وكأن الدوار قد باغته، رفع الإمبراطور يده إلى جبينه للحظة، ثم ما لبث أن استعاد أنفاسه وأطلق زفرةً طويلة.
“هذا ما كان ينبغي أن أفعله منذ زمن…..غير أن تقصيري وترددي هما ما جرّا علينا هذه الكارثة.”
ثم جال بعينيه المحمرتين بين وجوه النبلاء الجالسين، محدقًا فيهم واحدًا تلو الآخر.
“من تسوّل له نفسه أن يعيد الحديث عن لون حراشف التنين، فسأعدّه شريكًا في الخيانة وأقضي عليه كغيره.”
وما إن ألقى بوعيده الصارم حتى ارتدّ ببصره نحو سيان الواقفة على المنصة، ليستقر النظر عندها.
“قولي لي يا مالكة التنين الأسود، هل لديكِ الإرادة أن تصبحي فارسة التنين، وأن تدافعي عن الإمبراطورية ما دامتي حية؟”
رمشت سيان بعينيها، مأخوذةً بالموقف كله، حتى أن الكلمات لم تكد تنفلت من بين شفتيها.
فارسة التنين…..هي التي لم يمض وقتٌ طويل على عجزها حتى عن الاعتراف بهويتها، غارقةً في القلق والخوف.
هل تقدر؟ هل يحق لها أن تقبل؟
كان الأمر يفوق التصديق، حتى كأن الواقع قد تلاشى، ولم يبقَ إلا ذهولٌ يحيط بها.
صمتها المرتبك طال قليلًا، فارتسم على وجه الإمبراطور امتعاض بدت فيه الخيبة.
“أتريدين الرفض إذاً؟”
“…..لا، جلالتكم.”
وانطلقت الإجابة من فمها دون تفكير، أقرب إلى رد فعل غريزي منها إلى قرار متأنٍ، كأنها قفزت عليها قبل أن تعيها.
“لا، جلالتك. إن صدقت إرادتي، فإني أتعهد أن أبذل روحي وطاقتي في سبيل الإمبراطورية، حتى أمحو وصمة التنين الأسود التي لطّخت اسمه منذ زمن بعيد.”
قالت ذلك وهي واثقة كما لو كان قلبها هو الذي يوجّه لسانها، لا عقلها، غير أن سيان لم تكن بعد قد استوعبت حقًا أنها ستصبح فارسة التنين.
وجهها المذهول، ونبرتها الحاسمة، وفصاحتها المصطنعة لم تكن منسجمةً معًا. وحده كارلستون أدرك ذلك، وكاد يبتسم لأول مرة، لكنه كبَت ضحكته على عجل.
وقد أشرق وجه الإمبراطور.
“حسناً إذاً، سيان روزفلت. إن كان تنصيبكِ رسميًا سيجري مع تتويج ولي العهد، فأنتِ من هذه اللحظة تُسجَّلين فارسةً جديدة في سجل إمبراطورية التنين، إغريون.”
“جلالتك..…”
وانطلقت من بعض المقاعد احتجاجاتٌ متذمرة، لكن الإمبراطور لم يعرها أذنًا.
“على الكاتب أن يدوّن بوضوح: أن التنين الأسود وصاحبته من اليوم فصاعدًا تحت لواء الإمبراطورية بأمر منّي. ومن يتجرأ بعد اليوم على نعته بالشؤم فسأعده خائنًا وأحكم عليه بالعقاب الصارم.”
و عندما بلغ كلامه هذا الحد، انطفأت الضوضاء أخيرًا وساد الصمت في القاعة.
“ثم…..ولأن الوقت لم يعد في صالح جسدي، فسأعلن هنا وأمامكم أمرًا آخر.”
كانت سيان تحدّق فارغة العينين، لا تكاد تستوعب ما يجري، حتى رفعت رأسها مع الكلمات التالية.
والجميع آذانهم مشدودة وأنظارهم معلقة، فيما الإمبراطور يفتح عينيه المحمرتين بعزم يكاد يستنزف ما تبقى فيه من حياة.
لم تكن عبارته عن ضيق الوقت مجرّد قول، فقد كان يقاوم بآخر ما تبقى من وعيه كي لا تذوي الرؤية أمامه.
“أعلن خلع الأمير كارلستون كلاوس من منصبه.”
وما لبث أن انطلق من فم الإمبراطور إعلانٌ لم يكن في الحسبان.
و الضوضاء التي بدأت تخبو عادت فجأة لتتفجّر موجة عارمة ملأت القاعة بأكملها، فيما سيان، وهي تحدّق بالإمبراطور، ابتلعت ريقها باضطراب لا إرادي.
حتى كارلستون، الذي ظلّ صامتًا يراقب كل شيء وكأنه لا يعنيه، وهندريك الذي كان يسند والده، كليهما شهقا مدهوشَين واتسعت أعينهما نحو الإمبراطور.
“الأمير كارلستون، مالك القصر الإمبراطوري وتنينه إيدلين الفضي، تُسلب منه وراثة العرش، ويُمنح بدلًا منها رتبة دوق.”
“أبي..…”
تأخر كارلستون لحظةً قبل أن يدرك المعنى الحقيقي وراء كلمات والده.
خلع لقب ولي الأمير لم يكن سوى إعادة لما كان سيُعلن أصلًا في يوم ميلاده العشرين، يوم بلوغه سن الرشد.
ففي الحادية عشرة من عمره فقط، حين أُبعد عن البلاط إلى البراري، وعده والده بأنه حين يكبر ويبلغ سن الرشد سيُنصبّه برتبة الدوق ويُطفئ بذلك اعتراضات النبلاء تمامًا.
غير أن المرض وحده هو ما أخّر هذا الإعلان. والآن، وقد عاد إليه وعيه عند حافة الموت، بدا وكأنه يسعى إلى إتمام كل ما تركه ناقصًا.
“لتصغِ يا كارلستون…..سيكون لك أن تصوغ لقبًا جديدًا لأسرتك بيدك وتختاره بنفسك.”
قال الإمبراطور ذلك بصوتٍ جهوري استجمع فيه ما تبقى من قواه، لكن سرعان ما انخفض صوته وذوى.
فقطّب كارلستون حاجبيه بشدة.
“حتى لو جُردتَ من حق الخلافة ومنحت لقب دوق، لن تُخرس تلك الألسن في يوم وليلة. لكن…..على الأقل، لن يبقى لديهم ذريعةً رسمية بعد الآن.”
عندها ابتسم الإمبراطور ابتسامةً باهتة يغلّفها الحزن، وعيناه العطوفتان تحدّقان بابنه، وقد غشّاهما ضباب العجز والمرض.
لم يسبق لكارلستون أن شهد موتًا يقترب، لكن غريزته أوحت له أن العتمة التي غشّت عيني الإمبراطور لم تكن سوى ظلّ النهاية.
“…..سموك ولي العهد، أرى أن ننهي الجلسة ونصطحب والدي الآن.”
أومأ هندريك برأسه موافقًا.
“على الكاتب أن يدوّن كلمات جلالته بدقة كأنها وصية، وأن يحفظها بكل حرص. تُختتم محاكمة اليوم عند هذا الحد.”
كان هو الآخر قد شعر بما شعر به كارلستون، فأسند جسد الإمبراطور المتهاوي وهو يرفع صوته نحو القاعة.
“انصرفوا!”
ردد أحد الخدم الأمر بصوتٍ جهوري باسم ولي العهد، وهكذا انتهت المحاكمة.
وخرج الإمبراطور من القاعة مسنودًا إلى ابنيه، ولي العهد، وكارلستون الذي جُرّد لتوه من لقبه، تمامًا كما دخلوا أول الأمر.
أما سيان فما زالت واقفةً على المنصة، تلاحقها العيون الحادة والهمهمة التي ملأت المكان ما إن غادر الإمبراطور.
كانت النظرات لاذعةً كأنها تُثقب رأسها، لكن الذهول الذي كبّلها جعلها لا تكاد تشعر بالانزعاج.
“أختي! أختي! ماذا تفعلين هناك؟ عودي بسرعة!”
استفاقت سيان على صوت مألوف يناديها من بعيد. و استدارت فرأت في الرواق، خلف الباب الذي عبرته قبل قليل بخطوات واثقة، أولئك المرتزقة الذين كانوا دومًا ذراعها اليمنى، متجمعين في قلق.
عندها فقط استعادت رشدها، فأسرعت بالنزول من المنصة لتلحق بهم.
“هل هذا حلم أم حقيقة؟ سيدتي، هل ستصبحين حقًا فارسة التنين؟”
عندما كادت سيان أن تخطو إليهم، بادرها ماكس بالسؤال فجأة، كأن الأمر لم يحتمل تأجيلًا. لكنها، التي لم تستوعب ما جرى أكثر منهم، اكتفت بأن تهز كتفيها بلا مبالاة.
“ظننت أننا سنراكِ تترقّين كأميرة الأمير…..لكن ما هذا؟ لم يخطر على بال أحدٍ أن تسير الأمور في هذا الاتجاه!”
فأضاف باسكال بنبرة ساخرة،
“حسنًا…..إن لم تصبحي أميرة، فستغدين على الأقل دوقةً إن لم يقع ما يعكّر.”
وتدخّل الطبيب جيفي بصوت متذمر، لا يخلو من السخرية والامتعاض.
“تهانينا إذاً، سيّدتي الفارسة.”
“هاه؟”
ثم تحدث ماكس مبتسمًا بعرضٍ لم يخفِ فرحته،
“مباركٌ لكِ، سيدتي.”
وأضاف باسكال هو الآخر بابتسامة صافية،
“نعم، مبارك.”
بينما ظلّ الطبيب جيفي يقطّب حاجبيه بضيق.
“أيّ عجب هذا؟ لماذا تظلين شاردة الذهن بوجهٍ مذهول وكأنكِ لا تفهمين ما يحدث؟”
“……ليس الأمر وكأنني لا أفهم، وإنما..…”
تلعثمت سيان، و لم يكن في داخلها سوى ذهولٍ تام.
فمشهد ذلك اليوم، يوم نُبذت، ما زال يتراءى أمامها حيًّا، فإذا بها الآن، بعد كل ما مرّت به، تجد نفسها وقد زال عنها عبء الاختباء، بل صارت فارسة تنين معترفًا بها، قادرةً على الوقوف إلى جوار كارلستون علنًا.
أمرٌ لم يصدّقه عقلها بعد.
لقد أيقنت منذ زمن بعيد أن لا شيء مما تشتهيه سيكون لها، وأن ما يُحرم منه المرء فلن يُنال ولو بالرجاء.
كانت قد سلّمت بهذا اليأس من قديم. لكن ها هو الواقع؛ إذ حين تجرأت على مواجهة خوفها والسعي نحو ما تريد، فُتحت لها أبوابٌ أوسع مما تمنت، وأعظم مما تجرأت على الحلم به.
كان الموقف جديرًا بأن يذرف المرء فيه دموع الامتنان والفرح، غير أن ما غمر سيان لم يكن سوى صمتٍ داخلي ثقيل وإحساسٍ مبهم باللاواقعية، إذ أن ما تمنّته في أعماقها دون وعي صار حقيقةً أمامها.
“إيرا تشاندلر.”
لم يكن من السهل أن تتقبّل الأمر بهذه البساطة، بل سيحتاج إلى وقت طويل قبل أن يستقر في نفسها.
وبينما هي تائهة شاردة، كمن غلبه الذهول، تسلّل إلى أذنيها صوتٌ رجولي خافت.
التفتت سيان مع رفاقها المرتزقة نحو مصدر الصوت، فإذا برجل في منتصف العمر، شعره بلاتيني مرتب إلى الخلف، يقف في الرواق، وإلى جانبه سيدةٌ في مثل سنّه، مرفوعة الشعر الذهبي.
‘أنتِ من الآن ابنة غير موجودة.’
تذكّرت سيان كلماتٍ قاسية سمعتها يومًا، وما إن رأت وجه تلك السيدة حتى انقبض جبينها بغير وعي، إذ هجمت عليها ذكرياتٌ من الماضي.
كانت تلك المرأة بعينين متورمتين من البكاء، وجهها المبلل بالدموع في تلك الليلة المظلمة التي حجب فيها تنينها الأسود “لونا” نور القمر…..نفس الوجه الذي التفتَ عنها يومها لتطردها خارج العائلة.
“أمي…..”
خرج النداء من فم سيان واهيًا، كأن صوتها يتلاشى.
وكان أمرًا غريبًا بحق؛ إذ أن الذكريات التي لطالما تجنّبتها عمدًا كي لا تتأذى، و لم يبقَ منها في ذهنها سوى شذرات مبهمة كالصور غير الواضحة.
لكن ما إن وقع بصرها على ملامح زوجة الكونت حتى تدفقت الذكريات دفعةً واحدة، حيةً حادة، كما لو أنها وقعت بالأمس.
رائحة الغابة الرطبة، عواء الذئاب البعيد، خشخشة الأغصان، وظلام دامس يغمره صوت أمٍّ غارقة في حزن يائس.
وصورتها، وهي تبكي بلا نهاية.
و عندما سمعت زوجة الكونت كلمة “أمي” من فم سيان، تفجرت دموعها من جديد وقد اختلطت في عينيها كل مشاعرها المتراكمة.
“كنتُ في انتظاركِ…..هل يمكننا الحديث الآن؟”
تنفّس الكونت تشاندلر بعمق قبل أن يفتح فمه بحذر ليبدأ كلامه.
_____________________
يوجع اهلها جو تكفين ابوس لاتسامحينه تكفيييييييين
المهم ببكي وين كارل اسحب ابوها من شعره المرتب ذاه
المرتزقة يجنوووووون😂🤏🏻
وجيفي توه للحين على حاله
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 92"