قال كارل ذلك بابتسامة ساخرة خفيفة، بصوت بدا عادياً إلى حدّ أثار غيظها، وكأن كل القلق الذي عاشته لم يكن مستحقاً.
لم يغضب كما كانت تخشى، ولا حتى إحساسٌ بالخيانة أو خيبة الأمل. مجرد نبرةٍ مسالمة، خالية من أي أثر للاضطراب.
“كنتِ خائفة، أليس كذلك؟ كما يلعن العالم الآن التنين الأسود، خشيتِ أن أرفضك أنا أيضاً.”
كان ذلك صحيحاً تماماً.
“……حتى والدي لم يستطع تقبّل تنيني. كان يؤمن أن وجوده سيجلب الكارثة للإمبراطورية التي قامت على حربٍ بين التنين الفضي والتنين الأسود.”
“يا له من أحمق.”
ضحك كارل باستهزاء قصير.
“الأساطير…..ليست سوى أساطير. هل الصباح خيرٌ بطبيعته؟ إذاً، هل يعني ذلك أن الليل شر؟”
ظلت سيان تحدّق في كارل بذهول، غير قادرةٍ على تصديق ما تسمعه، فقد كانت تلك أول مرة تسمع فيها مثل هذا الكلام.
“الصباح مشرق، والليل مظلم، لا أكثر. أما أن يُعَدّ النور خيراً والظلام شراً…..فمن يدري يأيّ عقل وضع مثل هذا المقياس؟”
قال كارل ذلك، ثم تناول ببرود كأس الشاي الذي كانت سيان تحتسيه، وكأنه ملكه.
“وما شأني أنا بتلك الأحكام السخيفة التي صنعها الناس؟ التنين…..ليس سوى تنين. إن كان خوفكِ من مثل هذه الترهات هو ما منعكِ من الكلام طوال هذا الوقت، فأنا من يشعر بالخذلان.”
“…….”
“أتعلمين؟ نحن الاثنان، بطريقةٍ ما، ضحيتان لتلك الأحكام نفسها. ناثان هو ناثان، وإيدلين هو إيدلين، لكن الناس يصرّون على أن ناثان، لمجرد أنها تابعةٌ لولي العهد، شيءٌ دنس، بينما إيدلين، بصفته وريث إيغدراسيل، مخلوقٌ استثنائي. أما أنا، مالك إيدلين، فيجب أن أرث العرش…..وكأن ذلك قدري المحتوم، رغم أن العرش لا يعنيني في شيء.”
اشتعلت مقلتا سيان بحرارة مفاجئة، وما إن انحنت برأسها خشية أن يفضحها شعورها، حتى سقطت قطرةٌ دافئة على ظهر يدها المشدودة.
“ما الأمر؟ هل تبكين ثانيةً؟”
كارل الذي كان قد ارتشف الشاي مرة أخرى، فوجئ عند رؤيته سيان تخفض رأسها باكيةً، فوضع الكأس بسرعة على الطاولة.
ثم مسحت سيان دموعها المتساقطة بظهر كفها وهي تشهق بأنف مرتجف.
“لا تلمني…..حين تقول مثل هذا الكلام فجأة، لا أستطيع تمالك نفسي. لم يقبل أحدٌ من قبلُ تنيني بهذه الطريقة.”
“إذاً تقبّلي الأمر بفرح، لم البكاء؟”
“وما الذي تعرفه؟ فأنتَ شخصٌ وُلد معشوقاً، مُبجَّلاً بصفته مالك إيدلين منذ لحظة ميلاده.”
ضحك كارل بسخرية قصيرة.
“وماذا كنتِ تظن أني أقصد بكل ما قلته لكِ من قبل؟ قلت لك أنني ضحيةٌ أيضاً. حين غادرتُ القصر الإمبراطوري لم أكن سوى صبي في الحادية عشرة من عمري. أتظنين أن من وُلد ونشأ في راحة القصر، ثم اضطر للخروج إلى البراري ليكدّ في البناء، قد وجد في ذلك متعة؟”
قال كارل ذاك بنبرة جافة وهو يمد يده ليخرج من جيبه منديلاً ويناوله لسيان.
فحدّقت سيان للحظة في المنديل الممدود فوق الطاولة، ثم أخذته ونفخت أنفها فيه بقوة. بينما راقبها كارل بصمت، قبل أن يعقد حاجبيه فجأة كما يفعل أحياناً.
“أظن أن هناك سوء فهم كبير عندكِ منذ آخر مرة…..حين يناول رجلٌ امرأةً تبكي منديلاً، يكون المقصود به مسح الدموع، لا ذلك..…”
“الدموع أو هذا، ما الفرق؟ المهم أنكَ أعطيتني إياه لأستخدمه.”
لم يجد كارل ما يرد به، فاكتفى بالصمت وهو يحدّق في منديله الذي صار ملطخاً، بنظرة يختلط فيها الضيق بالعجز.
“…..غبية.”
لم يطل بكاء سيان هذه المرة كما حدث في معبد التنين.
و بعد أن أفرغت دموعها من العفن الذي علق في ذاكرتها، ومن الخوف والذعر والتوتر الذي كتمها طويلاً، شعرت بخفة غريبة وراحة لم تعرفها من قبل.
لكن ما إن هدأ قلبها، حتى بدأ ينبض بقوة على تلك الانفجارات العاطفية.
فتمتمت ساخرةً بصوت منخفض،
“صحيح…..كنتُ غبية في الآونة الأخيرة.”
لم يكن تعلقيها يعني الموافقة، ومع ذلك، أومأ كارل برأسه موافقاً بحرارة، وكأنه يجد في العبارة حقيقةً لا تقبل الجدال.
عندها بردت نظرات سيان فجأة.
“إن لم تملكي الشجاعة لتقولين كل شيء بوضوح، لكان من الأفضل أن تدفنين الأمر من البداية.”
رمقت كارل بنظرة حادة من بين عينين ما زالت آثار الدموع تلمع فيهما، أما كارل فاكتفى بابتسامة هادئة، شبه ماكرة، ترتسم على شفتيه.
ثم امتدت يدٌ دافئة تمسح برفق عند طرف عينيها، و ما إن لامست أصابعه الدموع المتجمعة حتى تلاشت كأنها لم تكن.
حدّقت سيان مذهولةً في أصابع كارل وهي تلامس وجنتها للحظة، ثم تنسحب مبتعدة، وكأنها لم تفق بعد من أثر تلك اللمسة.
“أتمنىفقطأنتجدي الطريقالذييقودكِإلىسعادتكِ.”
ثم تساءلت في نفسها إن كانت الكاهنة في معبد التنين، التي بدا وكأنها تعرف كل شيء، قد توقّعت حتى هذه اللحظة عند قولك ذلك.
هل دَفعتها برفق إلى الأمام، بتلك المساندة التي تشبه المحبة، لعلمها بأن الأمر سينتهي هكذا؟
“…..حسناً.”
لو كانت تعلم أن الأمر سيؤول إلى هذا، لكانت تحلّت بالشجاعة منذ البداية وذهبت إلى المعبد بنفسها.
والآن، شعرت بندم متأخر يلسع قلبها.
في تلك الليلة الحالكة، حين كان ظل التنين الأسود “لونا” يحجب حتى ضوء القمر، كان عليها ألا تهرب، بل أن تذهب بنفسها إلى المعبد.
لو فعلت، لكانت قد استقبلت الصباح أبكر بكثير.
لو كانت تعرف أن الصباح يمكن أن يكون بهذه الروعة، و بهذه القسوة المبهجة التي تكاد تمزق صدرها من الفرح والرجفة.
“أنا…..أنا معجبةٌ بكَ، يا صاحب إيدلين، سموك.”
أوصلت سيان كلماته بوضوح أكبر، وبنبرة أكثر يقيناً، نحو كارل الذي بدا وكأنه لم يصدق ما سمعه.
فاتسعت عيناه في ذهول.
“……أه……”
تمتم متلعثماً، غير قادر على ترتيب أفكاره أمام هذا الاعتراف المفاجئ.
“هكذا فجأة..…؟ كنتُ أعلم، لكن أن تقوليه صراحة…..هذا مربكٌ فعلاً.”
‘يا له منأحمق.‘
تمتمت سيان في سرّها، وهي تبتسم بخفة دون أن تشعر.
اختفت تماماً تلك الحِدّة التي ارتسمت على ملامحها قبل لحظات حين خمّن أنها مالكة التنين الأسود، وحلّت محلها تعابيرٌ مذهولة، غبية بعض الشيء، لكنها جميلة ولطيفة على نحو يثير القلب، بل وأكثر من ذلك…..ساحرة إلى حد الكمال.
“كنتُ أظن أنك ستُصاب بخيبة أمل حين تعرف الحقيقة. فأنتَ مالك إيدلين، بعد كل شيء.”
“وما أهمية ذلك؟ سواء كان تنيناً أسود أو فضياً، فكلها أمورٌ تعود إلى زمن أقدم من تأسيس الإمبراطورية نفسها.”
ارتسمت على شفتي كارل ابتسامةٌ مشوبة بالدهشة، وكأنه لا يصدق جدّية كلماتها.
أما سيان فبادلته بابتسامةٍ رقيقة.
“كلامكَ فيه بعض المواساة حقاً. لكن، هل سيُفكّر العالم من حولنا بهذه البساطة؟ في نظرهم، تنيني ليس سوى كائن شرير سيجلب الكارثة للإمبراطورية، تماماً كما كان والدي يقول.”
“…..وهذا هو المأزق.”
نطق كارل بنبرة مترددة، تحمل قدراً من الانزعاج.
“في الحقيقة، لو أن معبد التنانين اعترف الآن بوجود التنين الأسود، فستزداد الفوضى أكثر. و ريفنانت ستستغل الأمر ليلصق به تهمةً أعظم.”
ظلّت أصابع سيان تعبث بحافة كأس الشاي، تصغي بصمت إلى كلماته. “اتهامات التنين الأسود”…..لكنها لم تقتنع.
و قد كان بداخلها يقين بأن غاية ريفنانت أبعد من ذلك بكثير.
“…..اسم تنيني لونا.”
رفع كارل رأسه فجأة نحوها عند سماع الاسم غير المتوقع، يحدّق فيها بصمت.
“لونا لم تخرج من عشها منذ زمن طويل جداً. فهي تخشى أنه إن خرجت، سينكشف أمرها لبقية التنانين أو للبشر. لذلك، منذ اليوم الذي اختارتني فيه، لم تظهر للعالم مرة أخرى..…”
“بالنسبة لهجوم بريتا، فأنا أيضاً أعلم أنه كان كذبة. ناهيكِ عن حادثة اغتيال ملكة التنانين.”
ظن كارل أن اعتراف سيان المبتور عن السياق لم يكن سوى محاولة للتبرئة، فابتسم ابتسامةً باهتة ساخرة وهو يرد عليها، لكن سيان لم تكن تقصد ذلك إطلاقاً.
“هل يمكنني أن أحضر اجتماع النبلاء معكَ؟”
“أنتِ؟”
اتسعت عينا كارل بدهشة، فأومأت سيان برأسها بثبات.
“يمكنني الحضور بصفتي خطيبتكَ، أليس كذلك؟”
تأمل كارل وجهها طويلاً، محاولاً فهم دوافعها لحضور اجتماعٍ كهذا، لكن ملامحها الهادئة لم تفصح عن شيء يمكنه قراءته.
“ستسمعين أشياء تجرحكِ هناك. لن يكون لكِ حق الكلام، فأنتِ لستِ مسجلةً ضمن مجلس النبلاء. هل ستكونين بخير مع ذلك؟”
كان موضوع الاجتماع يدور حول وجود التنين الأسود وكيفية التعامل معه.
وكان من المؤكد أن النبلاء سيتناوبون على تمزيق سمعته بالاتهامات، مطالبين بمطاردته وتطهير الإمبراطورية منه، مدفوعين بالإشاعات التي اجتاحت العامة.
بالنسبة لسيان، التي لم ترتكب أي ذنب، بل أخفت وجودها الحقيقي طوال هذا الوقت، بدا الاجتماع ساحةً بالغة القسوة والضيق. لذلك راقبها كارل بقلق، لكن سيان اكتفت بابتسامة غامضة لا يمكن تفسيرها.
“أنا حقاً…..حقاً أحبكَ، يا سمو الأمير.”
لم يعد كارل قادراً على مجاراة مجرى الحديث. فقد جاء اعترافها المفاجئ مرةً أخرى في توقيت غير متوقع، وجعله هذه المرة لا يشعر بالخجل أو الفرح، بل بالقلق البالغ.
“كارل، واضحٌ من وجهكَ أنك تفكر بأني مجنونة. لكني أقول هذا بكامل وعيي.”
ضحكت سيان على صراحته المرسومة على ملامحه، بينما ارتبك كارل، وأطلق سعالاً مفتعلاً ليتدارك انفعاله.
“كنتُ فقط أريد أن أقولها. في البداية كنتُ أحب وجهكَ الوسيم فحسب، أما الآن…..فأحب فيكَ كل شيء.”
كان اعترافها مشبعاً بالصدق لدرجة جعلت كارل يشعر بشيء غريب يزحف إلى صدره، فانعقد حاجباه في ارتباك.
“…..ما الذي يدور في رأسكِ؟”
“لا شيء. مجرد اعتراف. أنا أقول أنني أحبكَ، فلماذا كل هذا الشك؟”
ابتسمت سيان ببراءة وهي تستعيد بهجتها المعتادة.
“إذاً لماذا..…”
لماذايبدوكلامكِوكأنهوداع؟
أراد أن يكمل، لكن ابتسامتها المشرقة قاطعته قبل أن ينطق.
“الاعتراف…..يبقى مجرد اعتراف. لا يحمل أي معنى آخر.”
“…….”
“أشعر أن قراري بالقدوم إلى القصر معكَ كان صائباً. لو لم أفعل، لما عرفت أنكَ ستتقبّلني بهذه البساطة، وكنتُ سأظل أعيش في تردّد عقيم، أتعذب بين مشاعر الندم والعزلة كما اعتدتُ دائماً.”
كان في كلماتها صدقٌ لا يمكن إنكاره، ومع ذلك، راود كارل إحساسٌ مزعج بأنها تُلقي عليه مشاعرها وكأنها آخر ما ستقول، فظل يقطب جبينه عاجزاً عن الرد.
“شكراً لكَ…..لأنكَ لم تُصبني بخيبة أمل، ولم تغضب مني.”
“هذا أمرٌ بديهي. كل ما في الأمر أنكِ كنتِ سيئة الحظ.”
أومأت سيان برأسها استجابةً لكلماته الدافئة.
لم تكن قادرةً على تحديد ما إذا كان حظها السعيد هو لقاؤه، أم أن حظها العاثر كان في ولادتها تحت ظل والد كهذا.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 69"