ومع ذلك، كان الموقف محرجًا بعض الشيء في تلك اللحظة.
فكّرت سيان في الأمر، لكن لم يكن أمامها خيارٌ آخر. فنقرت بلسانها بخفة وسارت باتجاه عربة كارل.
“تبدو ملامحكِ سيئة…..هل حدث أمرٌ ما بالفعل؟”
“لم نصل إلى حدّ الإمساك بتلابيب بعضنا وخوض مبارزةٍ بالسيوف.”
“حسنًا، هذا مطمئن على الأقل..…”
لم تستطع سيان منع نفسها من التحديق في كارل بنظرة جانبية. كان قصدها المزاح، لكن ردّ كارل بجدية: “هذا مطمئن”، وكأنها حقيقةٌ صادقة، مما أثار في سيان مزيدًا من الضيق.
“لكن ما الذي سمعته حتى جعلكِ في هذا المزاج الكئيب؟ رغم قولكِ أنكما لم تتشابكا بالأيدي.”
“وهل التشابك بالأيدي وحده يُسمى شجارًا؟”
“إذًا هل تلقيتِ ضربة؟ لكن لا يبدو على وجهكِ أنك تلقيتِ ضربةً من أحد.”
لو كان يمتلك ذرةً من اللباقة لأطبق شفتيه…..
حتى وجهه الوسيم، الذي كان دومًا يبعث في سيان السرور لمجرد النظر إليه، بات بلا جدوى. ففي أعماق سيان استقر خوفٌ عميق، وزاده تصرف كارل البليد تفاقمًا.
…..لا، ليس هذا فحسب، فحتى لو فكّرت بالأمر بهدوء، كارل لم يكن يومًا شخصًا يتحلّى باللباقة.
تنهدت سيان وأدارا رأسها نافية، مستعيدةً ذكرياتها.
كانت حواراتهما في معظمها مشاكسات لاذعة يتبادلانها، أكثر من كونها أحاديث حنونة تثير الشوق. و لعل وسامة كال المفرطة هي وحدها ما جعلها تتجاهل لسانه اللاذع.
لا بد من الحديث معه على أي حال.
كادت تنهيدةٌ ثقيلة تخرج من طرف لسانها، لكن سيان كبحتها بصعوبة. ففي النهاية، كان الطرف الآخر ممولًا أساسيًا ومهتمًا بما يحدث، لذا لم يكن أمامها سوى إطلاعه على كل شيء بصدق ودون إخفاء.
“ريفينانت أخذت تثرثر بأحاديث غريبة. أشعر أن اجتماع اليوم جُمع فيه أكثر الناس ثرثرةً عمدًا، بهدف نشر تلك القصة في كل مكان.”
“أحاديث غريبة؟”
“عن التنين الأسود..…”
أدركت سيان أن كارل لن يلاحظ ارتجاف صوتها، ومع ذلك كان الكلام صعباً. و بالكاد تمكنت من إخراج صوتها.
“فسّري لي الأمر بتفصيل.”
“أحد أقارب ريفينانت البعيدين يزعم أنه رأى التنين الأسود، سليل بيغادراسيل. وراحت تروج شائعةً مفادها أن قاتل ملك التنانين لم يكن سوى هذا التنين الأسود. بدا وكأنها تتخبط لتصنع قصةً مثيرة من العدم.”
اختصرت سيان القصة وشرحتها بأبسط طريقة.
ر عند ذكر اسم بيغادراسيل، ارتفع حاجبا كارل قليلًا.
“عندما اندلعت حرب التأسيس، كان بيغادراسيل تنينًا وحيداً بخلاف يغدراسيل. لا يمكن أن يكون له ذرية.”
كما هو متوقع من أمير وُلد في البلاط، كان ملمًّا بأساطير التأسيس وأصاب كبد الحقيقة.
ومع الدليل القاطع الذي لا يحتاج إلى نقاش، شعرت سيان بأن مزاجها تحسن قليلًا.
“وما شأننا نحن؟ بالنسبة لمن لا علاقة لهم، يكفي أن تكون القصة مجرد حبكةٍ مثيرة.”
“أيعني هذا أنها حقيقيةٌ بالفعل؟”
“مستحيل، كلها أكاذيب بلا شك. يقال أنها يتيمة لا أهل لها، فأي أقارب يمكن أن يكون لديها؟”
“همم..…”
لم يزد كارل عن همهمة، مكتفيًا بالتكتف، بينما ملأ ضجيج العربة الراكضة على الطريق الفراغ بدل صوته.
“لكن…..لماذا التنين الأسود تحديدًا؟”
“ماذا؟”
“لا نملك دليلًا قاطعًا بعد، لكن من المرجح أن ريفينانت، صيادة التنانين، هي من اغتالت إلينا. أفهم تمامًا رغبتها في إلصاق جريمتها بغيرها…..ولكن لماذا اختارت التنين الأسود بالذات؟”
…..آه.
أدركت سيان ما يحاول كارل قوله، فقبضت يدها بصمت.
“رغم أن محكمة المعبد لم تجد ما يكفي لإدانتها وأبقت الحكم معلقًا، إلا أنها مريبةٌ بالفعل. كان بإمكانها إلصاق التهمة بإيدلين، وهذا منطقيٌ أكثر. فلماذا إذًا لجأت إلى التنين الأسود؟ فحتى لو نقبت في أراشيف القصر الملكي، ستجد الأدلة تتوالى على أن بيغادراسيل لم يخلّف وريثًا.”
الإجابة واضحة تمامًا. لأن سيان نفسها…..هي سيدة التنين الأسود.
بعدما استحال تحميل التهمة لإيدلين بسبب حكم البراءة الصادر من معبد تاتنانين العهد، لجأت ريفينانت إلى خيار آخر: استحضار وجود التنين الأسود، المجهول للكثيرين، وإرفاقه بادعاء أنه سليل بيغادراسيل لتبث الخوف في القلوب.
“…..من يدري؟ ربما لم تحتج سوى كبش فداء ثالث. فمعبد تنانين العهد، الذي أعلن براءة إيدلين، أعظم من أن تتمكن من المساس بهم.”
أطلق كارل هذه المرة أيضًا همهمةً قصيرة، رافعًا حاجبيه قليلًا. و تمتم بعد صمت طويل،
“هكذا إذاً..…”
لكن صوته بدا خاليًا من أي اقتناع، وكأنه لا يصدق فعلًا.
هل كان ذلك مجرد وهم؟
أخذت سيان تراقب تعابيره بحذر.
هل كان تمثيلها مصطنعًا إلى هذا الحد؟ أم أن ادعاء الجهل بأن الأمر لا تعلمه سوى ريفينانت بدا مريبًا بالفعل؟
كان ذلك الإقرار المتردد، الذي يوحي بأن كارل لمح خيطًا خفيًا، يزعجها ويثير ضيقها بلا مبرر. بل إن النظرات الجانبية التي كان يلقيها بتوتر صارت بدورها مثيرةً للشك.
وفجأة، التقت عيناها بعيني كارل. في العربة الضيقة التي تهتز باهتزاز الطريق، وقد جلس الاثنان متقابلين على مسافة ضيقة، حتى إن حركةً بسيطة كانت تكفي لتصطدم ركبتهما.
وكان في بريق تلك العينين الزرقاوتين المخضرتين شيءٌ غامض. هل كان هذا مجرد وهم جديد صنعه توترها؟
انهمكت سيان في حيرتها، و جفّ حلقها فابتلعت ريقها بصعوبة.
حينها باغتها كاول بابتسامةٍ رقيقة ارتسمت على ملامحه الهادئة، وكأنها خرجت فجأة من العدم.
“أعلم أن الأمر مفاجئ…..لكن”
جاء صوته خافتًا، وكأنه يقرأ اضطراب سيان العميق.
“نحن وحدنا هنا…..هلا تسمحين لي أن أمسك بيدكِ قليلًا؟”
فرمشت سيان بعينيه، مرتبكة.
“…..هكذا فجأة؟”
صحيح أنه قال بنفسه أن الأمر مفاجئ، لكن حقًا كان هذا التصرف بلا أي تمهيد.
قبل أن تتمكن سيان من الإجابة، كان كارل قد مد يده بالفعل وكأنه حصل على إذن مسبق. فنظرت سيان للحظة إلى تلك اليد الممدودة في الفراغ، ثم انفلتت منها ضحكةٌ قصيرة بلا وعي.
“ما الذي يجعلكَ تتردد هكذا؟ في المعبد سابقًا كنت تمسك بي بلا مقدمات…..وحتى تبادلنا القبل.”
“هاكَ يدي…..أتريد قدمي أيضًا؟”
قبل أن يتمادى كارل في كلامه، بادرته سيان فألقت بيدها فوق راحة يده.
“سأكتفي باليدين.”
ثم انفجر كارل بضحكةٍ مكتومة.
وما إن لامست بشرته بشرتها، حتى شدّ قبضته بقوة.
أصابعه الطويلة أحكمت الإمساك حتى كاد يعصر مفاصل سيان ألمًا، لكنها كانت دافئة وهي تطوق يدها بالكامل.
كان الفارق بين جسديهما طبيعيًا، ومع ذلك شعرت سيان بشيء غريب وهي تلاحظ كيف تمسك يد كارل يدها الصغيرة كلها.
“لكن…..حقًا، ما الداعي لهذا؟ لماذا تمسك بيدي أصلًا؟”
“فقط…..بلا سبب.”
أتريد قتلي من النبض؟
بينما غمرتها الفكرة، أطلق كارل ضحكةً قصيرة هادئة.
“أهذه الأمور البسيطة تحتاج إلى مبرر؟”
“لا…..ليس تمامًا، لكن..…”
تملكها حرجٌ مفاجئ فأشاحت بنظره.
ولسببٍ تجهله، مرّ في ذاكرتها فجأةً ما سمعته عن ابنة الكونت هولاند.
“قيل أنه التقاها ثلاث مرات فقط، ومع ذلك انتشرت الأقاويل عن زواجهما المحتمل…..”
لماذا تذكّرت ذلك الآن؟ بل وبدأت تتساءل عما جرى في تلك اللقاءات الثلاثة.
هل كان مجرد لقاء عابر حقًا، أم أن الأمر تجاوز ذلك حتى انتشرت اشاعات الزواج؟
“…..؟ لماذا تحدّقين بي هكذا؟”
“لا شيء..…”
“أيعجبكِ الأمر إلى هذا الحد؟”
ابتسم كارل بمكر، و ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ جانبية.
“قلت لكَ أنه ليس كذلك.”
هبط صوتها فجأة، ومع انخفاضه تحوّل بريق عيني سيان الخجول إلى نظرة باردة، فأخذت ملامح كارل تتبدل متفاجئًا.
“إن لم يكن كذلك، فلماذا كل هذه البرودة؟”
“…….“
كادت الكلمات تفلت منها، هلكنتتفعلالأمرنفسهمعابنةالكونتهولاندأوبالاند؟
لكنها ابتلعتها في اللحظة الأخيرة، ثم أسرعت بتعديل نبرتها.
“على كل حال…..يدكَ كبيرةٌ حقًا.”
“أليست يداكِ أنتِ صغيرة؟”
أهكذاهوالأمر؟
أمالت سيان رأسها قليلًا دون تفكير.
“الآن بعد أن أفكر، رأيتكِ تحمل سيفًا، لكنني لم أشاهدكِ تستخدمه ولو مرة. كيف يمكن ليد صغيرة كهذه أن..…”
أنتمسكسيفًا؟ كان على وشك قولها، لكن فجأة استعاد كارل ذكرى تلك اللكمة الموجعة التي تلقاها يومًا من قبضتها الصغيرة. عندها أدرك أن الحجم ليس مقياسًا للحكم.
“لم تتح لي الفرصة لأُظهر مهاراتي فحسب، لكنني أُجيد القتال.”
“أوه…..أجل، كنت أحاول تقبّل ذلك..…”
هز كارل رأسه وهو يطلق أنينًا خافتًا، مستحضرًا تلك القوة التي تفوق معظم الرجال.
“يداكِ أخشن مما توقعت.”
ثم مرّر كفه على راحة يدها بلمسة أخيرة، قبل أن يحررها.
كانت تلك اللمسة تحمل معنى خفيًا، لكنها لم تثر فيه قشعريرةً ولا نفورًا.
“هل خيّبت خشونتها أملكَ؟”
تساءلت سيان دون اكتراث، متسائلةً عن مغزى ذلك. أما كارل فاكتفى بابتسامة صغيرة بدلًا من الإجابة.
وبلا كلمة أخرى، حوّل بصره إلى ما وراء نافذة العربة.
لم يكن في سلوكه ما يثير الريبة، ومع ذلك تسلّل إلى قلب سيان شعورٌ بعدم ارتياح، فظلت تحدّق في ملامحه الجانبية التي يغمرها الضوء.
هل كان هذا القلق الذي أشعلته أكاذيب ريفينانت؟ أم أن قلبها لم يهدأ رغم كل شيء؟
أمامه وجه كارل المنحوت الذي اعتادته منذ زمن طويل، ومع ذلك، راودها وهم بأن ملامحه ستتلاشى من بين يديها إن حاولت لمسها، فشعرت بخوف غامض لا ينتهي.
__________________
ياخي ضمها 😔🫂
كله من اهلها الحمير الحين صارت خايفه يدرون ان تنينها اسود مع انه طبيعي وحليو😔
المهم كارل هنا يضحك شكله كان حايف تتهاوش سيان مع ريفينانت اكثر من خوفه من الحكي😭
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات