كان كل ما أراد التحقق منه قد أُكدّ بالفعل. و لم يكن هندريك يرغب في إثقال كاهل الطبيب، الذي كان أصلاً متوترًا بشكل واضح، بأي ضغط إضافي.
لكن الغريب أن الطبيب نفسه بدا كأنه لا يريد الرحيل، وكأن في صدره شيئًا آخر يريد قوله.
“صاحب السمو، أنتَ، بصفتكَ سيد تنين، تدرك هذا جيدًا…..التنانين كائنات عليا، تمتلك قوى غامضة تُدعى السحر.”
بدأ الطبيب حديثه بتردد واضح، وكلمات حذرة، بينما كان هندريك يحدّق فيه بوجه خالٍ من أي تعبير.
“…..ثم ماذا؟”
“إن لم يكن الفاعل تنينًا آخر من نفس المرتبة، فلا يمكن قتل تنين بسهولة على الإطلاق. غير أنني، بعد أن تلقيت أمركم وتفحصت جثة ملكة التنانين بعناية..…”
توقف الطبيب فجأة عن الكلام، وصمت بتردد.
لكن هندريك، على ما يبدو، قد فهم ما كان ينوي قوله.
“هل وجدت آثارًا تعود للبشر؟”
“الطعَنات والجروح المقطعة بدت أقرب إلى آثار سهام وسيوف. رغم أن بنية عضلات التنين تختلف كليًا عن عضلات البشر، مما يجعل الجزم صعبًا..…”
كان الطبيب يحاول مواصلة الحديث بصعوبة، ثم، دون أن يحاول إخفاء مشاعره، أطلق زفرةً طويلة أمام ولي العهد.
لم تكن زفرةً من ضيق أو ملل، بل نفسًا مرتجفًا خرج عن خوف خالص.
“إن لم يكن القاتل تنينًا آخر، فإني أرى أن من واجبنا اكتشاف هوية الفاعل في أسرع وقت ممكن، والقبض عليه فورًا.”
كادت ملامح هندريك أن تنكمش غضبًا، لكنه أجبر نفسه على كتمان انفعاله.
“هل كانت جثة ملكة التنانين في حالة مروعة، ومُمزقة إلى حدٍّ لا يُحتمل؟”
تذكّر حين سأله سيد السيف في معبد التنانين ذلك السؤال بوجهٍ غارق في الجدية.
نعم، كانت مروعة. فأول من عثر على جثة ملكة التنانين، إلينا، لم يكن سوى هندريك نفسه.
منذ أن سقط والده الإمبراطور طريح الفراش، تولّى هندريك بنفسه مهمة تفقد أحوال ملكة التنانين، وكان يزور عشها بشكل دوري نيابةً عن والده.
لكن، رغم كونه سيدًا لتنين آخر، لم تكن إلينا تبادله ذلك الترحيب. فالعلاقة بينهما كانت فاترة، وقد تباعدا لبعض الوقت، حتى جاء ذلك اليوم حين زار عشها فجأة…..ليكتشف الكارثة.
عشٌّ غارقٌ في الدم المتيبّس، تحوّل إلى مشهد مرعب، وفي وسطه جثة تنين حمراء كأنها غُمسَت في الدماء.
على خلاف التنانين العادية التي تختار الكهوف أو تضاريس طبيعية لتكون أعشاشها، كانت ملكة التنانين، باعتبارها تنين الإمبراطور، تقيم في مكان خاص…..عشٍّ مصمم يدويًا في أعماق القصر، تحت الأرض، منذ عهد التنين المؤسس.
لكن تلك الجدران، والسقف، والأرضية التي صنعها البشر بعناية، لم تعد سوى خلفيةٍ لسواد كثيف من الدماء الملطّخة في كل اتجاه. فكان من الطبيعي أن تنقلب أروقة العائلة الإمبراطورية رأسًا على عقب.
وفي خضمّ الفوضى، وقبل أن تُنقل جثة إلينا بالكامل أو تُشرّح كما يجب، عُثِر على إحدى قشور إيدلين.
وبهذا، تدحرجت الأحداث بسرعةٍ لم تسمح لأحد حتى بالتفكير في إجراء تشريح كامل أو التحقّق من تفاصيل الوفاة.
صحيحٌ أن ما رآه هندريك في تلك اللحظة كان مؤلمًا وقاسيًا، لكنه لم يكن مرعبًا لدرجة تُجمّد الدم في العروق.
لكن الطبيب، الذي نظر بنفسه في الجثة بدقة، كان يرتجف خوفًا…..وكلماته مشبعةٌ برعبٍ خالص.
فيا ترى…..كم كانت الطريقة التي قُتلت بها إلينا مروعة؟ مجرد تخيّل ذلك بات عسيرًا.
“فهمت، سآخذ هذا بالحسبان.”
قال هندريك ذلك بصوت هادئ قدر المستطاع، محاولًا تهدئة اضطراب أفكاره المتشابكة. فلم يكن هناك داعٍ لإثارة رعب الطبيب الذي كان مرعوبًا أصلاً.
“إذاً، أستأذن بالانصراف الآن.”
استدار الطبيب وقد بدا وجهه أكثر ارتياحًا بعد أن أفرغ ما في صدره، ثم غادر.
وهندريك، دون أن يتحرك قيد أنملة، ظل يحدق إلى أن اختفى أثره تمامًا خلف باب الغرفة.
…..صائدة تنانين، إذاً.
ما إن خرج مدير الطب حتى رفع هندريك يده إلى رأسه، يمسك بجبهته التي بدأت تنبض بألم الصداع، واستغرق في التفكير.
سيان، التي تعرف ريفينانت، أكدت أن زوجة فارس التنين كارتر ما هي إلا صائدة تنانين.
امرأةٌ بدت في ظاهرها عادية تمامًا…..فكيف لها، بمفردها، أن تُمزق ملكة التنانين بذلك الشكل البشع؟
لم يكن الأمر صعب الفهم فحسب، بل كان مخيفًا بما يتجاوز حدود المنطق.
وفوق ذلك، حتى لو ثبت أنهم وراء ما حدث، فلم يكن هناك أي خيط يمكن تتبعه بسهولة. سواءً للماركيز، أوفارس التنين أنطونيو، وزوجته المتنكرة التي في الواقع هي صائدة التنانين، ريفينانت.
لو أنها دخلت القصر بصفتها زوجة فارس تنين، فحينها يصير دخولها وخروجها من البلاط الإمبراطوري أمرًا ممكنًا تمامًا.
وإن فكّر في ذلك، فالفكرة ليست مستحيلة تمامًا، ولكن…..
[نحتاج إلى دليل أوضح، يا سيدي. لن يقتنع مجلس النبلاء بمجرد شهادة شخص يعرف هوية صائدة التنانين.]
تدخلت ناثان فجأة، قاطعةً أفكار هندريك.
فردّ هندريك بلسان خفيف وهو ينقر أسنانه بامتعاض،
“وهنا تكمن المشكلة. إن لم نجد الدليل…..فربما علينا أن نرمي الطُعم.”
[لكن سمو الأمير سيعترض بشدة على ذلك.]
رغم أن هندريك لم ينبس بكلمة واحدة عمّا ينوي فعله، أو ما هو الطُعم الذي سيلقيه، فإن ناثان، وقد قرأت أفكاره جيدًا، ردّت بنبرة واثقة.
[…..على الأرجح، سيكون رد فعله عنيفًا.]
ابتسم هندريك ابتسامةً جانبية باهتة، خالية من أي معنى، وكأنها مجرد تشوّه عابر في شفتيه.
“هل بدا لكِ، حتى من وجهة نظر تنين، أن كارل واقعٌ في حبها تمامًا؟”
[التنانين طويلة العمر لا تملك حساسية البشر، سيدي. ومن الصعب عليّ أن أعرف ما الذي يشعر به سيد إيدلين.]
“حتى أنا، وأنا بشرٌ مثله، لا أفهمه جيدًا.”
ضحك هندريك ضحكةً ساخرة صغيرة، كأنها زفرة خرجت من صدره بدلًا من فمه.
“لم تمضِ على معرفته بها سوى بضعة أشهر، ومع ذلك أصبحا مخطوبَين.”
وما هو أسوأ، أنه كلما وقعت مشكلة، يُلقي على نفسه كامل المسؤولية دون تردد…..كلامٌ لا يمكن وصفه إلا بأنه طائش وغير مسؤول بالمطلق.
[أليس من طبيعة البشر أن يربطوا مصيرهم من أول لقاء واحد فقط؟]
“نعم، هذا صحيح، لكن..…”
هندريك هز كتفيه بلا حيلة، وكأن الأمر خارجٌ عن فهمه.
“أنا نفسي لم أعِش يومًا شيئًا يُشبه ما يسمونه بلقاء قدري…..هي جميلة، لا أنكر ذلك، لكن..…”
ضحكت ناثان ضحكةً خفيفة، لا تخلو من المعنى.
[ربما من الحمق أن نُقوّم العالم بناءً على الجمال، ولكن…..ربما هذه هي طبيعة العالم فعلًا.]
ثم جاءت كلمات ناثان التالية، وكانت بالنسبة لهندريك شيئًا لا يستطيع تقديره، ولا حتى فهمه.
“ما الذي تعنيه بذلك؟”
[يغدراسيل وبيغدراسيل، النور والظلام، الفضة والسواد…..ربما كانت تلك المفاهيم المتضادة، التي بدت متصارعةً في الماضي، تحمل في أصلها خصائص تجذب بعضها بعضًا منذ البداية.]
أمام حديث ناثان الغامض تمامًا، عبس هندريك وقد ارتسمت الحيرة بوضوح بين حاجبيه.
وفي تلك اللحظة بالذات، سُمِع وقع خطوات مسرعة خلف الباب.
“صاحب السمو، أنا جون كريس، قائد فرقة الفرسان الملكية.”
وبعد خطواته المتسارعة، علا صوت طرقٍ حثيث على الباب، يقرع بإلحاح.
“ليدخل. ما الأمر؟”
وما إن أذن له هندريك بالدخول، حتى فُتح الباب بسرعة، وظهر رجلٌ يرتدي الزي الرسمي لفرسان القصر.
ثم انحنى جون كريس بتحية مسرعة، ضاغطًا قبضته على صدره،
“لقد تم الهجوم على عش بريتا، تنينة الفارس أنطونيو كارتر.”
***
كان كارل يقطّب حاجبيه بغضب، والغضب قد حفر تجاعيد عميقة بينهما.
“هل من هاجم العش…..كان تنينًا أسود؟”
“…..كيف عرفت ذلك؟!”
سأل ماكس بدهشة، وقد اتسعت عيناه، وقد أصبح يعمل الآن خادمًا للأمير.
“لأني رأيت العرض الترويجي مسبقًا.”
ردّ كارل بلامبالاة، وهو ينقر بلسانه، وكأن الأمر لم يكن مفاجئًا له أبدًا.
“عرضٌ ترويجي؟”
“نعم، هناك شيءٌ من هذا القبيل.”
ردّ كارل بإجابة غامضة، و ماكس لم يملك إلا أن يحدّق فيه بدهشة، بينما لا يزال وجهه مشوشًا تمامًا.
رغم أن كارل كان يعلم تمامًا كم أن ماكس فضولي ويريد أن يفهم، إلا أنه لم تكن لديه أدنى نية في توضيح المزيد.
…..إذًا، كان ذلك هو سبب تمهيدها للحديث عن التنين الأسود مع سيان مسبقًا. تلك الخطة كانت واضحة.
ومع ذلك، لم يشعر كارل بالرغبة في السخرية.
خبر الهجوم على بريتا، على الأرجح، لم يكن سوى كذبة. فباستثناء ملكة التنانين، التي تمتلك مقرًا معلومًا في أعماق القصر، لا أحد غير سيد التنين نفسه يعرف موقع عشّه.
لذا، سواءً تعرّض عش بريتا للهجوم فعلاً أم لا، لا توجد وسيلةٌ للتحقّق من ذلك.
ومن غير المعقول أن يكذب تنين، لذا إن قيل أنه هوجم، فلا مفرّ من القبول بذلك على أنه حقيقة.
ومن الواضح أن ريفينانت كانت تهدف إلى تضخيم الإشاعات حول التنين الأسود باستخدام هذه القصة.
المشكلة ليست في جهلهم بالحقيقة، بل في عجزهم عن إثبات الكذبة رغم وضوحها.
بريتا، هوجمت من قبل تنين أسود.
كما أن يغدراسيل ظل يُمجّد بعد ألف عام، فإن التنين الأسود ظل، منذ القدم، رمزًا للخوف والرعب.
وكما قالت سيان، الناس لا تهتم بالحقيقة قدر اهتمامها بالعناصر المثيرة.
وهكذا، لا شك أن هذه الإشاعة ستنتشر في أرجاء الإمبراطورية كالنار في الهشيم.
“…..عليّ أن أُقابل أخي.”
بعد لحظة صمت، نهض كارل فجأة من مقعده، وقد قرر ما سيفعله. وكان في طريقه ليأخذ معطفه بنفسه، حين جاءه السؤال.
“هل ترغب أن أستدعي سيدتي؟ لقد خرجت في نزهة للتفكير قليلاً.”
كان ماكس، الذي جاء حاملًا إشاعةً انتشرت بسرعة في أنحاء القصر الإمبراطوري، يبدو متفاجئًا هو الآخر.
قكارل، الذي كان يُدخل ذراعه في كم معطفه، عبس فجأة وكأن شيئًا أزعجه.
“…..لا، سأذهب وحدي هذه المرة.”
“كما تشاء، سيدي.”
أجاب ماكس بكلمات مطيعة، لكن علامات الاستغراب كانت مرسومةً بوضوح على وجهه، وكأن لسان حاله يقول: منذمتى؟
فمنذ أن وصلا إلى القصر، لم يفترقا لحظةً تقريبًا، و دائمًا ما كانا معًا، تحت ذريعة كونها خطيبته.
صحيحٌ أن السبب المعلن هو التخطيط لكشف التهمة الظالمة التي ألصقت بالأمير، لكن الجميع، ما عدا الأغبياء، يعلمون أن تلك مجرد حجةٍ ظاهرية.
“حين تعود سيدتي، سأبلغها أنكَ ذهبت لرؤية سمو ولي العهد.”
فاكتفى كارل بالإيماء برأسه دون أن ينبس بكلمة. ثم غادر الغرفة مباشرة، دون أن يرافقه أحدٌ من الحرس.
___________________
ريفينانت سريعة ما امداها تقول قصة سيان الا عنهم طلعوا اشاعه ثانيه
تعجبني ريفينانت الصدق بس بنفس الوقت ودي سيان بعد هي تسوي شي قوي بس الله ياخذ اهلها الي سببو لها ذا العقده
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات