رغم أنهم لم يشاهدوا الأمر بأعينهم، إلا أنّ بشاعة ما سمعوه دفعت النبلاء إلى إطلاق صيحات الدهشة، يسنما يتبادلون الهمس.
“لم أكن أعلم قبلها أنّ شظايا عظام التنين قد تُحدث تأثيرًا قاتلًا في سيد التنين ذاته. لقد كان ذلك اكتشافًا صاعقًا بالنسبة إليّ. وما جرى بعد ذلك، فالجميع هنا يعرف تفاصيله. لقد خبّأتُ العظام التي انتزعها ريفينانت من ملك التنين في مكان سري، ثم تعمدت إلى نحتها واحدةً تلو الأخرى لتصنع منها أسلحة. بل هي من وضعت في يدي خنجرًا صغيرًا يمكن تثبيته في سيفي، ودَفعتني لأن أغرسه في جسد سمو الأمير.”
كان كارل يصغي بصمت، ثم كتم سخريةً باردة وهو يُحدّق بأنطونيو من الأعلا.
“لو أنكَ توقفت عند ذلك الحد، لكان بمقدورك الإفلات من العقوبة الكبرى.”
عندها التصق أنطونيو بالأرض، و جبهته منحنيةٌ أمام استجواب كارل.
“لقد اقترفتُ ذنبًا يستحق الموت، يا سمو الأمير. وكما تعلمون، فأنا رجل من عامة الشعب، لا أعرف عن البلاط الإمبراطوري ولا عن عالم التنانين ما تعرفونه أنتم ولا ما يعرفه سعادة الماركيز. حين رأيت لأول مرة تلك الشظايا المريعة، اجتاحني رعبٌ أعجزني عن التفكير، فانزلقتُ إلى المشاركة في تلك الجريمة الفظيعة.”
كانت كلماته أقرب إلى التذرع منها إلى الاعتراف، لكنها لم تخلُ من منطق يُفهَم.
فهذا الرجل، الذي لم يكن يملك علمًا ولا موهبة خاصة، سوى أنّه نال اختيار التنين ففُتِح له باب الفروسية والنبل، لم يكن في ماضيه كفلاح بسيط ليتخيّل نفسه يومًا في مواجهة أمرٍ كهذا.
ولذا، حين حلّت اللحظة، لم يعرف إلا الخوف.
ومع ذلك، فمهما كان عذره، لو امتلك قليلًا من الشجاعة لربما نجا على الأقل من أشد العقوبات.
كانت هذه الفكرة تفرض نفسها رغم كل شيء.
“منذ أن عاد سمو الأمير، بدأت الشقوق تدبّ في علاقتي بزوجتي. فقد توسّلت السيدة، وهي صيّادة التنانين، إلى الماركيز كي يرشّحها للانضمام إلى فرق البحث، إذ لم يُستبعَد أن يكون سمو الأمير، المفقود حينها، لا يزال حيًا.”
“أنا من رفضت ذلك.”
قال هندريك ذلك بنبرة باردة، فأومأ أنطونيو برأسه مؤكدًا.
“أجل، يا سموك. لكننا لم نتوقع البتة أن يعود سمو الأمير بتلك الهيئة المنيعة والقوة التي أذهلتنا، فوقعنا في ارتباك شديد..…”
رفع أنطونيو عينيه بخوف إلى كارل، يحدّق فيه بعينين منكسرتين.
“هنالك، بعد أن عادت صيّادة التنانين من لقاء خطيبة سموك، وضعت خطّةً جديدة. إذ رأت أن خطيبة الأمير ليست سوى سيّدة التنين الأسود التي طُردت منذ زمن بعيد. فاقترحت أن ننشر حولها الشائعات، و نلطّخ بها سمعة سموك ونثير النزاع الداخلي.”
“إذاً، كل ما أشيع عن التنين الأسود كان تلفيقًا؟”
جاء الصوت هذه المرة من مقصورة النبلاء، أول سؤال يجرؤ أحدهم على طرحه.
فارتجف أنطونيو، وعيناه تائهتان نحو الجهة التي صدر منها الصوت، فيما انحبس صوته في حلقه وكأن الخوف يخنقه.
“على الأقل….. مهاجمة بريتا…..أعترف بأسف شديد أنها لم تحدث قط..…”
“جلالتك! صحيحٌ أننا خططنا لجريمة مروّعة، لكن لا يمكن إنكار أن التنين الأسود كائنٌ يجلب الكوارث أيضاً..…!”
“اصمت، دانيال!”
زمجر الماركيز غاضبًا من اعتراف أنطونيو، لكن الصوت الذي قطع حديثه لم يكن صوته، بل صوت الإمبراطور ذاته.
كان الإمبراطور يستند بضعف إلى الطاولة كأن الجلوس نفسه ينهكه، ومع ذلك، تلألأت عيناه ببريق قاطع وهو يحدّق في الماركيز.
“سئمتُ هذا الأمر. منذ تأسيس الإمبراطورية، والقانون الأكبر الذي سنّه المعبد حامي التنانين، أقوى القوانين لحفظ السلم، ومع ذلك…..لمجرد أن تنين كارلستون، وهو الابن الثالث ليس إلا، قد وُلد بزعانف فضية، اضطررتُ إلى أن أنفي طفلًا لم يتجاوز العاشرة من عمره.”
لم تكن كلمات الإمبراطور موجهةً إلى الماركيز وحده، بل إلى جميع النبلاء الجالسين.
فقد كانوا جميعًا حاضرين قبل أكثر من عشر سنوات، حين انقسم المجلس إلى معسكرين متخاصمين: فريق دعم «قانون البكر» متمثلًا بهندريك كلاوس، وفريقٌ آخر يهتف لمجد تنين التأسيس «يغدراسيل» ويصرّ على أن يُنصَّب كارلستون كلاوس وليًّا للعهد.
ومنذ ذلك الحين، لم يعرف القصر إلا النزاعات والاضطرابات.
“صحيحٌ أنّ قرار نفي الأمير كارلستون كان خياري أنا، إذ رغبتُ في كبح بوادر الصراع السياسي، لكن قولوا لي أنتم…..ألستم مسؤولين عن كل ما جرى؟”
أطلق الإمبراطور تنهيدةً ثقيلة، وأخذ يتفحّص بعينيه قاعة المجلس الشاسعة حيث اجتمع النبلاء.
هؤلاء الذين لا يتركون مناسبةً دون أن يثيروا الجلبة والخصام، اختاروا الصمت فجأةً وكأن أفواههم مغلقة بقفل.
و أكثر من مئة مقعد غمره صمتٌ خانق لا يُطاق.
“لا يُنكَر أن إمبراطوريتنا قد قامت بفضل التنين الفضي العظيم «يغدراسيل»، ومنحنا حكمًا وهيبةً دامت طويلًا. لكن إيدلين الفضي ليس سوى وريث يحمل لون القشور ذاته. فكيف له أن يرث مجد يغدراسيل بعينه؟”
نقر الإمبراطور لسانه بأسى، وتدفقت إلى صدره مرارة الندم لأنه لم يقل هذه الكلمات حين كان ما يزال معافًى.
“…..أحضروا لي سيّدة التنين الأسود.”
ساد القاعة صمتٌ أثقل من سابقه، ثم دوّى صوته فجأة ليحطم السكون.
و بدهشة ارتسمت على وجوه، كارل، و هندريك، حتى الماركيز وأنطونيو اللذان ما زالا منحنِيَي الرأس عند المنصة، رفعا أعينهما المذعورة نحو الإمبراطور.
“نادوا على سيّدة التنين الأسود!”
وحين ردّد الخادم الأمر، فُتحت الأبواب نفسها التي دخل منها الماركيز وأنطونيو، وظهرت سيان.
لم تكن تلك الخطيبة الهادئة التي تزيّنت يومًا بفستان أنيق وخصال شعر متموّجة، بل عادت بملامحها الأولى، شعرٌ طويل مشدود بعقدة واحدة، وقميصٌ وبنطالٌ كمن يستعدّ للمعركة.
ولأنها لم تعد تخفي شيئًا ولم يعد في قلبها ما يجرحها، خطت بخطى ثابتة، يحيطون بها المرتزقة أشبه بالحرس، حتى صعدت المنصة ووقفت عليها في كبرياء.
“يشرفني أن ألتقيكِ أخيرًا، يا سيّدة التنين الأسود، إيرا تشاندلر.”
“لْتمتدّ بركة التنين الفضي المجيد حتى عنان السماء.”
ما إن ألقى الإمبراطور التحية حتى جثت سيان على ركبةٍ واحدة، واضعةً يدها على صدرها باحترام.
“لقد وُلدتُ باسم إيرا تشاندلر، غير أنّ ذلك الاسم مات منذ زمن بعيد، فادعوني من الآن فصاعدًا سيان روزفلت، يا جلالتك. واعتباري في حضرتكَ شرفٌ لي.”
وبينما كانت لا تزال متمسكةً بأدب الرجال في التحية، خاطبت الإمبراطور بصوت خفيض وقور. فابتسم الإمبراطور ابتسامةً قصيرة باهتة،
“لقد علمتُ بما مررتِ به. بعد أن اختاركِ التنين الأسود، عشتِ متخفية، تجوبين العالم بلا هويةٍ ثابتة.”
لم تُسرع سيان في الجواب، وإنما اكتفت بخفض رأسها علامة الإقرار.
“هناك الكثير من المخاوف التي تتحدث عن كون التنين الأسود نذير شؤم يجلب الكوارث، لكنكِ، على العكس، وقفتِ في وجه صيّادة التنانين التي قتلت ملكة التنانين، وحميتِ هذا القصر الإمبراطوري.”
“ما قمتُ بفعله كان طبيعياً.”
رفع الإمبراطور صوته قليلًا، وكأنه يقصد أن يسمع النبلاء جميعًا ثناءه لجهودها.
وهنا وثب الماركيز من مقعده، و عروقه منتفخة، وصاح بحدّة.
“جلالتك! الصيّادة الخائنة ريفينانت كانت على معرفة قديمة بسيّدة التنين الأسود هذه، وذلك بوقت طويل قبل كل ما حدث! فهل يُعقل أن لا تكون هناك صلةٌ بين خيانة صيّادة التنانين تلك وبين التنين الأسود نفسه؟ أيمكن أن يكون كل ذلك محض مصادفة؟”
“…..عمّي…..لا، الأمير المعزول دانيال. إن ما تتفوّه به ليس سوى افتراء.”
قال كارل ذلك بصوت منخفض متماسك، غير أن نبرته كانت غاضبة من إصرار الماركيز على تلفيق الشؤم للتنين الأسود.
“أتسميه افتراء، يا ابن أخي؟! صيّادة التنانين نفسها أقرت أنّ خلافها مع سيّدة التنين الأسود بدأ بعد أن صادفا معًا إيدلين مصادفة! إيدلين، والتنين الأسود، وصيّادة التنانين…..ألا ترى؟ أن القدر يعيد سيرة العداء بين يغدراسيل والتنين الأسود، بيغدراسيل يتكرر!”
كان الارتجاف الذي سيطر عليه قبل قليل أشبه بمسرحية.
و صوته الذي دوى قويًا صلبًا، لم يثر ضوضاء كبيرة، لكنه زعزع أجواء مقصورة النبلاء وزرع الاضطراب في قلوبهم.
“إنه لأمر غير مسبوق في تاريخ الإمبراطورية الممتد منذ أكثر من ألفٍ وستمائة عام، منذ عهد يغدراسيل و بيغدراسيل، أن يولد تنين فضي وتنين أسود في الجيل نفسه! أترون ذلك مجرد مصادفة؟!”
أدارت سيان رأسها قليلًا، تخفي طرف ابتسامةٍ ساخرة على شفتيها.
للوهلة الأولى قد يبدو كلامه منطقيًا، لكن ما دام بلا دليل، فلا حاجة حتى لنفيه.
“تذكّروا قولي! قد تتظاهر هذه المرة بأن التنين الأسود يحمي العرش، لكن لا شك أن هذا التنين الملعون سيجرّ الكوارث على الإمبراطورية..…!”
—طَاخ!
انفجرت القاعة بصوت صاعق قاطع، إذ هوى الإمبراطور بقبضته على الطاولة، وقد بدا أنه بالكاد يملك ما يكفي من قوة ليبقى جالسًا.
“أتجرؤ على أن تنطق بهذا الهراء؟! إن كان هنالك من جلب المصائب إلى هذه الإمبراطورية بدافع الطمع الفارغ رغم أنكَ محرومٌ من العرش بقانون البكورة، فهو أنتَ، أنت وحدكَ!”
“قانون البكورة..…!”
صرخ الماركيز كوحش محاصر، وعيناه محمرّتان بالدم.
“قانون البكورة قانونٌ ظالم! كيف يعقل أن يولد الأبناء من أبٍ واحد وأمٍ واحدة، ثم يُحرم جميعهم من العرش إلا الأكبر؟! هذا ظلمٌ فادح، لا عدل فيه!”
“أنتَ بهذا العمر، و ما زلتَ تتحدث عن عدالة القانون ومساواته يا دانيال؟”
ردّ الإمبراطور بصوتٍ غاضب هادئ. ولأن نبرته قبل قليل كانت هادرة تكاد تنقضّ على عنق الماركيز، بدا صوته الآن واهنًا، كفتيل شمعة توشك أن تنطفئ.
“لهذا السبب، اخترتَ أن تسلك الدرب نفسه مع تلك الصيّادة الحمقاء التي رغبت أن تصبح سيّدةً للتنين رغم أنّه لم يخترها.”
“جلالتك..…!”
“خير وشر، عدل و ظلم…..قيمٌ متقابلة لا حصر لها، لكن العالم ما هو إلا خيوط متشابكة من هذا وذاك. لا وجود لمن هو خيرٌ محض، ولا لمن هو شرٌّ مطلق. فأيّ إنسانٍ يخلو من الطمع؟”
لمح هندريك بطرف عينه نحو كارل.
و كان كارل يراقب المواجهة بين الإمبراطور والماركيز بوجهٍ عابس، وحين شعر بنظرته التفت إليه متسائلًا بحركة شفاه: ماالأمر؟
لكن هندريك لم يجبه إلا بهز رأسه نفيًا.
“العالم يا أخي ليس عادلًا بطبيعته. فمن يولد محرومًا، ومن يولد بنعيم، ومن يشتهي المزيد، جميعهم تدفعهم رغباتهم إلى الدم. إنّ الرغبة بحد ذاتها ليست خطيئة. لكن إن امتلأ العالم بالساخطين على ظلمه، وانكبّ كل واحد يسعى لإشباع عطشه بأي ثمن…..فما الذي سيؤول إليه العالم؟”
ارتجف صوت الماركيز، وأسنانه بارزة وهو يضغط عليها بشدّة.
“لقد كان بيغدراسيل، في ذلك العالم البدائي قبل أن يُسنّ فيه أي قانون، رمزًا للطمع الجامح وأعظم قوة لا تُقهر. ولهذا ظلّ في ذاكرة الإمبراطورية شرًّا مطلقًا. وليس السبب في أنّ قشوره كانت سوداء فحسب.”
وفي ختام كلماته، ارتسمت على محيّا الإمبراطور ابتسامةٌ باردة، تحمل مرارة السخرية.
_________________________
خلصتوا؟ حشا كل ذاه هذر الماركيز مايتوب
المهم سيان طلعت وقلبوووس خذها ياكارل وهجو من ذا الامبراطورية مافيها خير
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات