كان في حالة احتضار يتأرجح وعيه باستمرار، فظنت أنه لن يلاحظ، لكن يبدو أن حاسته السادسة كانت خارقة.
‘هل كنت أحدق فيه بشكل فاضحٍ هكذا؟’
ثم سرعان ما استعادت تركيزها.
إنه اختبار، مجرد اختبار. لا يمكنني التراجع الآن.
“سمعت أنكَ طيبٌ مثل القديسين، لكن لم أسمع أنك نرجسيٌ أيضاً، ما هذه الثقة بالنفس؟ عيوني حارة دائماً، لأني شغوفةٌ بالحياة.”
“إذاً لا بأس. لا بد أنكِ تدركين تماماً أنني لا أستطيع دفع أي شيء حالياً، لكنكِ طلبت عربوناً، فظننت لوهلة أن الأمر كذلك فقط.”
قال الأمير ذلك وأضاف: “هذا مطمئن.”
مظهره كان تماماً على ذوقها، لكن لسانه لم يكن كذلك.
مطمئن؟ ما المطمئن في هذا؟
نقرت سيان بلسانها منزعجةً وهي تتنفس الصعداء دون أن تدري السبب.
“إذا لم يكن الدفع مقدماً، فهناك الدفع لاحقاً. وحتى لو أسأتَ الفهم، لماذا يكون سوء الفهم مزعجاً ومقرفاً إلى هذا الحد؟”
هذه المرة عبس الأمير بشدة.
“ألم تكوني أنتِ من قال أن المال لأجل من سينجون؟ إذاً من الطبيعي أن أفترض أنكِ تريدين الدفع مقدماً الآن. إذا فشل الأمر، فلن نستطيع استرجاع المال، ولا يمكنني التجول لجمع أموالٍ لا أملكها أصلاً.”
عند كلمات الأمير، شعرت سيان أنها أخطأت.
في الحقيقة، لم يكن يقصد الدفع المسبق بل أرادت أن تطرح عرض تقسيم بنسبة ٦ إلى ٤، لكن بعدما سمعت كلامه، وجدت أنه محق.
“…..على أي حال، حتى لو حصل لك شيء، لا بد أن لديك على الأقل نبيل يمكنه أن يدفع بالنيابة عنك، أليس كذلك؟ أنت الأمير الثالث كارلستون كلاوس، حتى وإن تم نفيكَ، فهل تفتقر لتلك العلاقات؟ اكتب لنا على الأقل سنداً باسمك.”
ضحك الأمير بسخرية.
“أنا متهمٌ بقتل ملك التنانين، هل كنتِ لتساعدينني لو كنتِ مكانهم؟”
“ألا يعرفك إلا الحمقى الذين يصدقون ذلك حرفياً؟”
ساد التوتر الأجواء.
كانت سيان من جهه، والأمير من جهه، كلاهما قد بدأ يفقد صبره، وانعكس الانزعاج في نبرة كلامهما.
وبشكلٍ طبيعي تحوّل الحديث إلى مشادة كلامية. و من أنهى هذا الجدال المليء بالضيق أولاً كان الأمير كارلستون.
لم يجب على سؤال سيان الحاد، بل ظل يحدّق في عينيها وكأنه يفكر في شيء ما.
“الآن بعد أن فكرت بالأمر، أنتِ..…”
“توقف عن مناداتي بـ(أنتِ) بهذه الطريقة الرسمية. لدي اسم أيضاً.”
“حسناً، آنسة سيان.”
“…..واحذف كلمة ( آنسة ) أيضاً.”
لماذا أذناي تشعران بهذه الحكة؟
عبّرت سيان عن ضيقها من اللقب المحرج وهي تحك أذنها ورعقد شفتيها بانزعاج.
“حسناً، إذاً، سيان.”
غيّر الأمير لقبها بسلاسة حين تغيّر موقفه، مما أثار دهشة سيان التي تمتمت في نفسها: “هاه.…”
اتضح أن سبب الحكة المفاجئة في أذنيها كان نبرة الأمير الجديدة. فأذناها لم تعتادا بعد على الصوت العميق للرجل الذي تحوّل من مفاوض إلى أمير رفيع المقام، فبدأت تشعران بإحساس غريب.
“هل تثقين بي؟”
سأل الأمير، فردّت سيان بعينين نصف مغمضتين وكأنها لا تفهم ما يقصد.
“هل علاقتنا قريبة لدرجة أن نتحدث عن الثقة؟”
عندما سألت سيان، التزم الأمير الصمت للحظة دون أن يجيب.
“بالطبع لا، ولكن..…”
ثم ارتسمت على وجهه تعابير معقدة، وكأنه أراد قول شيء لكنه لم يعرف كيف، فاكتفى بالتمتمة دون إتمام الجملة.
رمشت سيان منتظرةً ما سيقوله بعد ذلك، لكن الأمير سرعان ما نقر لسانه بخفة وغيّر الموضوع.
“أجواء قلعة إيفاريد لن تكون سلميةً إلى هذا الحد. من المحتمل أن رجال أخي قد تمركزوا هناك بالفعل.”
“…….”
“في ذلك الوقت، كان اهل إيفاريد جميعهم في صفي، لكن لا أدري كيف أصبحت الأمور الآن.”
أضاف الأمير ذلك. يم نظرت إليه سيان مطولاً.
رغم أنه كان يشك في خيانة من كانوا إلى جانبه، لم تظهر على الأمير أي علامات حزن.
كانت نبرته هادئة، وكأنما يكتفي بالتنبيه إلى الخطر، ما جعل الأمر يبدو غريباً في نظر سيان.
هل اعتاد ذلك؟ أم أنه ماهر في إخفاء مشاعره؟ لا يمكن الجزم.
ولم يكن واضحاً أيضاً لماذا يطلق تحذيراتٍ لا لزوم لها.
“لستُ ساذجةً إلى درجة ألا أُدرك ذلك. سأعتبره مجرد تحذير يدعوني للاستعداد جيداً.”
لا يُعرف بالضبط ما الذي كان يقصده بكلامه، لكن على أية حال، تقبّلت سيان تلميح الأمير بسلاسة.
وبينما التقت عينيهما للحظة، ارتسمت فجأة على شفتي الأمير ابتسامةٌ خفيفة.
“جيد، هذا مطمئن.”
كانت ابتسامةً صافية وصادقة. خالية من أي حذر أو محاولة لجس النبض، مما جعل سيان تشد شفتيها لا إراديًا.
كلمة “مطمئن” لم تحمل أي نبرة كذب، بل بدت صادقةً تمامًا. وشعرت سيان بانزعاج غريب من صدقه ذاك.
…..ليست إلا كلماتٍ حلوة مكررة لا أكثر.
فكّرت سيان بذلك. فلا بد أنه قالها دون نية أو تفكير خاص.
ورغم أنها تعرف ذلك جيدًا، لم تفهم لماذا خفق قلبها فجأة، ولا ما سبب ذلك الشعور الغريب بالكآبة الذي تسلل إليها.
“إذاً، لننهي الأمر. هدف تحالفنا المؤقت الأول هو استرداد الأموال السرية الخاصة بسموك الموجودة في إيفاريد.”
عندما تكلّمت سيان محاولةً تهدئة مشاعرها المعقدة، اختفت ابتسامة الأمير من على وجهه.
“…..تعبير (أموال سرّية) يبدو غير مريحٍ قليلاً..…”
“ولماذا؟”
اتسعت عينا سيان بدهشة.
“لأنها ليست أموالاً جُمعت بدافع الجشع أو بطرق غير قانونية، لذا دعينا نتفق على تسميتها (أملاكاً خاصة).”
تنحنح الأمير قليلاً وقال ذلك بحذر.
“طالما هي أموالٌ لا يعرف بها أحد سواه، فهي أموال سرّية بكل الأحوال.”
“…….”
تمتم سيان بذلك بنبرةٍ متذمرة، فضاقت عينا الأمير بحدة.
وتحت وطأة هذا الضغط الصامت، عبست سيان قليلاً ولوّحت بيدها وكأنها تستسلم.
“آه، فهمت، فهمت. إذاً ليكن هدفنا استرداد الممتلكات الخاصة بسموك.”
“كارلستون.”
“…..عفوا؟”
كان الحوار على وشك الانتهاء بمجرد تلخيصه، لكن تدخل الأمير المفاجئ أربك سيان.
وبسبب تقديم الأمير لنفسه دون مقدمة، عبست سيان وانكمشت شفتاها بانزعاج.
“من الآن فصاعداً، لا داعي لمناداتي بـ( سموك ). يمكنكِ مناداتي بـ(كارلستون) أو (كارل).”
“آه…..ولكن..…”
“يوجد عشرات الأشخاص في هذه الإمبراطورية يحملون اسم (كارل)، لكن (سموه) هناك اثنان فقط.”
قالها الأمير كارلستون ذلك، وقد أسند ذقنه إلى يده بزاوية مائلة، بينما نظر مباشرةً في عيني سيان.
“آه..…”
خرج صوتٌ من فم سيان بلا وعي، دون أن تدري لماذا.
كان محقًا فيما قال. فالأشخاص الذين يمكن مناداتهم بلقب “سموك” لا يتعدون اثنين: الأمير الثاني، غيريَات كلاوس، والأمير الثالث، كارلستون كلاوس.
ولو ناداه أحدهم بلقبه في الخارج كما هو الآن، فسيكون الأمر أشبه بنصب لافتة تعلن أن الأمير المتهم بقتل ملك التنانين موجودٌ هنا.
“…..إذاً، كارلستـ…..لا، كارل.”
نطقت سيان الاسم المسموح لها به بحذرٍ شديد.
رغم أنها تفهم الأسباب، إلا أن مناداة أمير باسمه الأول لم تكن سهلةً بالنسبة لها، خصوصاً وهي مجرد مرتزقة بسيطة.
“نعم.”
جاء الرد بكل رضا، وبسرورٍ واضح، وكأن كارل قد سُرّ بهذا الاسم الذي نُطق وكأن صاحبته مجبرةٌ عليه.
عقدت سيان حاجبيها لا إراديًا. فالأمير، أو بالأحرى، “كارل”، كان قد أمال رأسه قليلاً، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامةٌ هادئة.
***
“الطبيب جيفي، أظن أنني لا أشعر بأنني بخير…..هل يمكنكَ إلقاء نظرة؟”
كان المرتزقة مجتمعين معًا و يتناولون الطعام، لكن بمجرد أن ظهرت سيان وقالت هذه الجملة فجأة، توقّف الرجال جميعًا عن الحركة في اللحظة نفسها، وكأنهم كانوا متفقين على ذلك.
“تقولين أنكِ لست بخير؟”
“أأنتِ نونا؟ سيدتنا حقاً؟”
“…..يا إلهي..…”
بدأت تنهال التعليقات المندهشة من كل اتجاه، دون أن يسبق أحدهم الآخر، وكأن أحدًا لا يصدق ما سمع.
“اصمتوا جميعًا. هذا نذير كارثةٍ ستحلّ بالإمبراطورية.”
قالها الطبيب جيفي ذلك وهو ينهض فجأةً بوجه جاد ليحاول تهدئة هذا الفوضى المريعة.
أما سيان فقد أصبح تعبير وجهها بارداً ومتهكماً.
“أتعني حالتي الصحية السيئة تُعتبر من مستوى الكوارث الوطنية؟”
لم تجد ما تقوله من شدة الدهشة. ما الذي يظن أولئك الحمقى أنها عليه بالضبط؟
“لا، لم أقصد ذلك. أعني أن وجود نونا بيننا يمثل مركز ثقلٍ كبير في فرقة المرتزقة…..شيء من هذا القبيل..…”
“مركز ثقل، هراء!”
قالت سيان ذلك بحدة، فما كان من الطبيب جيفي إلا أن ضحك ضحكةً باهتة وهو يشعر بالإحراج.
“على أية حال، نونا، لنذهب إلى خيمتي ونتحدث هناك. تقولين أنكِ لا تشعرين بأنكِ بخير…..ما الأعراض؟ سعال؟ حرارة؟ تورّم؟”
غيّر الطبيب جيفي نبرته فجأة، ليصبح مثل موظف استقبال لطيف، محاولاً تغيير الجو وهو يرافق سيان بلطف إلى خيمته.
أما سيان فكانت قد شبكت ذراعيها وظلّت تحدّق فيه بنظراتٍ حادّة بلا رحمة.
“لا شيء من هذا. فقط…..قلبي بدأ ينبض بشدة فجأة من وقت لآخر، بلا سبب واضح، وهذا ما أزعجني.”
“قلبكِ؟”
فجأة اتسعت عيون الدكتور جيفي، وتراجع خطوةً إلى الوراء وهو ينظر إلى سيان من الأعلى إلى الأسفل. ثم مال رأسه بتعبير متشكك.
“من الظاهر، تبدين بصحةٍ جيدة جدًا..…”
“الآن أنا بخير. ولكن في الآونة الأخيرة، يبدأ قلبي في النبض بسرعة دون سبب، وأشعر بحرارةٍ مفاجئة على وجهي.”
“دون سبب..…”
همهم قليلاً بينما وضع يده على ذقنه.
“في الحقيقة، إذا لم تكن هناك أعراضٌ واضحة، فسيكون من الصعب إجراء تشخيص. إذا لم تكن الأعراض شديدة، سيكون من الأفضل أن تراقبي متى تظهر هذه الأعراض بالضبط، ثم تخبريني بمزيدٍ من التفاصيل.”
فكر قليلاً، ثم مدّ شفتيه وكأنما لا يعرف ما الذي يقوله بالضبط.
شعرت سيان بخيبة أملٍ كبيرة من كلامه، فقد كانت قد أتت إليه لتشكو من أعراضها باحثةً عن حل، ولكنها الآن بدأت تشك في جدوى الحديث معه.
ثم وضعت سيان تعبيرًا مرتبكًا.
“عادةً ما يحدث عندما..…”
حاولت أن تشرح بمزيدٍ من التفصيل للحصول على إجابة واضحة، لكن لم تستطع إنهاء جملتها وأخذت تتهرب من إتمام الكلام.
متى كانت الأعراض أسوأ؟ آخر ذكرى كانت لديها هي عندما ابتسم الأمير، أو بالأحرى، الرجل الذي يجب أن تناديه الآن بـ “كارل”، ابتسم ابتسامةً هادئة.
لم يكن سوى اسم مُعتمد نطقت به، وكان هو يرد عليها بابتسامةٍ صادقة، كما لو أنه صديقٌ قديم.
ابتسامته الخالية من الحذر جعلت قلبها يتوقف فجأة عن الخفقان، لدرجة أنها شعرت بحرارة مفاجئة على وجهها.
كان تأثير تلك اللحظة قوياً للغاية لدرجة أنها شعرت بارتفاع درجة حرارتها، واضطرت للانسحاب بسرعة من المكان.
هذا العرض الغريب استمر لفترةٍ طويلة بعد ذلك.
وكانت سيان، التي كانت تتمتع بصحة جيدة طوال حياتها، قد ذهبت إلى الطبيب جيفي لتستشيره، وكانت تعلم جيدًا أن المرتزقة سيتفاجأون بما حدث لها.
__________________
علاقتها مع المرتزقة تجنن وتضحك 😭
اجل عشانها مرضت صارت كارثه؟ ضحكتت
وسيان جتها اعراض البطل الي يحسب الوقوع ذاه مرض ✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 8"