هزيمته على يد ييغدراسيل، حيث جرى النهر الأحمر.
إنّه إقليم كارل، والمكان الذي رأت فيه سيان إيدلين للمرة الأولى في صغرها.
لم تشأ سيان أن تصدّق ما تراه، فانحنى طرف شفتيها في ابتسامة مرّة مليئة بالدهشة والإحباط.
المسافة الشاسعة التي كانت لتستغرق أياماً وسنوات لو سارت على ظهر حصان، لم تتطلب نصف يوم فقط عندما حلّقت على ظهر التنين.
وبينما بدأ كارل يرى النهر الأحمر يلوح أمامه، خفّض ارتفاعه متوجهاً نحو الأرض من دون أن ينبّه سيان، وتبعته التنينة السوداء لونا، التي تشاركها وعيها، وهي ترفرف بجناحيها خلف إيدلين.
وعندما هبط كارل على الأرض، لم يكن في قلعة إيفاريد، بل على طريق جبلي كثيف الأشجار والنباتات.
نزل كارل أولاً إلى الأرض، يراقب لونا تخفض ارتفاعها. بينما فاضت سيان مرة أخرى بابتسامة ساخرة.
“أهذا كل ما لديكَ ليحل محل الحديقة الخراب؟”
“ماذا تعنين بـ ‘كل ما لديك’؟ رغم غياب الحدائق المزدهرة، هذا مكانٌ يحمل ذكريات أجمل بكثير.”
“……؟”
عندما استقرت لونا بأمان على الأرض، مدّ كارل يده نحو سيان. فقبضت على يده، ونزلت على الأرض وهي تلوح برأسها باستغراب.
“أتذكرين هذا المكان؟”
لم يكن قصرًا، ولا مبنى مميزًا، بل كان مجرد أرض ترابية مغطاة بالأشجار والعشب والحشرات.
كانت سيان تتساءل عن معنى الذكريات هنا، حتى لمحت شيئاً فجأة وفتحت عينيها على مصراعيهما.
خلف التل المائل، وبحالة طبيعية كما هي، كان هناك غابةٌ كبيرة من الأشجار.
المشهد لم يكن ملفتًا للأنظار، ومع مرور الزمن وتغير المكان، لم يكن من السهل التعرف عليه، إلا أن سيان أدركت فوراً أن هذا هو المكان الذي شاهدت فيه إيدلين لأول مرة في طفولتها مع ريفينانت.
المكان الذي قاد فيه كارل لونا وسيان كان هو الطريق الذي سلكه الأمير الصغير يوم تسلّم إقطاعيةً قاحلة وانطلق لزيارتها.
“أنا رأيتكِ أول مرة هنا يا سيدتي. كنتِ تراقبينني من هناك، أليس كذلك؟”
وبذاكرة مذهلة أشار كارل بدقة إلى بقعة عند جذع شجرة خلف التل. و بدا كأنه يرى طفولته، حين كان يضغط بإحكام على قبعة بالية يخشى أن يظهر وجهه لأعين أحد.
“…..حقًا، ذاكرتكَ مذهلة.”
كيف استطاع أن يجد بهذا القدر من الدقة مكانًا وسط جبل بلا أي إحداثيات؟
سيان أبدت إعجابها بصدق. فابتسم كارل بوجه فخور.
“صحيح، كنت أجلس عند جذع تلك الشجرة مع ريفينانت نراقبكَ أنت ورفاقكَ.”
كانت الذكرى حيّةً في ذهنها.
موكب الأمير الذي مرّ من الطريق، صوت ريفينانت المفعم بالفضول حينها بدافع مجرد تسلية، ويدها الصغيرة التي تمسكت بطرف ردائها المهترئ خشية أن تنكشف فيُفضَح أمرهما.
“…..الآن حين أتذكر.”
ارتسمت على شفتي سيان ابتسامةٌ مرة وهي تسترجع شذرات مبعثرة يصعب حتى تسميتها ذكريات.
“لا أظن أن مشاعري تجاه الأمير الصغير الذي قيل أنه سيُعيَّن في إيفاريد كانت جيدةً جدًا. كنتُ حينها أعيش بؤسًا شديدًا بعد أن تخلّى عني والداي فقط لأنني كنتَ مختارةً من قبل التنين الأسود…..بينما الأمير الذي مرّ بهذا الطريق كان متلألئًا لدرجة تبهر النظر.”
مع أنهما كانا سيدين لتنين، إلا أن الفارق كان شاسعًا.
هو رُفع شأنه لأنه سيّد التنين الفضي، و هي نُبذت لأنها سيّدة التنين الأسود.
على خلافها هي، التي اضطرت أن تخفي هويتها و تعيش مطاردةً تصطاد الحيوانات البرية و تقتات على الأعشاب، كان الأمير الصغير يسير مرفوع الرأس يحيط به حرسٌ من الكبار.
“لكن كان الأمر غريبًا. ريفينانت ألحّت عليّ مرات كثيرة أن نعود قبل أن يُفضح أمرنا، لكنني لم أستطع أن أزيح نظري عنكَ، كأن شيئًا يمنعني من ذلك.”
“أتفهمكِ.”
أومأ كارل برأسه.
“حتى الآن أنا وسيم، لكن في ذلك الوقت بصراحة كنتُ جميلاً أكثر إلى حدّ أنني نفسي أُعجبت بوجهي…….”
“…..أتجد وقتًا للمزاح؟ بينما أنا غارقةٌ في ذكريات مؤلمة.”
رفعت سيان عينيها بضيق على مزحة كارل التي حطّمت جوّها الجاد، فانفجر هو ضاحكًا.
“ليس هناك ما يدعو لكل تلك الجدية. لا أعلم كيف بدا لكِ حينها، لكن بالنسبة لي أيضًا…..لم يكن كل ما ظهر في الخارج بذلك القدر من السكينة.”
صحيحٌ أن حياته لم تكن بائسةً مثل سيان، لكنه هو الآخر كان أشبه بمنفي، إذ جرى إبعاده عن القصر الإمبراطوري حيث وُلد ونشأ.
لم يكن قد ارتكب أي خطأ، ومع ذلك أصبح وجوده وحده تهديدًا لولي العهد وأداةً في صراع السلطة، وهو ما كان يصعب عليه فهمه في ذلك الوقت ويشعره بظلم مرير.
ابتسم كارل ابتسامةً مرة وهو يسترجع ذكريات طفولته وهو يقطع الأرض التي يسير عليها الآن كرجل.
وكما عَلِقت بعينيه آنذاك صورة تلك الفتاة ذات الشعر البلاتيني، علقت بها الآن أيضًا.
مثلما لم تستطع سيان الصغيرة أن تزيح عينيها عنه.
“كيف كان شعوركِ في أول رحلة طيران؟”
مدّ كارل ذراعه بخفة وأطبق على يد سيان.
فرفعت سيان بصرها نحوه، وقد كانت قبل لحظة تحدّق في فراغ لا يملؤه سوى الذكريات، فإذا بالملموس في يدها يعيدها إلى الواقع.
“هل سنعود بنفس الطريقة؟”
سألت بوجه مذعور، فقد كان شعورها في الرحلة كلها كأنها تعرّضت لتعذيب على يد الريح والبرد.
فانفجر كارل ضاحكًا بصوتٍ عالٍ متتابع.
“لا تضحك! أنا أقول ذلك بجد، لقد كان الأمر مخيفًا. فوق ذلك، كان الجو قارسًا، والارتفاع شاهقًا، والرياح كأنها تصفع أذني بلا توقف.”
زمّت سيان شفتيها بامتعاض وهي ترد على ضحك كارل الصاخب، لكن كلما زادت في الحديث بدا له الموقف أكثر طرافة حتى كاد يقع من الضحك.
“لم أكن أتوقع مثل هذا الانطباع، لكنكِ دومًا تفاجئينني بما يفوق التوقّع.”
“وماذا إذاً؟ هل ظننتَ أنني سأذرف دموع التأثر فقط لأنني ركبت تنينًا لأول مرة؟”
“قليلاً؟”
لو أنها بكت من شدّة الانفعال لكان ذلك محرجًا بطريقته الخاصة.
“أما أنا، فقد كان شعوري غريبًا جدًا. كنت أتمنى أن تشعري أنتِ أيضًا بشيء شبيه.”
“…..غريبٌ كيف؟ وأنت أصلاً لم تكن أول مرةٍ لكَ في الطيران.”
“همم…..لم أصفه بالغريب عبثًا، لكنه هناك إحساسٌ يصعب أن أضع له تعريفًا محددًا.”
حك كارل ذقنه محاولًا بجدية أن يجد جوابًا لسؤال سيان.
“غريبٌ بطريقةٍ ما..…”
ثم رفع نظره ببطء إليها وهو يتأمل شعوره بدقة.
______________________
ياعمري لونا مستانسه كأنها بزر😭🤏🏻
ادعم لونا وايدلين يتزوجون يصيرون عكس فيلم ذاك كيف تروض تنينك ✨
المهم كارل ماخذ سيان نكته ياخي مستحيل عندهم رومنسيه زي باقي الابطال لازم فيها طقطقه😭
حتى لو راحوا شهر عسل واضح بيكون قروشه وضحك اكثر من الرومانسيه😂 واحس المرتزقه بيخاوونهم
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات