حديقة المتاهة في القصر الإمبراطوري، التي كانت يوماً ما تتلألأ بأزهار بهية، لم يبقَ فيها موضع سليم؛ إذ غدت مكاناً يلفّه الخراب.
حتى إصلاح الأرض المتصدعة وردم الشقوق وتسويتها كان بحد ذاته عملاً شاقاً عظيماً.
جلسَت سيان على درابزين شرفة الطابق الثاني، تراقب بعينيها زرقة السماء فوقها وأصوات العمل الدؤوب في حديقة القصر وهي تُرمَّم.
“…..سامحيني يا ابنتي.”
كانت قدماها تتدليان في الفراغ، كأنها على وشك السقوط، لكنها أخذت تحركهما بلا مبالاة، وعيناها الزرقاوان غارقتان بين منظر السماء وحديقة القصر، وهناك خلف بريقهما ظهر لها طيفٌ باهت لوجه الكونت تشاندلر الذي استدعاها قبل قليل.
“بعد أعوام من هجركِ أدركت أخيراً كم كنتُ أحمقاً في اختياري.”
وبينما يعتذر الأب بوجه متحجر تختنق فيه الكلمات، لم يكن بجواره سوى دموع أمها المنهمرة بلا انقطاع…..
تماماً كما في ذلك اليوم الذي تخلوا عنها فيه.
“وحين سعيت متأخراً لألحق حتى بجسدكِ لأدفنه بيدي، كان الأوان قد فات، إذ لم يبقَ أثر أستطيع تتبعه.”
كادت سيان أن تطلق ضحكةً ساخرة، لكنها كبحتها بصعوبة.
فحتى مع استعادة الذكريات كان الشعور واحداً…..عبثيّاً ومثيراً للغضب.
“سامحيني”..…؟ هل هو زمنٌ يمكن غسله بكلمة بهذه البساطة؟
رغم ما اقتنع به عقلها من برود المنطق، ظل قلبها يشعر بثقل لا يطيق حمله.
“لو أنكِ فقط توافقين، لعدّلتُ سجلات النبلاء لأعيدكِ رسميّاً إلى مكان ابنتي من جديد.”
“……أنتِ هنا، يا سيدتي.”
حاولت أن تروّح عن نفسها بالهواء الطلق لعلّها تلم شتات قلبها، لكن الأمر كان عبثاً محضاً.
فبين الذكريات التي تدور في رأسها بلا توقف، تسلّل إلى مسامعها صوتٌ دافئ يلامس أذنها برفق.
شدّها الصوت إلى الأسفل، فإذا بكارل واقفٌ أمام حديقة الطابق الأول، يلوّح لها بيده.
“هل تتهيئين للطيران؟ ما الذي يجعلكِ تجلسين في مكان خطير كهذا؟”
“إنني في حيرة…..أطير أم لا أطير.”
ابتسمت سيان مجيبةً على مزاحه.
“وأين يمضي ذاك الوسيم الواقف هناك؟”
“أراقب الطائر الذي اصطدته، هل سيبقى أم سيحلّق بعيداً.”
“آها.”
أطلقت سيان ضحكةً قصيرة ثم قفزت بخفة من على درابزين الشرفة.
فشهق كارل بدهشة واتسعت عيناه، ومدّ قدميه لا شعورياً ليلتقطها بين ذراعيه، غير أن الأمر لم يكن ضرورياً.
فقبل أن تلامس قدماها الأرض، انبثقت من جسدها هالةٌ من سحر أسود، فأبطأت سقوطها وهبطت برشاقة على الأرض.
ثم أطلق كارل أنفاسه بارتياح بعد أن كان قد حبسها في صدره من الفزع.
“المباني لم تُبنَ عبثاً، فالأفضل أن تستعملي السلالم، أليس كذلك؟”
“وما المشكلة؟ لا أحد يراني.”
“أنا أراكِ.”
“آه…،.”
تلعثمت سيان وقد فقدت فجأة ما تقول، إذ لم يخطر ببالها كيف ترد.
كانت الكلمات تتزاحم على طرف لسانها: وهل عليّ أن أعيش حتى على هواك؟ لكن شيئاً ما في داخلها منعها من البوح بها.
لكن سيان قررت أن تغيّر الموضوع.
“سمعت أن حلالته في حال خطرة، فهل يصح أن تتجول هكذا؟”
“أبي مريضٌ منذ زمن، ليس بالأمر الجديد. لا بأس، فأخي موجودٌ أيضاً.”
تثاءب كارل بتوسع.
“هلّا نتمشى قليلاً؟”
هزّت سيان كتفيها موافقةً على اقتراح كارل. لكن ما إن خطوا جنباً إلى جنب حتى تبيّن أن الحديقة لا تتيح لهم مقصداً يذهبون إليه.
فاتجهوا تلقائياً نحوها، غير أن ما كان أمامهم لم يكن سوى منظر فوضوي يعج بأعمال الترميم. ومع ذلك، لغياب أي مكان آخر، واصل كارل وسيان السير بصمت إلى أن اصطدما بعاصفة غبار أثارها العمّال الذين كانوا يردمون الأرض.
ومن غير أن يسبق أحدهما الآخر، استنشق الاثنان كميةً كبيرة من الغبار، وانفجرا في السعال في وقت واحد وكأنهما قد اتفقا.
“…..كنت أريد أن أصنع بعض الأجواء، لكن الوضع لا يساعد إطلاقاً.”
قال كارل ذلك وهو يغطي فمه بكمّه ويسعل.
و سيان أيضاً لم تسلم من الغبار الذي وخز حلقها، فسعلت ثم انفجرت بالضحك.
“ومتى كانت أجواؤنا جيدةً أصلاً؟”
قطّب كارل أنفه استياءً من كلامه.
“لكنها لم تكن سيئةً أيضاً، أليس كذلك؟ أنا أرى أن كل الأيام كانت على ما يرام، أما أنتِ فيبدو أنكِ لا ترين ذلك.”
وهذه المرّة جاء دور سيان لتقطّب أنفها.
“صحيحٌ أنها لم تكن سيئة…..لكن، لماذا تصرّ دائماً على مناداتي بسيدتي؟”
“هاه؟ لا، فقط لأن الآخرين جميعاً ينادونكِ بالأخت أو سيدتي، فتسللت إليّ التسمية من دون أن أشعر..… “
وإذا تأمل الأمر، أدرك أن اللقب الذي بدأ يستخدمه بطبيعية منذ زمن قد تحوّل تقريباً إلى كنية دافئة.
“ألا يعجبكِ لقب سيدتي؟ إذاً، هل أناديكِ الآنسة سيان؟ أم ربما صار عليّ أن أقول الفارسة سيان؟”
مال كارل برأسه متفكراً بجدية، حتى كادت سيان أن تطلق صوتاً غريباً من حنجرتها وكتمتها بصعوبة.
“الفارسة سيان”؟ لم يكن هناك ما هو أكثر تكلفاً ونشازاً من ذلك.
“إن لم يعجبكِ هذا أيضاً..…”
لكن عندما لمح كارل علامات الانقباض على ملامح سيان، أمال رأسه نحو وجهها واقترب حتى أوشك أن يلامسها، تاركاً عبارته تطول.
وفي غفلة لحظة، وجدت سيان نفسها أمام عينين بلون الزبرجد، تلمعان قريباً إلى حدّ الملامسة.
و استوعبت قربه المتجاوز للحد متأخرة، فارتبكت وتراجعت للخلف في فزع.
غير أن كارل لم يبدُ عليه الانزعاج من رد فعلها، بل على العكس، ابتسم ابتسامةً طويلة ممتدة كما لو كان ينتظر منها ذلك تماماً.
“إيرا تشاندلر.”
نطق باسمها الحقيقي كطعنة مباغتة، فارتسم البرود القاسي على وجه سيان في لحظة.
“……ذلك أبغض بالنسبة لي أكثر.”
رفضت فوراً من غير أن تمنح نفسها حتى وقتاً للتفكير. فابتسم كارل كأنه كان يتوقع ردّها مسبقاً. و رمقته سيان بعينين ضيقتين.
“من طريقة تصرفكَ، يتضح أنك سمعت شيئاً ما وبحثت عني بسببه. سمعتَ أن الكونت تشاندلر كان هنا، أليس كذلك؟”
فانفجر كارل ضاحكاً بعدما أصابته كلماتها في الصميم.
“سمعتُ أيضاً أنه قال لكِ: ألا يمكنكِ أن تعودي؟”
“ولعلك سمعت أيضاً أنني رفضت، أليس كذلك؟”
لم يزد كارل على الابتسام، ولم يجب. فضحكت سيان بسخرية.
“…..حقاً، ما أسهل حياة بعض الناس! يرمون بإنسان بغير رحمة، ثم بعد زمن طويل يظنون أن كلمة آسف كفيلة بمحو كل السنوات التي عشتها متحملة.”
“من وجهة نظركِ هكذا يبدو الأمر…..لكن الكونت تشاندلر لا حيلة له. ماذا عساه يقول سوى آسف؟”
“بل كان الأفضل أن لا يقول شيئاً، ولا يفعل شيئاً. إنما أشعر وكأنهم يرشّون الملح على جرحٍ إلتأم منذ زمن.”
“لكن شعوره بالذنب تجاه ابنته التي تخلّى عنها كان أكبر من أن يحتمل.”
قال كارل ذلك مبتسماً بود، محاولاً أن يبرّر موقف الكونت.
لكن هذا الموقف أثار اشمئزاز سيان أكثر، فانطلقت بسخرية جارحة كأنما تخاطبه هو شخصياً كأنه الكونت نفسه.
“وهذا بالذات ما يثير غضبي أكثر. في النهاية، كل ما يريدونه هو أن يخففوا عن أنفسهم ثِقَل الذنب. سواء كنتُ إيرا تشاندلر أو سيان روزفلت، أي فارق يصنع ذلك؟ أنا أنا، ولا أكون غيري.”
“أنتِ محقة في هذا. ولستُ أقصد أن أتحيّز للكونت، فلا تطلقي سهامكِ عليّ. حين تغضبين تصبحين مخيفةً حقاً.”
عادت سيان وأطلقت ضحكةً ساخرة من أنفها.
“إذا كنت تعرف أني مخيفة حين أغضب، فكيف تسمح لنفسكَ أن تثرثر بهذه الخفة؟”
“لم يكن الأمر سوى محاولةٍ لمواساتكِ لأن قلبكِ مثقلٌ بتلك القصة. ولا أظن أن كلمةً متهور هي الوصف العادل لذلك.”
“الأمر سيّان. لا أريد أن أفكر أكثر، ولا أن أتكلم أكثر. كفى رشّاً للملح على الجرح، خذني إلى مكان لطيف بدلاً من هذا. أما في القصر الإمبراطوري، قلب العاصمة، الذي يحمل في طياته ألف سنة من التاريخ، فلا يوجد مكانٌ أجمل من هذه الحديقة الخراب؟”
قالت سيان ذلك بوجه متجمد البرودة، فتنهد كارل مطلقاً أنيناً قصيراً وقد بدا وكأنه غارقٌ في حيرة.
“في الحقيقة…..أنا أيضاً ابتعدت عن القصر الإمبراطوري منذ زمن طويل……“
ثم أدار نظره نحو الفضاء الفسيح الذي كان يوماً حديقة متاهة بديعة الجمال، وصار الآن من العار أن يُسمى حديقة.
أنفاس التنين التي مزقت الأرض، وانفجارات ريفينانت التي وضعت خاتمتها، كلها جعلت المكان أرضاً فوضوية لا فرق بينها وبين صحراء خراب.
خراب…..الكلمة التي خطرت في بال كارل فجأة أيقظت في ذهنه فكرةً أخرى.
فتلألأت عيناه بالنور وهو يلتفت نحو سيان.
“سيان…..ألم تقولي من قبل إن تنينكِ لم يرَ نور السماء منذ وقت طويل؟ إذاً لم تحلقي على ظهره ولا مرة، صحيح؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات